تقديم ديوان " أشرعة في وجه الرّيح " للشّاعر: الأستاذ: شكري مسعي
بقلم صفيّة قم بن عبد الجليل
--------------------------------------
ـ 1 ـ التّقديم الماديّ: هو ديوان للأستاذ شكري مسعي، صدر سنة 2015 عن دار البدويّ للنّشر والتّوزيع. عدد صفحاته 150 ويضمّ 29 تسعا وعشرين قصيدة تتفاوت طولا وإن كان جلّها من القصائد الطّوال. قدّم له الشّاعر النّاقد صلاح داود تقديما مستفيضا في 17 صفحة، من الصّفحة السّابعة إلى الثالثة والعشرين منه، وأهداه الشّاعر جملةً فتفصيلا إلى: " كلّ الحروف النابضة التي تتسلّق جدار القلب، إلى قصيدة تبحث عنّي وتشقى كي تصل إلى كوني... إلى هؤلاء الّذين أدمى الوهن أرواحهم، إلى عمّال المناجم وكلّ العمّال الّذين ينسجون من الفجر أرديّة، ومن اللّيل ستارا لأوجاعهم ليعودوا ببعض الخبز والفرح وكثير من الأمل، إلى كلّ أهلي في مدينة المناجم، المتلوّي العزيزة." كما خصّ بعض أحبّته داخل الدّيوان ببعض قصائده ك: ـ قصيدة فراق الّتي أهداها أمّه وكلّ الأمّهات اللّائي غادرننا، ص 25 ـ 31. ـ قصيدة من وحي سنوات الجمر مهداة إلى صديقه الشّاعر الإعلاميّ، كمال حمدي، ص85 ـ 91. ـ قصيدة مريم العمر، مهداة إلى ابنته مريم في عيد ميلادها الثّالث عشر ـ ص 92 ـ 94. ـ قصيدة لا.. لم يغب.. مهداة إلى روح الشّاعر الصّديق محمّد شكري الميعادي، رحمه الله. ص 119 ـ 123.
ـ 2 ـ التقديم المعنويّ: العتبات: أـ الغلاف: " أشرعة في وجه الرّيح " رُسمت بلونين فاتحين، الأبيض والأزرق يتخلّلهما اللّون البنّي الدّاكن الذي به رُسم الغلاف مع ألوان أشدّ قتامة منه كالبنّيّ الدّاكن والرّماديّ والأسود. هذه الأشرعة المرسومة بالحروف تبدو مضيئة لأشرعةِ مركبِ صورةِ الغلافِ المراوِحة تدرّجا بين الألوان الدّاكنة عدا بعض نور خافت يتراءى في عرض البحر باللّون البرتقاليّ فالأصفر ليضيء بعضَ العتمة الغالبة على المشهد، خاصّة في أسفله حيث يرسو المركب أو يبحر، يضاف إلى ذلك تلك الخيوط السّوداء أو الحبال الممتدّة أو المتقاطعة الّتي قدّت من مسد الحلكة لتشيَ بقتامةٍ أشدَّ لا يُلطِّفُ من حدّتها غيرُ اسم الشّاعر شكري مسعي الّذي تصدّر أعلى الصفحة ومقدّمَتَها بلون زرقة البحر الصّافي: إنّه ربّان السّفينة الماهر الّذي سيبحر بأشرعته رغم العواصف والظلمة والأنواء إلى برّ الأمان. وإنّ غلاف الدّيوان ليدعم ما ذهبتُ إليه في تأويلي، إذ يطلّ علينا الشّاعر في كامل أناقته بنظراته الشّاخصة إلى أفق رحيب مضيء لينشدنا بعض ما تيسّر من القصيدة الّتي بها وسم الدّيوان وهي من المفاتيح الهامّة لولوج عالمه الشعريّ المتماوج، السّاكن حينا والمتلاطم أحيانا أخرى. ب ـ العنوان: أشرعة في وجه الرّيح: العنوان متماه مع صورة الغلاف، أو فلنقل إنّ الصّورة تجسّد دلالة العنوان. ورد العنوان جملة اسميّة تتكون من مبتدإ وخبر، إلّا أنّ المبتدأ وقد لزم مكانه الأصليّ: بداية الجملة ورد نكرة: أشرعة والقاعدة النحويّة تقتضي أن