مذكرات تشرشل - عبد الكريم ساورة
---------------------------------------- لازالت أذكر ذلك اليوم، لن أنساه أبدا، توجهت في الصباح الباكر رفقة بعد الأصدقاء إلى مدينة الدارالبيضاء، حيث يقام أنداك المعرض الدولي للكتاب، لكن لم يكن هدفي في هذه الجوله البحث عن الكتب كما يحدث معي كل سنة، هذه المرة كانت الزيارة البحث عن ناشر " لنصوصي التي كتبتها في حلقات وكنت قد نشرتها في العديد من المواقع العربية والدولية وكذا بعض الجرائد الورقية والتي بلغت 20 حلقة من " مذكرات كاتب فاشل " الجزء الأول، وأغلب الحلقات تسلط الضوء على سيرة كاتب والذي قفز بسرعة الضوء وصنع له موقعا في سلم كُتابِ الوطن العربي عن طريق المحسبوبية والعلاقات المشبوهة، وخدمة السلطة في مشاريعها التسلطية، باختصار سيرة كاتب للأدب السوقي وما يترتب عن ذلك في قتل الذوق العام وإشغال الجمهور بمواضيع تافهة على حساب القضايا الحقيقية. تجولت ببين العارضين للكتب، وكان لا فتا للإنتباه غياب دور النشر السورية والتي كانت تحمل كل سنة الدرر من الكتب خصوصا في مجال الأدب والفكر، يا لغرابة الأيام ، بلد كان يُصَدِرُ الفكر والعطور والتقاليد العريقة، أصبح يُصدِرُ المتسولين، والمعطوبين والهاربين من الموت بسب نزوة حاكم ، يفكر في كرسي من الذهب على حساب حياة شعب كامل، واستعمل شعار يرفعه كل حكام العرب " يا إما أنا أو الطوفان ". وهاهي أمكنة الناشرين السوريين ظلت فارغة مثل جسد أمرأة جميلة بدون رأس . والأخطر في ذلك، أن هذا الغياب تعدى مجال الأدب والفكر ليبلغ مجالات أخرى متعددة كانت سوريا رائدة في صناعتها كصناعة التلفزيون من خلال الأشرطة الدرامية الكبيرة والتي حركت كل الوجدان العربي من خلال عناوينها ذات الصبغة القومية. وأول ما يشد انتباه الزائر وهو يقوم بجولة صغيرة بين صفوف العارضين، وهو الإنتشار المهول لللكتب المدرسية المرتفعة الثمن والفارغة المحتوى، وكتب الطبخ على مختلف الأحجام، غريب هذا الأمر، الوطن العربي أصبح لايفكر سوى في بطنه، نحن المغاربة لانتحدث سوى في اختراع وحيد وأوحد هو " اختراع الأكلات الشهية " تحولنا بقدرة ما إلى مجتمع استهلاكي بامتياز، يتحدث عن الأكل كموضوع يسبق كل المواضيع التي تهم الشأن العمومي، وهذا أكبر خطر على مجتمع عندما يصبح يفكر من خلال بطنه. أمر غريب يشد كذلك الزائر هو الإنزال المهول " للكتب الدينية " وأكثر العناوين إثارة ما يتعلق " بعداب القبر" " وعقاب الآخرة " " والحصن الحصين " والعديد من الأقراص عليها مواعظ الدعاة الجدد في العديد من القضايا ، والمثير في الأمر أن أغلب هذه العناوين تجد على أغلفتها صورا للأفاعي بالحجم الكبير ووجوه مفزعة، وهو ما يجعلني أتساءل " لماذا العديد من الكتب " الدينية " وهذه التسجيلات تركز على عنصري الرعب والترهيب في التعاطي مع المسلمين ؟ لا أعرف لماذا يتم تغيب عنصر أساسي وجوهري في ديننا الحنيف، وهو عنصر الجمال، إن الدين الإسلامي دين مبني على عنصري الجمال والفرح وليس القبح والخوف، نحتاج إلى وقت طويل للتخلص من عقدة الخوف الذي يسكننا، علينا أن نصفي تاريخ القبح من نصوصنا ومن كتبنا المفروضة علينا فرضا. الوقت يمر بسرعة، ليس هناك أي شيء يغريك بالبقاء، بحث عن دور النشر العربية ، كلما سألت واحدة منها واقترحت عليها التكلف بطبع الكتاب أجد الساهرين عليها متدمرين ويشتكون من ضعف القراءة و كذا المنافسة الشرسة للهواتف الذكية للكتاب، قات لي ناشرة لبنانية بنبرة محزنة : صدقني أنتم في المغرب لازلتم تشترون الكتب رغم ماتقولون عن المغاربة أنهم شعب غير قارئ، أما عندنا في لبنان فلا أحد أصبح يلتفت للكتاب بالمرة، كل واحد يمسك هاتفه الذكي ويغيب عن العالم من حوله ، وأضافت وقلق كبير يبدو من عينيها : صدقني ياولدي العالم يتغير من حولنا ، العديد من الأشياء الجميلة بدأت تنقرض من وطننا العربي، والكتاب هو الآخر من الأشياء الجميلة التي ستعرف هذه اللوثة المميتة في القادم من الأيام. حقيقية أصبت بالذعر والارتياب، وبدأت مجموعة من الأسئلة تراودني بقوة، إذ كيف للعالم أن يسير بدون كتاب ؟ كيف يمكن للشعوب أن تقول كلماتها بدون ورق ؟ ألم تكن أجمل رسائل الحب قد سطرت على الورق ؟ أليس العلم ينقش على الورق ؟ أليس كل العقود والحروب تسجل غلى جلالة الورق ؟ كان المفكر الفرنسي ريجيس دوبري وفيا ومعترفا بقدسيته عندما أشاد به وبالأدوار العظيمة التي قام بها في تاريخ الأمم، من خلال نص جميل بعنوان " تحية للورق ". اتصلت في الفور بدور النشر الأردنية والمصرية والمغربية، أعجبهم عنوان الكتاب، وافقوا على نشره بسرعة ولكن بشرط أن يسلموني 20 نسخة ويستفيدون هم من الكتاب 3 سنوات، ليس هناك أبشع من دور النشر بالوطن العربي، يريدون الزبدة وزبدة الزبدة كما يقول المثل الفرنسي، ولكن الذنب ليس ذنبهم، الذنب كله على الدولة التي لاتعطي قيمة لكتابها ومايكتبون، ولاتفكر أصلا في الاستثمار في الشق الثقافي ، أليس رئيس الحكومة الإسلامي المعزول عبدالإله بن كيران قال بعظمة لسانه وأمام صحافة العالم " نحن لسنا في حاجة إلى شعراء وفنانين وفلاسفة نحن في حاجة إلى خبراء في التنمية "، نسي الجاهل أن البوابة الحقيقة لتنمية الشعوب هي الثقافة، والكاتب هو الرسول الحقيقي في تبليغها إلى عقول وقلوب الجماهير. على كل كيف سيتوصل سياسي في طينته يعتمد على كتب " عذاب القبر " إلى هذه الحقيقة ؟ في المساء، وأنا أتجول بين العارضين للكتب، استوقفني أحد الصحافيين بإحدى القنوات التلفزية المغاربية، وطلب مني كزائر للمعرض أن أعطي بعض الانطباعات عن المعرض الدولي في نسخته (...) ، قلت ماكان يحز في نفسي بدون لف ولا دوران، وأضفت "أن المعرض مجرد واجهة من واجهات السياحة لايختلف عن المهرجانات التي تنظم طيلة السنة ،و الثقافة لاتصنع في المعارض وإنما تصنع في المدارس الحقيقية " مثل الحياة توجد في مكان آخر على تعبير ميلان كونديرة في روايته الجميلة. منظر استفزني كثيرا، لازال عالقا بذهني إلى يومنا هذا، مجموعة من الشعراء يقرؤون في دواوين شعرهم أو قصصهم في إطار " قراءة لمنجز الكاتب " يتحلق حولهم بعض الأفراد لا يتعدى عددهم أربعة إلى خمسة، الزائرون يمرون من أمامهم دون اكتراث وهم يتسولون عطفهم بالمكوث ولو