الفصل ( السّابع )
الكاتب : مصطفى الحاج حسين .
كان ( سمعو ) جارنا في الزّقاق ، صديق
أبي يناهز الأربعين ، وهو يعرف القراءة
والكتابة ، لذلك عرضت عليه أن يعلّمني
كتابة اسمي بعد أن غدت صداقتي مع ابن
عمي ( سامح ) مستحيلة ، بسبب ماجرى
من قتل أبيه بسببي ، وزواج أبي من أمّه
( أم عص ) كما تسمّيها أمي. وكان( سمعو )
هذا عازفاً عن الزّواج مذ كان يافعاً ، وهو
كثير الشتم للنساء ، يعدّهن مخلوقات
تافهات لايستحقن سوى عود ثقاب ، ولم
نكن نحن الصبية نعرف سبب كرهه الشّديد
لهنّ .
وكان أهالينا يحذرونا من التّوقف مع
( سمعو ) ، فهو كما يزعمون ، وسخ ونذل ،
ولم نكن ندري أي نذالة بقصدون ، حتى أبي
صديقه وشريكه في تعاطي الكحول
والحشيش ، ضربني بشدّة عندما أبصرني
ذات مرّة أقف معه ، وأمرني ألّا أعود
للوقوف والحديث مع هذا الحقير .
وكثيراً ما كنت أتسأل لماذا يكثر والدي
إذن من زيارته مادام يراه كذلك ؟! .. ومع
كلّ هذا ، ومن شدّة لهفتي للتعلّم ، طلبت
منه أن يعلّمني القراءة والكتابة سرّاً ودون
أن يعلم أبي ، فوافق ( سمعو ) في الحال ،
وطلب منّي أن أتسلّل بعد العشاء إلى داره ،
حتى يباشر تعليمي ، وكنت أستطيع ذلك
طبعاً ، خاصة بعد زواج أبي من ( فطينة )
زوجة عمّي القتيل ، أمّ ( سامح ) ، فأبي
ينام في دارها ، وليس هناك غير تهديدات
أمي ، وعدم احتمالها لتصرفاتي .. وهذا أمر
سهل .
في المساء لم أطرق باب ( سمعو ) كان
موارباً ، دفعته وخطوت نحو العتبة ، وكان
يقف بانتظاري مرحباً بي :
- أهلاً ( رضوان ) ، كنت أعلم أنّه أنت ..
تفضّل .
خطوت في باحة الدٌار التّرابية الواسعة ،
بينما كان ( سمعو ) يقفل الباب خلفي ،
تسلّل شعور بالوحشة والخوف إلى قلبي ،
فهذه الدّار الكبيرة ليس فيها أي دليل على
الحياة ، فلا شجرة ولا نبتة صغيرة فيها .
وساقني إلى غرفته ، كانت واسعة مصقولة
الأرضيّة بالاسمنت الأسود، جلست على
حافة العتبة المرتفعة ، لكنّه طلب أن أخلع
حذائي وأدخل إلى الصدر لأجلس على
اللبّاد .
جلس إلى جواري ، بعد أن أحضر أوراقاً
وقلماً أزرق من الخزانة ، فقلت :
- هيّا نبتدي .
ابتسم ( سمعو ) فبانت أسنانه السّوداء
المنخورة ، وقال :
- ليس قبل أن نشرب قدحاً من الشّاي
العجمي ، وسيكارة على مزاجك .
قلتُ وأنا أحسُّ بالإنقباض والنّدم ، لأنّي
أجالس هذا الرّجل الكريه :
- لا داعي لذلك .. أنا على عجلة فأمّي
تنتظرني .
مدّ يده إلى جيبه ، أخرج علبة تبغه
المعدنية ، فتحها بأظافره وأخرج سيكارتين
ثخينتين ، وقال :
- طيّب ... خذ اشرب هذه ومن بعدها نبدأ .
- لا .. لا أريد .. أريد فقط أن تعلّمني .
- جرّب ودخّن هذه ، أنا أعرف أنّك تدخّن .