يتأخّر المبتدأ في هذه الحالة، فيصبح التركيب: "في وجه الرّيح أشرعة" وهذا ما يدعونا إلى افتراض وقوع حذف يُفهم من السّياق، كأن نقول مثلا: هي أو هذه أو تلك أشرعة في وجه الرّيح، فيضحي المبتدأ تركيبا بدليّا أو معرّفا باسم الإشارة المناسب. * دلالة العنوان: هو اختزال موجز بليغ لكلّ المعاني والصّور والقضايا المطّردة في قصائد الدّيوان التسع والعشرين. فالأشرعة ومثلها الشُّرُعُ وهي جمع شِراع وهو كلّ ما يُشْرَعُ أي يُنْصَبُ ويُرْفَع مثل الملاءة الواسعة يُشْرَع ويُنْصَب على السفينة فتهبّ فيه الرّياح فتمضي بالسّفينة. والشِّراع وجمعه أشرعة وشُرُع هو أيضا الوتر ما دام مشدودا والأشرعة مشتقّة من الفعل الثلاثيّ المجرّد شَرَعَ يَشْرَعُ شَرْعًا الّذي من معانيه شَرَعَ البيتُ صار على طريق نافذ وشَرَعَ البابَ على الطَّريق أنفذه إليه وشَرَعَ شَرْعًا وشُرُوعًا في الماء دخل فيه أو شرب بكفّيه منه وشَرَعَ يَشْرَعُ شَرْعًا وشُرُوعًا الرِّمَاحَ فشَرَعَتْ: سدّدها وصوّبها فتسدّدت وتصوّبت. ومزيد شرع أَشْرَعَ بابَه إلى أو على الطريق: فتحه. وأَشْرَع عليه الرمحَ سدّده إليه. إنّ أشرعة شكري مسعي تنفتح على كلّ ما ذكرتُ من دلالات لغويّة وتتجاوزها مجازا وإيحاء وانزياحا ورمزا... وهذه الأشرعة المشدودة المنصوبة المرفوعة النّافذة الفاتحة المصوَّبة إنّما يُرسلها الشّاعر في وجه الرّيح، فأيّ وجه للرّيح هذا وأيّ ريح يعني؟ الوجه لغة مصدر مشتقّ من فعل وجَه يجِه وهو الجهة والقصد، ووجهُ الكلام: السبيل المقصود به، ووجهُ الثّوب ونحوه: مستقبله ووَجَّهَ الشيءَ: أداره إلى وِجهة مّا، ووجّه القومُ الطريقَ: سلكوه وصيّروا أثَرَه بيّنا، والمطرُ الأرضَ قشر وجهها وأثّر فيها وصيّرها وجها واحدا، ووجّهت الريحُ الحصى: ساقتها. وواجهه وِجَاها ومُواجَهَةً: قابله وجها لوجه، وتَوَجَّهَ الجيشُ: انهزم. إنّ اصطفاء الشّاعر مكوّنات عنوان الدّيوان، اشتقاقا ونحوا وصرفا وتركيبا ليس اعتباطا إذن، وهو أستاذ اللّغة العربيّة وآدابِها. فالعنوان ـ وهو العتبة الأولى لولوج عالمه الشعريّ ـ يحيلنا إذن إلى البحث عن هذه الأشرعة ـ وهي جمع قلّة على وزن أَفْعِلَة ـ الّتي بها حدّد مقصده وسبيله في ذات وجهة الرّيح حينا وقبالتها مواجهة ليهزمها. وفي كلتا الحالتين فإنّ الشّاعر بأشرعته المعدودة هو الربّان الحاذق الّذي يروم الحركةَ والفعلَ لتغيير ما لا يرضيه؛ وقد توسّل البحرَ والمراكبَ والأشرعةَ والرّيحَ أو ما دلّ عليها من صفات لبلوغ ما يطمح إلى تحقيقه. 