دقيقتين، لمتابعة غزواتهم الشعرية، وضع يثير الشفقة والاشمئزاز، عن حال بعض " الشعراء " الذين يبحثون عن مكانة ولقب ووضع اعتباري في عالم الأدب ولو على حساب خدش صورتهم. انسحبت بسرعة واتجهت، صوب جناح الأفارقة، فارغ بكامله، لا أحد يهتم بالثقافة الإفريقية، ولا أحد يعرف شيئا عن الأدب الأفريقي، المغاربة يحاولون الانسلاخ بالمرة عن افريقيا، إنها مصدر الجوع والأوبئة والحروب هذا ماتقدمه القنوات الدولية، لكن لا أحد سأل يوما من المسؤول عن هذه الوضعية ؟ ولا أحد فكر يوما وقال لماذا لا نقرأ الشعر والقصص الإفريقي ؟ لماذا كُتُبُ إفريقيا لاتنزل إلى السوق ؟ ولماذا لايتم ترجمة المنجز الإفريقي ؟ لماذا هذا التغييب الممنهج لهذا الإرث العظيم ؟ ربما قِبلة وعطور باريس لم تتركا لنا أي فرصة للإلتفات إلى جذورنا الحقيقية ..... أثار انتباهي، المجموعة الكاملة، للمسرحي الكبير وليام شكسبير، بإحدى الأجنحة المصرية، سألت العارض عن ثمنها ؟ فأجاب وهو في أوج الإنفعال قائلا : لايمككني أن أعود إلى مصر بكل هذه الكتب، البيع قليل جدا، سأ حدد لك ثمنا جد مناسب إذا أردت أن تشتري المجموعة كاملة، وأمام إلحاحه، وهي فرصة لي للإطلاع على هذا العظيم، فقد اشتريت منه المجموعة كاملة، وهي غنيمة لم تكن في الحسبان. شعرت بالرجل تغيرت ملامحه، وبدت علامات الانتشاء كأنه فاز في مسابقة ، ومن شدة فرحه سلمني كتاب" مذكرات تشرشل " في جزأين بالمجان . بعد شهر على عودتي من المعرض، بدأت في قراءة " مذكرات تشرشل " وكم كانت مفاجأتي كبيرة عندما اكتشفت أن الرجل كان جد متواضع في دراسته، وانسحب من الدراسة وهو لازال في الأقسام الثانوية، ليلتحق بالمدرسة الحربية الملكية في ساهندهيرست وتخرج منها عام 1894،كانت مهمته الأولى مع الجيش الاسباني في كوبا الذي كان يقاتل الكوبيين، تم أرسل إلى الهند حيث قضى مدة طويلة، كانت كافية لقيامه بنوع من التربية والتثقيف الذاتيين، فقد كانت أمه ترسل له صناديق من الكتب، وكان يطالعها كلها، وقد تأثر بالمؤرخين غيبون وماكولي وبنظرية داروين في النشوء والارتقاء. عام 1898 نشر كتابه الأول " قصة قوات سهل مالاكاند " وكان بمثابة خلاصة تجربته في الهند، نقل بعد ذلك إلى السودان وإلى جنوب افريقيا، حيث قام بوظيفته كجندي وبعمل آخر هو مراسل صحيفة مورننغ بوست. والمثير في المذكرات كما يحكي تشرشل، أنه كان كلما غادر منصب الوزارة حيث تقلد العديد من المناصب الوزارية، كان يجلس عاطلا عن العمل، وأول من كان ينقذه من الجوع والعطالة هما الكتب، فقد كان يعيش من خلال ما يصدره من كتب، ومن مقالات متعددة كان ينشرها بالصحف البريطانية. في الحقيقة عندما أنهيت الجزء الأول من المذكرات، فهمت جيدا أن أزمة الوطن العربي وتخلف شعوبها تكمن في خيانته العظمى للكتاب، وفهمت جيدا أن بريطانيا التي لا تغيب فيها الشمس، لم تختر "ونستون تشرشل " القائد الكبير عبثا ليدافع عنها من وحشية هتلر، مستعينا بمقولته الشهيرة : " إن الإجابة الوحيدة على الهزيمة هو الإنتصار " إلا أن سلاحه الوحيد لتحقيق ذلك هو المعرفة، هوالكتاب، صديقه الوفي
كتبت في 8 رمضان.