تناولت السّيكارة منه ، فكشّر ضاحكاً :
- فرخ البط عوّام ، أبوك لا يحبّ إلّا سكائري
هذه .
- لا .. لن أشربها إذاً .. هذه السّيكارة فيها
حشيش .. وقذفتها أمامه . فقال :
- طيّب جرّب .. ولن تندم .
- مستحيل .. مستحيل .
- حسناً كما تريد لا تغضب سأدخن وحدي .
أشعل السّيكارة فظهرت عيناه تلمع
مرعبتين ، وبعد أن سحب نفساً عميقاً ، قدّم
إليّ السّيكارة :
- خذ على الأقل نفثة واحدة .. هيَّا لا
تخجّلني .
ولأنّي أردتُ أن أنهي هذه القصة ، لنبدأ
بما جئت من أجله ، إقتربت من يده ،
ووضعت فمي على السّيكارة ، غير أنّه وفي
نفس اللحظة خطف قبلة من خدّي ،
فصعقتني المفاجأة ، وشممتُ أنفاسه
الكريهة:
- ماذا تفعل ياعم ( سمعو ) ؟؟!!.
وهممتُ بالنّهوض ، ولكنه لم يتركني ،
دفعني بعنف فارتميت على قفايّ ، وهجم
كالثور الهائج فوقي .. ألقى بثقله فوق
صدري ، ماسكاً يديّ ، في حين أحنى رأسه
وبدأ يقبّلني بجنون كالمحموم :
- دعني يا عم ( سمعو ) أرجوك ... أستحلفك
بالله ... أتركني .. أمّي تنتظرني .
وكان يدمدم وهو منهمك في تقبيلي ،
وأنفاسه المقزٌزة تثقب أنفي :
- لن أتركك تخرج من عندي ياروح أمّك ،
قبل أن أنال مرادي منك .
حاولت جاهداً أن أتملّص منه ، رجلاي
تضربان ظهره ، ويدايَ تحاولان الفكاك من
يديه .. فأحرّك رأسي يمنة ويسرة ، كيلا
بتمكّن من تقبيلي ... ولمّا وجد عنادي إلى
هذا الحد ، نهض إلى الخزانة بسرعة ،
وأخرج سكيناً لامعة ، قبل أن أتمكّنَ من
النّهوض ، لأتّجه إلى باب الغرفة الموصد ،
ولكنه سدَّ عليّ الطّريق ، وأمسكني :
- اخلع ملابسك وإلّا قتلتك .
تراجعت .. الذّعر سيطر على قلبي ،
وعيناه تقدحان شرراً ، والسّكين في يده
حادّة فظيعة :
- اتركني .. أرجوك .. أنا في عرضك .
- قلت لك تعرَّى .. وإلاّ ...
- يا عم ( سمعو ) أبوس رجليك .
وانقضّ على شعري ، يشدّه بعنف وبلا
رحمة ، لفَّ عنقي نحوه ، ثمَّ وضع السّكين
حوله ، وصرخ :
- هل ستتعرَّى .. أم أذبحك ؟! .
كانت عيناي تراقبان السّكين ، من خلال
الدّموع ، إنّها قريبة من عنقي ، بل هي
تلامسه .. فقلت باستيلام مرير :
- اتركني .. سأفعل ماتريد .
تركت يده المتوحّشة شعري، لكنّه ظلَّ
ممسكاً بي ، وهو يزعق :
- اخلع بنطالك
خلعت بنطالي وأنا بين يديه مثل فرخ
دجاج ، سقط البنطال على الأرض ، وأخذ
( سمعو ) يجسَّ لحم ساقي بقوّة ... تملّكني
شعور عارم بالخجل ، فأنا عار من الأسفل
تماماً ، طوال عمري لم أتعرَّ أمام أحد ، أمّي
تعجز بي أن تدخل الحمام عليَّ حتّى تفرك
لي ظهري ، وأنا أرفض ... تذكٌرت ( سامح )
ابن عمي ، وماحدث له في ( مقطع الزّاغ )
مع المجرم ( جمعة الكبّاج ) ورفاقه يوم
هرّبته من المدرسة ، وكيف تعرّض
للإغتصاب ، وكاد أن يموت ، لولا محاولة
إنقاذه ، التي كانت متأخرة .. ولكن هنا أنا
من سيخلّصني وينقذني من هذا المجرم
المتوحٌش ؟! .. كيف سأواجه أبي وأهلي ،
وأولاد الحارة ، الذين يسخرون من ( سامح )
حتى اليوم .