3 ـ المتـن: تطفح كلُّ القصائد التسعَ والعشرين بالشّكوى والمواجع والأنين... وقد حشد الشّاعر للتعبير عن ذلك معجما ثريّا جامعا مانعا فتدفّق الألم أنهارا، منذ القصيدة الأولى التي وسمها ب" فراق" وأهداها روح والدته ـ رحمها الله، وكلّ الأمّهات اللّائي غادرننا، من ص 25 إلى ص 31 ـ 7 صفحات ـ وكأنّ هذه الصفحاتِ السبعَ لم تَشْفِ غليله فأردفها بقصائد ثلاثٍ أخرى: يا أمّ معذرة وهذا البلد ونواقيس الرّحيل وشحنها شحنا بكلّ الأشجان والأحزان والفواجع. وقد عمدتُ إلى تتبّع بعضها، أُنموذجا لعديد القصائد الأخرى. يقول مثلا: سحّ دمعُ القلب والقلبُ عليلْ / ليس غير الشوق والذكرى / وجمر الحزن/ في الليل الطويلْ/ إيه أمّي/خيّم الحزنُ/ وأذوى مهجتي/ تُهتُ يا أمّي/ وأفناني العويلْ... إيه أمّي ضاع من /دربي السّبيلْ/... تلك مَنْ ربّتني رغم/ الفقر والأوجاع والآلام/ كي أحيا وأكبُرْ/... صرتُ يا أمّي وحيدا / أشتكي حزني المكتَّمْ /أشرب الأوجاع آلاما / وعلقمْ صرت وحدي/ أسأل الأبواب والبيتَ/ المهدَّمْ... إييييه أمّي/ كان حلما يعصِر القلب/ المحطَّمْ." أمّا في القصيد الثّاني: "يا أمّ معذرة" فهو ينتقل بشكواه وتذمّرِه الذّاتي ليُتْم باغته إلى الشكوى من أوضاع عامّة، فيستبدل ضمير الأنا بضمير نحن، فيقول: " يا أمّ معذرة زلّت بنا القدمُ \ضاع المدى ورجوم العسف تحتدم \ ماذا أقول وضوء الفجر منطفئ/ الليل مختنق والفجر محتضَر والظلم منتشر والشرّ منتقم... تاهت قوافلنا نحيا بلا أمل نشقى بلا هدف نقتات من كَدَر والغبن يحتكم \ ابليس يحكمنا بالسيف يقطعنا والموت يسكننا والنّفي والعدم \... نحن إلى ضنك والشرّ ينسفنا والقهر والسّقم \ صرنا إلى عدم تاهت قوافلنا من عسف من ظلموا يجتاحهم ورم..." ويشتدّ الألم والضّنك بالشّاعر وهو يرى ما حلّ بهذا البلد من تشويه ودمار، فيقول واصفا تتار هذا البلد: "هم كلّ يوم عابرون فوق أهداب البلد من ضفّة الحقّ الذّبيح تورّمت أحمالهم تنأى بأثقال الحسد..." ولا يسعه إلّا أن ينتصب في وجوههم مندّدا متوعّدا في حماس: " تبّا لمن باعوا البلدْ\ تبّا لمن خانوا البلد\هم ليسوا إلّا طيفَ وهم\ أو جذام أو رمد؛" ليختم بحكمة مشحونةٍ هجاءً: "ابن الضّباع يظلّ ضبعا وإن تشبّه بالأسد." وفي خضم هذه الأوضاع المتردّية وهذا السّقوط الحضاريّ المدوّي يصغي الشّاعر بكلّ حسرة وضنى إلى دقّات نواقيس الرّحيل، ولا يسعه، بكلّ ما أوتي من حسّ شفيف إلّا أن يرسم لنا بالصّوت والصّورة والألوان هذا المأتم الغارق في الحزن والسّواد، يقول: دقّت نواقيس الرّحيل\ ترجّل الوجع \ وضوء الفجر تاه في تعاريج \ العويل..\ ضجّ الأنين.. مرّت خيول الوهم \ تلهث كالسّكارى \ في انعراجات الوساوس والمخاوف \ نقتات من وجع الضّمير من \شحوب الرّوح\ في نبض الصّهيل \ والليل ينبئ \ بالتملّق والتنطّع واحتباس النّور \ في الدّرب الطويل \النجم ينزع جبّة الوهج المعرّش \في شعاب الأفق.. والفجر ينسج من بقايا الليل \أبراد السّبيل \ وأنا هنا \كالزّورق المنسيّ مسّته العواصف \ جاثما في الرّمل مبتور المجاذف \ لا أنيس ولا خليل..