على هامش محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا ينظر العالم بعيون مترقبة نحو تركيا طيلة ساعات .. البعض يحبس أنفاسه ، والبعض متحمس . صوت من هنا يستبق الأحداث فيقول أصحابه " وداعا أردوغان ! " و صوت من هناك ينفي أصحابه هذه الشائعة و يطمئن بسلامة الرئيس و الحكومة و إحباط الانقلاب . فلماذا هذا الاختلاف و الخلاف حول تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية ؟ لماذا لا يجمع الناس حول شخصية رجب الطيب أردوغان ؟ أنا لا أكتب هذا المقال دفاعا عنه ولا دفاعا عن خصومه . إنما أريد تجاوز هذا الفكر السجالي .. فلطالما أثقل هذا الفكر العقل العربي .. بل طالت تداعياته الثقافة الإسلامية عموما. ولا يمكن تحقيق هذا التجاوز إلا بالارتقاء عن التعصب الإيديولوجي . و إن كانت المسألة لا تنحصر في التعصب الإيديولوجي بقدر ما تتجسد في سذاجة الفكر و سطحية الرؤية و التسرع في إصدار أحكام مسبقة . يتهم كثير من المراقبين نظام الحكم في تركيا بكونه يناصر الإرهابيين و ينشر التطرف الديني .. استنادا إلى أي نوع من الحجج أصدر هؤلاء هذه الأحكام ؟ أنا شخصيا لا أعرف .. وأرجو من مؤيدي هذا الرأي أن يفيدوني بهذه الحجح الخفية . و يأتي آخرون ليقولوا إن النظام التركي أبعد ما يكون عن الإسلام مستندين في قولهم هذا إلى مظاهر العلمانية السائدة في تركيا الحديثة . ولكن هل تكفي هذه الأدلة للحكم على تركيا بالبعد عن الإسلام ؟ ألا نجد في بلدان عربية وإسلامية بعض تلك المظاهر سواء في العلن أم في الخفاء ؟ كثر الجدل حول تركيا .. و احتد هذا الجدل حين تعلق بشخصية رجب الطيب أردوغان .. و من حق كل شخص أن يحمي نفسه من التورط في الحكم المسبق ولا يتم له ذلك إلا بالبحث عن الحقيقة أو ما يقربه من الحقيقة . و في خضم هذا البحث نتساءل لماذا هذا التناقض بين الناس في وجهات نظرهم ؟ إلى الحد الذي يصعب فيه الوصول إلى رأي موضوعي صائب . من الطبيعي أن تتأثر وجهة نظرنا بخلفياتنا الفكرية و اتجاهاتنا السياسية ولكن يتجاوز الأمر الحد المعقول عندما ننظر للمسألة بأسلوب شخصاني .. فنحصر الحقيقة في هذا الشخص أو ذاك . و تزداد حيرتنا عندما نتساءل عن مشكلة الرأي العام مع نظام الحكم في تركيا . أنا شخصيا لا أعرف أين هي المشكلة بالضبط . هل لأنه نظام إسلامي ؟ هل لأنه نظام مازال يقدس الموروث العلماني ؟ هل لأن تركيا حققت قوة اقتصادية في عهدها الحديث تحت حكم حزب العدالة والتنمية ؟ هل تعود المشكلة إلى العثمانيين و تاريخهم مع الشعوب العربية ؟ هل فعلا تتآمر تركيا ضد الشعوب العربية و تخدم مصلحة الغرب ؟ هل مازال المواطن العربي لم يشف بعد من عقدة الاستعمار فيتوجس خيفة من تركيا تعود قوة استعمارية من جديد ؟ و يحيطها الشك والريبة في أنها تتآمر مع القوى الكبرى ! في حقيقة الأمر أنا لا أرى سبيلا إلى معرفة حقيقة الأمر .. ! ولهذا أرجع المسألة إلى حالة من الفوضى تسود في الساحة العالمية عموما و العربية الإسلامية خصوصا. يمكن اختزال عبارة حالة من الفوضى في كلمة " الفتنة " ، نعم نحن نعيش عصر الفتن بامتياز . أصبح من الصعب أن تجد عددا كافيا من الناس يجمعون على شخص معين أو ظاهرة معينة أو حكم ما . والأغرب من ذلك أن الشخص هو نفسه .. فكره هو نفسه .. سلوكه هو نفسه .. حزبه و سياسته كذلك .. ولكن تجد الأحكام عليه تختلف إلى حد التناقض .. هذا يتهمه بالتأسلم إلى حد التطرف .. وهذا يتهمه بالعلمانية إلى حد التآمر على الدين وعلى الهوية وعلى الأمة ... ! والأشد غرابة أن كلا الفريقين يستند إلى نفس الحجة .. فكيف تكون الحجة ذاتها تفضي إلى حكمين متناقضين ؟ ما يتداول من معلومات حول نظام الحكم في تركيا قد بلغ الجميع .. فالجميع يعرف أن السلطة السياسية في تركيا تولي اهتماما بالمقدسات الإسلامية مثل المساجد و المناسبات الدينية .. إلى حد إحياء الفكر الصوفي بإشراف رسمي .. كما يعلم جميع الناس الجهود التي يبذلها أردوغان في التخفيف من الإرث العلماني الذي أرساه كمال أتاتورك وما يسعى إليه حزب العدالة والتنمية من تعديل القوانين بالشكل الذي يتناسب أكثر مع تعاليم الإسلام. وكثيرا ما تنقل الصحف تصريحات عن أردوغان يعلن فيها صراحة ميوله الدينية إذ يقول في ما يقول : " كل شبر من الأرض يرفع فيه الأذان هو وطني " . فما حقيقة هذا الرجل ؟ وإلى أي حد نستطيع الحكم عليه حكما عادلا بعيدا عن المرجعيات السياسية التي تسيطر على تفكيرنا ؟ إلى أن ندرك الحقيقة في الإجابة على هذا السؤال نختم بالقول إن هذه المحاولة للانقلاب التي حدثت يوم أمس في تركيا فرح لها الإرهابيون المتطرفون كما فرح لها اليساريون العلمانيون في البلاد العربية. ما تفسير هذا ؟ لا أدري . ولكني أدري مثلما يدري الجميع أن هذه المحاولة قد آلت إلى الفشل . وأن حزب العدالة والتنمية مازال يحتفظ بقوته . كما أدري أن الشعب التركي خرج ليناصر هذا الحزب واستجاب لدعوة أردوغان بالخروج إلى الشارع .. ولم يحدث هذا الشعب فوضى ولا انفلات أمني ولا نهب أو تحرش .. مثلما حدث في الثورات العربية .. وإنما انتظم في مظاهرة شعبية أخلاقية واعية وشجاعة أمام سطوة الجيش .. وأطاح بالانقلاب ليدافع عن حزب ينتهج سياسة المبادئ لا المصالح . ***************** عابرة سبيل