( مقالتي هذه مجرد خاطرة أو بالأحرى هي مناجاة النفس للنفس مع الحبيبة ) بغداد في القلب كلما هبت ريح الصبا ازداد الشوق الىى حبيبتي .. ومن تكون حبيبتي ! لا ليست حبيبتي امرأة كما يظن البعض ..بل هي بغداد ، أجل بغداد دون غيرها ، لقد أحببتها أو بالأحرى عشقتها منذ اول يوم وطئت فيه قدماي أرض جامعتها – جامعة بغداد – العريقة عام 1959 لقد بهرتني بغداد وانا قادم اليها من مدينة البرتقال المجاورة لها ..بهرتني وأنا أتجول في أركانها طيلة أربع سنوات من عمر الدراسة الجامعية ..ما هذا التألق الذي يرسم ملامحها ! ما هذه النضارة التي تزين صورتها ! لقد خيل لي كأن عبق التاريخ لا يفارقها منذ أن قام المنصور ببنائها ..بمساجدها بمدارسها بدور علمها بحواريها وأزقتها بأسواقها ، بعصرها الذهبي الزاهر قبلة للزوار والسائحين بل قبلة العلماء والأدباء من كل صوب وحدب . بهرتني بغداد وأنا اتجول في أحيائها من الأعظمية والكاظمية الى البتاوين والكرادة .بهرتني بغداد وأنا أخطو بخطواتي في شارع الرشيد – قلبها النابض حينذاك – بدءا من باب المعظم الى الباب الشرقي فتطل عيناي على صور ومشاهد ساحرة ثم تمضي الخطوات الى شارع المتنبي ومنه الى سوق السراي حيث تتزاحم الكتب في مكتباته أو مفروشة على أرضه يوم كان للكتاب قيمته ..وحالما أغادر هذا المكان تقودني قدماي الى شارع النهر الذي يأتيه الناس من كل مكان لشراء اللباس والذهب ، وما أن أن اغادره حتى أطل على نهر دجلة فأقول مع نفسي سلام من صبا دجلة أرق ..نهر هو ينبوع الحياة يزيد به من جمال بغداد وبهائها . وفي الأيام الدافئة والعليلة تأخذني خطواتي الى شارع أبي نؤاس حيث يحلو السهر ليلا في مقاهيه المطلة على النهر وأنا أتذوق السمك المسكوف مع صوت أم كلثوم ..أتسامر مع أصحابي ونستمتع . تلك أيام خلت لم تكن أجمل منها أيام أخرى لكن حضوري الى بغداد لم ينته بانتهاء سنوات الدراسة ..لقد كنت آتيها أكثر من مرة في الأسبوع طيلة حقبة الستينيات وبعضا من حقبة السبعينيات وكنت ارى بغداد تتجدد وتزداد مساحة وجمالا ، أما في حقبة الثمانينات والتسعينات فكنت أسافر الى بغداد بين حين وحين لأسباب طارئة استجدت على حياتي . أما بعد عام 2003 فقد زرت بغداد مرتين وكانت زيارتي الأخيرة لها صدمة لحواسي جميعا ذلك ان الجمال تحول الى قبح والنضارة الى ذبول ..أهذه بغداد حقا ! ها أنا اكاد أنكرها بعد أن عبثت بها قوات الاحتلال وبعد أن أفسد بها المفسدون وكأن الحقد يأكل قلوبهم أن يروا بغداد عامرة . وكلما عادت بي الذاكرة الى الأيام الخوالي تساورني خلجات رثاء على حاضر بغداد وما آلت اليه من خراب ، ورغم هذه المفارقة فان الحنين يراودني بين حين وحين للقاء الحبيبة ..أجل حبيبتي وحبيبة الملايين من ابناء هذا الشعب الصابر المحتسب . انه الشوق يفرض نفسه علي لأن تكتحل عيناي مرة أخرى أو اخيرة برؤيتها ، هي بغداد دون غيرها فأتنفس عبق رائحتها العطرة وأستذكر أيامها الخوالي الجميلة ..أيام كان التألق على محياها ..أيام كان لها مجدها وعزها وكرامتها .