\ أحتاج أن أبكي وأن يبكي معي نايي الحزين \ أحتاج أن أحكي لرمل البحر عن سرّي الدّفين \ عن قصّة الملّاح أعياه الرّحيل وهذا " الملّاح الّذي أعياه الرّحيل" إلى الضفّة الأخرى ـ وقد عبّ من أقداح أصناف الأحزان حتّى ثمل ـ يشتدّ إحساسه بالتّيه والغربة والخواء والعقم، فإذا به كالفينق يحترق بكلّ هذه المواجع والفواجع ثمّ من رماده ينتفض ليُبعَثَ من جديد يسعى في "زمن عقيم مبتور الرّجاء، قفْر، لا يفتأ يرتق بالأماني خيبة الزمن الضرير ويقتات من ورم المواجع في قلوب البائسين ومن حبّة العرق المجمّد في جباه الكادحين من شهقة الفجر الغرير..." هذا الملّاح المرهق حدّ اليأس كم طال به انتظار الرّبيع دون أن يأتيَ، كما طال بغيره من أبناء قريته خاصّة وأبناءِ الوطن المضطَهَدين عامّة. وكيف يأتي في زمن رديء عنيد عتيّ فاض جحودا وخيانة وخوفا وأراجيف عتاة وقهرا ودما مسفوحا وعرقا ووهنا وسقما وأنينا وضنى ولظى...( يا منجم الأحزان، أنموذجا، ص 49 ـ 59 ) كلّ هذه الأسقام الّتي عدّدها الشّاعر وبثّها في كلّ القصائد حتّى لا تكاد قصيدة تخلو منها، أيّا كان موضوعها جعلت إحساس الشّاعر بالغربة عميقا: *الغربة: وللغربة مستويات عدّة: فمنها غربة الشّاعر في وطنه وبين قومه، يقول في قصيدة الغريب ص 64 : في بلدي\ لا أملك شيئا... \ لا أملك غيرَ الأحزان \ في بلدي أصبحتُ غريبا\ لا أعرف معنى الإنسان\... ويعلّل هذه الغربة بما جدّ في البلاد من عجائب وغرائب وطغيان... فيقول:"... في بلدي تنبت أحزاب\ تتناسل مثل الجرذان\ تتلوّن في اليوم مرارا\ وتجرّب كلّ الألوان\ وتفرّخ والعشّ خراب\ في بلدي غرائب وأحكام\ وعجائب كلّ الأزمان\ لا نعرف حقّا مَنْ نحن\ لا نعرف معنى الإنسان\ صرنا غرباء ولا ندري\ من نحن بوهم الأوطان\ صرنا نتسلّق أزمتنا\ ونمارس فنّ النّسيان." إنّ هذه الغربة الذّاتيّة والجماعيّة الّتي عبّر عنها الشّاعر بمختلف الصّور في جلّ قصائد الدّيوان تجعله تائها كمن يطلب المحال ولا يدركه: قصيد "ويكبر المحال" ص 110: "أتعلمين كيف صرنا نطلب المحال\ ونسأل الضّياء أن يعاشر الظّلام\ وتستحي النّساء من برودة الرّجال\ ويخجل الصّغار من تفاهة الكبار..." هذه المقابلة الحارقة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون تزيد وجع الغربة غوْرا فيضحي العمر سرابا وقد أمسى رعاتُنا.. حُماتُنا سماسرةً "وباعوا للغريب تبر أرضنا الحلال\ وأعدموا الشّهود"\ وتضحي هذه الغربة وجوديّة بامتياز إذ تكثر الأسئلة ولا يقين؛ بل إنّنا كثيرا ما نجد الشّاعر يطرح وابلا من الأسئلة ويجيب عنها بنفسه في مرارة من خبر البلاد والعباد فراعه هذا الخراب والدّمار. لا شيء سلِم من الغربة، فالشّعر غريب والعشق كسيح وقيس وليلى ما عاد بهما وهج الشوق: في قصيد "همس السّراب"، يقول: "ما عاد للعشق الكسيح خطى الوجود\ قيس مضى في دفقة الشّعر الغريب\ ليلاه كانت تسرج الأشعار خيلا من غزل\ ليلاك لا تهوى الغزل\ لا تحفظ الأشعار أو تُدمي المقل\ ليلاك لا تبكي غيابك إن هجرتَ\... ليلاك وارتها السّهوب\تاهت بأرض قلبها قفر يباب..." وبعد هذا التيه: تيه البلاد وضياع العباد وسراب العشق الضّرير... هل بقي في الحياة ما يدعو للحياة؟ يتساءل الشّاعر ويجيب إجابتين متضاربتين بحسب الحالة النفسيّة والشعريّة والمقام: ــ الإجابة الأولى: لم يبق غيرُ الرّحيل: الموت، وقصائد الديوان تعجّ بمعجم غنيّ يحيل على معنى العقم واللّاجدوى المؤدّيين إلى الفناء المادّي والمعنويّ: فالخيانة موت، ص138، وفناء الغرام موت، ص124 وتمزّق الحلم موت، ص122 وفراق الأحبّة: الأمّ والأصدقاء موت، ص119 ونضوب ماء القصيدة موت... وبذلك يضحي عالم الشّاعر الشعريّ موتا يحضن موتا، ص142 ويضجّ عويلا ونحيبا وينتظر كفنا ولحودا "وقبرا بظلمة العويل والنّحيب" ص117 فلا يرى له بدّا وشفاء غير أن يدعوَ الموت إليه دونما وجل، يقول ص 140: "شهدتُ بأنّ الموتَ يُبرئ علّتي * ويعفي دواء قد سقاه طبيب\ فيا موتُ زُرْ إنّي اكتفيتُ بتوبتي * وذنبي جميل قد محاه حبيبُ\ وإنّي إلى ربّي أعود منعّما * ألقى رضا الرّحمان فهو مُنيبُ" إلّا أنّ الشّاعر لا يلبث أن يستدرك أمره أمام هذه المرثيّة الفرديّة والجماعيّة للوجود وكأنّه يواسي نفسه ويجد معنى لهذا المصير الفاجع، فيقول ص118: "أحُلمُنا يموت يستبيحه الغروب؟\ يُذَبَّحُ ومن وريده يلَوَّن الغروب\ أتعلمين أيّ شيء يمنح الخلود\ يقيننا بأنّنا نموت في سجود\ للحظة تعيدنا إلى ذرى الشّرود\ إلى ضياعنا وشوقنا\ إلى الفنا الفريد..." إنّ لجوء الشّاعر اضطرارا إلى الموت في ساعات العتمة مردّه أساسا إلى خيبة أمله فيما ظنّه إكسيرَ الحياة: الشّعرَ والعشقَ، ص 127: "لا الشّعر يبرئ قلبك الصّادي إلى ماء الحياة\ لا العشق يمنحك الخلود\ طهّر فؤادك بالعذاب\ وأسرج قوافي البوح في كلّ القلوب." إلّا أنّ الشّاعر شكري مسعي، ككلّ الشّعراء لا يستقرّ على حال؛ فلئن كان هذا النَّفَس الحزين طاغيا على الدّيوان فإنّه لا يُعدَم من ومضات الأمل تشرق في سماء عديد القصائد فتنجلي العتمة ويضحي العشق معراج العبور إلى الضفّة الأخرى، بل هو الشّراع الأقوى في وجه الرّيح: *العشق ـ الشّراع: تغنّى الشّاعر بأيّام الشّباب، زمن العشق والأحلام والسّكر الحلال: ص 129:"... وانتشينا نرتق الأحلام همسا\ نلثم الأنغام نشتاق غنانا\ ننتشي حينا وأحيانا نذوب\ في عناق الأفق تحوينا سمانا\ كم كتبنا فوق أوراق التمنّي\ أغنيات الحبّ يتلوها حدانا\ في ربى العشّاق قد أنبتنا وشما\ منه للسمّار شهد في ربانا\ في عيون اللّيل أسرجنا نجوما\ واكتحلنا من سنا فجر سقانا\ كم سكرنا من شفاه البوح سرّا\ من خمور طعمها شهد شفانا\... وهذا العشق الّذي بطعم الشّهد والموشومُ في القلوب والشّافي من الأسقام... لئن أفل وولّى فهو لا يزال ماثلا بالذّاكرة حاضرا بالوجدان يتلمّظ الشّاعر حلاوته: "كان عشقا من عقيق من جمال\ كان حلما من ربيع قد حوانا." وهذا العشق لا يقتصر على مرحلة الشّباب فحسب، إذ نجد الشّاعر يخاطب الحبيبة، الأنثى مطلقا في بوح شفيف راق: " 66، 67: "وأورقتِ في خافقي كالنّجوم*بزهر الخدود وورد الجبين\ لكِ كلُّ عمري فمدّي خُطاكِ*إلى نبض نبضي ولا تتركيني\ وكوني شراعا لزورق عمري*إذا بعثرته رياح الظّنون" إنّ المرأة ـ الحبّ هي الملاذ والسّكينة والبرء والضّياء... بل هي شراع الشّاعر في وجه الرّياح العاتية المبعثِرة لأحلامه وانتظاراته. وهي أيضا الحضن الدّافئ المريح ومنبعُ وحي القصيد، شراعُه الثّاني للإسراء: وأنتِ الّتي تكتبيني قصيدا*شفيف التّثنّي شجيّ اللّحون\ ..