يعيش الناس في منطقتنا بأمان ..تعودوا على موجات الحر و العواصف الرملية القوية التي تغزو مدينتنا و أحياءنا و شوارعنا و تصبغ ملابسنا على حبل الغسيل بما يشبه اللون الأحمر. تنتصب مدينتنا وسط صحراء مترامية الأطراف وواحتين غير بعيدتين واحة الشيص و واحة الدقلة ...تمثل التمور مورد رزق للكثيرين حتى والدي يمتلك بضع نخلات توفر لنا مؤونتنا من التمر طيلة السنة...ناهيك عن أصناف أشجار أخرى تضمها الواحتان...
منزلنا كبير يضم غرفا عديدة .. جدتي لوالدي هي نبع الحنان الذي لا ينضب في العائلة.. كنت ألازمها طيلة الوقت ، أساعدها في كل شيء. أجلب لها الماء للوضوء عند أوقات الصلاة .. أحيانا لا تستعمل الماء بسبب أوجاع الروماتيزم ..تتجه نحو الخزانة بكل وقار ، تدير المفتاح في الباب و تخرج حجرا ملفوفا بقماش حريري ، حجر التيمومة.. ذلك الحجر مهم جدا بالنسبة لجدتي ..تحفظه بكل عناية و لا تسمح لي بلمسه.
أذكر أني في إحدى المناسبات تذمرت من الإهتمام الذي توليه جدتي للحجر ..
ابتسمت بحنو و قالت لي " إنه حجر من السماء يا ابنتي رجم الله به الشياطين ... لن أجد أطهر منه على وجه الأرض حتى أتيمم به...كفي عن محاولة لمسه عزيزتي ! "
لم يقنعني كلامها خاصة و أن لونه البني الشبيه بلون الشكولاطة يثير انتباهي..
توالت الأيام و جدتي على حالها ..تحافظ على نفس العادات..و تمارس ذات الطقوس..
انتشر خبر في المدينة يقول بقدوم فريق من الخبراء الأجانب لإستصلاح شبكة مياه الري في الواحات التي تشكو من عدم انتظام تزويدها بالمياه تساءل أبي بإستغراب " ماالداعي للخبراء الأجانب ؟ ألا يستطيع أبناء بلدنا إصلاح قنوات المياه ؟ خمسون سنة من التعليم ثم بعد ذلك نستعين بخبراء أجانب ! "
نسجت مخيلة الكثيرين حكايا غريبة عن الخبراء الأجانب...أحدهم قال أنه شاهدهم يجوبون الصحراء و يجمعون الحجارة و آخر يدعي أنهم يتجولون في شوارع المدينة و يتحدثون إلى التجار بينما ادعت إحدى النساء أنهم يسترقون النظر من النوافذ إلى داخل البيوت و أن وجوههم مرعبة و نظراتهم حادة....
طالت مدة إقامة الخبراء و تعود الناس على وجودهم فقل الحديث عنهم و انصرف الجميع إلى الإهتمام بشؤونهم ...
حل موسم جني التمور..نحر أبي خروفا بهذه المناسبة السعيدة...طلبت مني جدتي أن آخذ بعض اللحم لبيت العم صالح...سررت لهذه المهمة الموكلة لي و التي سأحصل من ورائها على ثروة ..حلوى من عند جدتي و حبات لوز من لدن زوجة العم صالح و أيضا بعض الملابس الخاصة ببناتها ...
حثثت الخطى نحو بيت العم غير البعيد... عند وصولي وجدت جمعا غفيرا أمام الباب و أهل البيت في حالة شديدة من الرعب.. هجم ملثمون على منزل العم ليلا و سرقوا حجر الرجم حجر التيمومة الذي يستعمل للعبادة ...جرح العم في رقبته أثناء محاولته التصدي للملثمين و يبدو أنهم كانوا ينوون ذبحه لولا صراخه...
تراجعت عن إعطائهم اللحم ...عدت مسرعة إلى منزلنا ..أخبرت جدتي بما حدث ..
شرد ذهنها و اتجهت عيناها نحو مكان حجر الرجم تمتمت " الملثمون جنود إبليس ، هذا عمل إبليس يريد أن يطمس آثار عصيانه لأوامر الإله..."
دب الرعب في قلب كل فرد من أفراد عائلتنا.. تكلم أبي محاولا التخفيف من حدة الأزمة " هجم اللصوص على بيت صالح لسرقة مصوغ زوجته و عندما اعترض طريقهم فعلوا ما فعلوا به..."
تعددت السرقات في المدينة ...ألف السكان حولها أساطيرا أطرفها أن الملثمين قاموا بسرقة فرخ دجاجة سوداء لممارسة الشعوذة .
بعد فترة خفتت موجة التهجمات على المنازل خاصة و أن بيوتا كثيرة لم تفقد شيئا يذكر ...كأني بالملثمين يبحثون عن غرض معين..
في الأثناء واصلت الإهتمام بجدتي و التقرب منها دائما فقد تعودت على وجودها و هدوئها و حبها الكبير للصلاة و التسبيح...
ليلة الجمعة قضت جدتي ليلتها في تلاوة القرآن و التسبيح استعدادا للصلاة...أدخل غرفتها كثيرا للإطمئنان عليها فأجدها تمسك المصحف بين يديها ... تأخر الوقت فآويت إلى فراشي على أمل يوم جديد...يوم الجمعة الذي تحتوي فيه وجبتا الغداء و العشاء على اللحم و الذي نرتدي فيه الملابس الجديدة...
أضاءت الشمس فناء المنزل ...قبل أن أفتح عيني التقطت أذناي صوت صراخ أمي ...قفزت مذعورة... وسط الغرفة جدتي مستلقية على الحصير تغمض عينيها و بجانبها المصحف... جدتي نائمة ..ستصحو و تحضر نفسها للصلاة.. توجهت نحو الخزانة... الخزانة مبعثرة و حجر الرجم غير موجود..
ظلت جدتي نائمة و لم نجد الحجر أبدا...