دفعني نحو الفراش ، فامتثلت خانعاً ،
وأمرني أن أخلع سترتي :
- ياعم ( سمعو ) أبوس ( قندرتك ) اتركني .
- اخلع سترتك وإلاّ ذبحتك ، ورميت جثّتك
في بئر الدّار .
وجدت نفسي عارياً تماماً ، أرتجف
وأبكي ، عاجزاً عن فعل أيّ شيء ... ألقى
بالسكين من يده ، وأخذ على عجل يخلع
عنه ( كلابيته ) ، وحين تغطّي رأسه ، ولم
يعد يبصرني ، وجدتها فرصة .. وانقضضت
ولا أدري من أين جأتني الجرأة وأخذت
السّكين ، وبسرعة ، وقبل أن تظهر عينا
( سمعو ) ، كانت السّكين قد انغرزت في
بطنه ، فصرخ يجأر كالذئب :
- آه ياكلب .. قتلتني .
عاودت طعنه من جديد ، مرّة ، ومرّتين ،
و .. لا أدري كيف كنت أفعل ذلك ؟!.. كان
كلّ ما أراه هو الدّم .. الدّم متدفّقاً من بطنه
وصدره ، يتخلّل شعر صدره الغزير ، وأنا
أنهال عليه بالطعنات بلا توقف ، أو رحمة ..
وهو يتراجع أمامي .. ثمّ هربت إلى باحة
الدار ، توجّهتُ إلى الباب ، ولكنّ الباب لا
يفتح .. إنّه .. إنّه مقفل ، والمفتاح مع
( سمعو ) ، نظرت إلى باب الغرفة ، فهالني
منظر ( سمعو ) واقفاً بدمائه ، يريد أن
يمسكني بيده اليسرى ، بينما كانت يمناه
تدفع أحشاءه المتدلّية إلى بطنه ، ركضت
في باحة الدّار مبتعداً عنه وأنا أصرخ ،
وكان يلاحقني ... وعدتُ إليه من جديد
وطعنته ، فاستطاع أن يمسكني ، بلّلني
بدمه ، فصرختُ بقوّة ، كانت عزيمته قد
خارت ، فحاولت التّملص من بين يديه ،
نزعت نفسي وجريت .. تناهت أصوات
النّاس خارج الدّار ، يطرقون الباب علينا ،
وصراخي لا ينقطع ، والباب مقفل لا يفتح ،
والباحة التّرابية امتلأت بقعاً حمراء من الدّم
الدّاكن ، و( سمعو ) لم يشأ أن يسقط ميّتاً ،
ظلّ يطاردني ، وها أنا أعود لطعنه من
جديد ، بسبب خوفي ورعبي ، وعيوني
تراقب الباب وهو يدفع بقوة و ... وإنكسر
الباب أخيراً .
وتدفق من خلفه الرّجال والأطفال ، هرعت
نحوهم وأنا أصرخ .. ناسياً عري .. كل ما
أذكره أنّهم هرّبوني عارياً إلى بيت عمي
المرحوم ، والد ( سامح ) الذي تزوج والدي
أمّه ، حيث كان البيت قريب من دار
( سمعو ) ، وكان أبي هناك .. جميعهم
استقبلوني بفزع ودهشة .. أرتميت أمامهم
عارياً والسّكين بيدي تقطر دم العم ( سمعو ) .
مصطفى الحاج حسين .
يتبعها ( الفصل الثامن )