أنام بعينيكِ طفلا غريرا*وتحرُسُني هفهفات الجفون..\ أجيء أرتّق حزني وجرحي*وأعلن فيك احتراف الجنون " إنّ المرأة هي الكفيلة بتضميد جرح الشّاعر، ذاك الملّاح الّذي أعياه الرّحيل فظلّ " كالزورق المنسيّ مصّته العواصف\ جاثما في الرّمل مبتور المجاذف" ليست " مجرّد أنثى\ تزهو.. تتغنّج.. تتجمّل.." بل هي من طراز سام: "أنت أنثى مختلفة\ سيّدة أسرار البحر\ أشرعة في وجه الرّيح\ أسطورة عشق أبديّ \ لا تخمد أبدا.. لا تأفل..." فلا غرابة إذن أن يختار الشّاعر عنوان ديوانه " أشرعة في وجه الرّيح "، والمرأة الحبيبة أبرزُ شراع وأصلبُه، به ينطلق نحو المدى وبه يحقّق المنى، فنجده يراوح بين الأسلوب الخبريّ الواصف وبين الأسلوب الإنشائيّ: "يا أنتِ يا امرأة السّحر\من عطرك فجري يتعطّر\ من شهد كلامك من نبضك\ من همس فؤادك من ذوْبك\ أنفاسُ فؤادي تتطهّر\ أهواكِ وأعشق دنياك\ وتنمّق كوني أنفاسُكِ\ يا امرأة في عمرها أحيا\ وأكون ربيعا يتكرّر" امرأة السّحر هذه المعجونة عشقا وعطرا وطهرا... لا تقتصر على الحبيبة الّتي تجعل حياة الشاعر ربيعا متجدّدا بل لها وجوه متعدّدة، فهي الأمّ والوطن والبنت والقصيدة: * الأمّ: لئن أورد الشّاعر ذكر أمّه بعد فراقها في مرثيّة طافحة بالتفجّع والتوّجع فهو يعترف أنّها كانت ظلّا ظليلا ودفئا جميلا:" كنتِ يا أمّاه خيمهْ\ كنتِ عمرا فيه نحيا\ كنتِ للأوجاع بلسم\ كنتِ دفئا في شتاء العمر\ يحوينا فننعمْ\..."ص 26 ـ 27 * الوطـن: قصيدة "يا أمّ معذرة": لئن كان ظاهرها خطابَ اعتذارٍ للأمّ وشكوى من الجوْر وما حلّ بالبلاد والعباد من فساد فإنّ الأمّ في معناها المطلق قد تكون تونسَ خاصة والأمّةَ العربيّةَ عامة: يقول: "ماذا أقول وضوء الفجر منطفئ \ مدّي يديكِ لعلّ الضّوء يرتسم..." فهذه الأمّ الرّؤوم هي الرّجاء والأمل في انقشاع الظلم والظلمات وانبلاج فجر جديد. * البنت: قصيد "مريم العمر" ص92 ـ 94. ومريم هذه بنت الثلاثة عشر ربيعا هي أيضا شراع في وجه الرّيح، يقول: "يا مريم العمر هذا عيدك نغم* يجتاح روحي قصيدا هام سكرانا \ ما أروع الحبّ في عينيك يأسرني* يعطي حياتي من الأنوار ألوانا...\ يا مريم الرّوح يا أغرودة عبقت*ها العيدُ عيدُكِ أنت فيه دنيانا \ والشّعر لولا عيون المُهْر ما انسكبت*منه القوافي ولا كان الّذي كانا" ويخلُص الشّاعر بعد رسم مختلف أشرعته في وجه الرّيح إلى أن لا معنى للحياة بلا امرأة وبلا حبّ، إنّهما إكسير الحياة وميسمها وروعتها وبلسمها: "ما أروع أن تعشق أنثى تمنحك بوحَ الألحانْ\ وتكون سلافةَ أشعارك\ وتكون بِروحِك بستانْ\ ص74 بل إنّ من لم يدرك هذه الحقيقة يكون قد ضيّع ماهية الإنسان وتاهت منه قِبلته، لذلك نجده يخاطب الرّجال: "يا رجلا ضيّع مُنيتَه\ ضيّع خارطة الإنسانْ \ المرأة لا تعشق رجلا في الحبّ غبيّ وجبانْ" ولئن كانت المرأة بكلّ تصانيفها هي أشرعة ربّان السّفينة الّتي تمخر العباب بلا خوف، فإنّ بعض الرّجال أيضا أشرعة ومجاذيف تسهم في العبور والتصدّي للرّياح العاتية الّتي فصّل ذكرها: * الرّجل المناضل: الّذي علا صوته في وجه الريح: الظلم والفساد... وصدح برأيه ورفضه فكان مآله السّجن والنفي... وقد اصطفى الشّاعر نموذجا لهذا النّضال الشّجاع، من أجل أن يسير المركب = الوطن في اتّجاهه الصّحيح وأهدى نصّه إلى صديقه، صديقِنا الشّاعر والإعلاميّ: كمال حمدي الّذي عرف السّجن والتعذيب عشر سنوات من أجل هذا الوطن، يقول مخاطبا ذاك الرّجل العنيد: "كم ضيّقوا الأنفاس عنك والهتاف\ كم قايضوك لكي تسلّم أو تخاف\ لكنّ صوتك ظلّ يهدر كالبحار\ أسرجتَ من غسق المواجع كلّ أزمنة الفرح\ وتركتَ للجدران ذكرى بعض شدو\ فيه للرّيح انتظار..." وهذا المناضل له صنوه، شراعا آخر يدفع بالمركب نحو برّ الأمان: * الشّاعر ـ القصيدة: يستقي الشّاعر أشعاره وأفراحه من دنان الأنثى ويمتح ألحانه وأوزانه بدلاء عشقها ومن معين جمالها: "ما أروع أن تعشق أنثى\ تمنحك بوح الألحان\ وتكون سلافة أشعارك\ وتكون بروحك بستان" وللخروج من حالات القهر والضّنك يدعو الشّاعر نفسه ومخاطبه لإنشاد الشعر الجميل الّذي هو شراع النّجاة، يقول: "... عطّر شراشف وعدِك المسروجِ من نغم الرّعاة\ اكتب لليلاك الجديدة بعض أبيات من الشّعر الجميل\ رتّل تميمة عشقك المحمومِ في زمن الشّحوب..." وفي قصيدة أخرى يرسم الشّاعر صورة فيها تتماهى الحبيبة والقصيدة وكلتاهما شراع في وجه الوجع: "أهواكِ جهرا لا أخاف جريرة* أنتِ القصيدُ وأنتِ بوحُ ندائي..." والشّعر، لئن كان شراعَ النّجاة وبلسمَ كلِّ الجراح فهو مملكة أيضا، ويخصّ العموديّ منه بقصيدة مطوّلة يستعرض فيها مزاياه وأفضال كلّ بحر من البحور الشعريّة، ص132 ـ 136، يقول: "والشّعرمملكة تاجٍ ومفخرةٌ *ما كلّ ما ملك التيجان يغرينا...\ ما الشّعر لو لا عمود البحر يسكننا* يسبي مسامعنا بالشّدو يحيينا." هذا الشّعر العموديّ ـ على اختلاف بحور الخليل بن أحمد الفراهيديّ ـ الّذي يحيي النّفوس بعد مواتها في مجتمع متردّ، هو سبيل الشّاعر إلى التفرّد والتميّز وهو ذاتُه الّذي صاغ به الشّاعر جلّ قصائد الدّيوان وضمّنها حزنه وفرحه وضيقه واتّساعه وانتصاره وانكساره... وهذه المقابلة الّتي عمد إليها الشّاعر في رسم صوره الشعريّة واصطفى لها معجما مخصوصا يعجّ بكلّ ألفاظ الوجع والفجيعة، أحيانا والفرح حينا بانبلاج فجر جديد هو كذلك أحد الأشرعة الّتي بها عبر بحر الوجود رغم عمق الجراح وعتوّ الرّياح وهوج الأرزاء، إلى جانب أشرعة أخرى، أبرزها العشق وحبّ الأمّ ومحبّة البنت... جميع هذه الرّوافد مكّنت الشّاعر من الصّمود في وجه العواصف والزّوابع ونسج أحلام تحمل بشائر غد أفضل. صفيّة قم بن عبد الجليل