top of page
صورة الكاتبAdmin

السيارة .. وبعض أحلام أخرى ... - بسمة حاج يحي


سيارة ابنتي ، لا اذكر تفاصيلها اليوم ، فقط انها كانت حمراء و كبيرة و جميلة جدا .. ذاك كل ما أذكره !! آه ، و الأهم أن عمّها هو من أهداها تلك السيارة بمناسبة عيد ميلادها ، كانت لامعة و رائعة ..

مرّت السنون ، بل بضعة عقود و رغم أنني نسيت تفاصيلها الدقيقة ، إلا أنني لم أنْسَ حجمها و لا لونها المميّزين ، إذ للأسف ، لم تدم تلك السيارة طويلا ببيتنا .. دخل كائن بشري و افتكّها . افتكّ لعبة ابنتي .. افتكّ أحلامها و أفراحها الصّغيرة . فبعض الكائنات خُلِقَتْ فقط لتستوليَ على أملاك الآخرين . خُلِقتْ في روح شيطان لتَسْطُوَ على أحلام الصّبايا و الصِبْية الصّغار على حدّ السّواء ، و منذ خطواتهم الأولى لما كانوا يَحْبُونَ و يفرحون لكل خطوة ينفّذونها لمحاكاة ذاك الكهل الكبير يرونه يسير بخطًى ثابتة . قد يتعثّرون أثناء الحَـبْـوِ ، غير أنهم ، بآبتسامة بريئة يعاودون الإنطلاق . لكن ، لمّا تكون تلك الكائنات لهم بالمرصاد ، فخطوات كثيرة قد تتقهقر و تعيدهم إلى مكان الإنطلاق ، تبقيهم بالنقطة الصّفر ..!! 🚗 🚗 🚗 🚗 🚗

كانت والدته زميلتي بالعمل ، فكان لابد من تبادل بعض الزيارات ، إما بدافع الودّ ، أو لأغراض شخصية ، إن لم نقل لأغراض أنانيّة . فكم من مصالح تُـقْـضَى بابتسامة و بمعاملة تليق بصيد ما تصبو إليه النفس و العين . زارتني في ذلك اليوم صحبة إبنها ذي الخمس سنوات . لن أحدثكم طبعا عمّا أصابني يومها من إرهاق و ألم نفسي لما بدر منه . و لن أصف لكم برود والدته لِـمَـا كان يصدر منه و لا فَخْرَها بذاك الكائن الّذي أنجبته بشطارة المرأة الناجحة و المحظوظة بكل ميادين الحياة . هي أنجبت بمجهودها الخاص فتًى ذكرا . لم تسطو على مجهود أحد . فأنا ربما المقصّرة لأنني لم أستطع إنجاب فتًى واحدٍ ، فتًى من الجنس الذكوري ليحمل لقب العائلة السعيدة ، ليمجّد إسم العائلة و يخلّده على مرّ الزّمن .. فأنا أم البنات ، لم أكتشف بعد سرّ الخلطة السحرية التي تتحصّل بموجبها بعض السيدات على ذاك الكائن الغريب . يومها حمدت الله أنّني لم أسأله في صلاتي أن يرزقني فتًى مثله . إذ يكفيني فخرا الأربع بنات برقم حسابي الوراثي . بينما كانت هي تسهب بالحديث عن زوجها ، عن سيارتهم الفاخرة ، عن الفيلا التي سيقتنيها زوجها و قد أمضى عقد شرائها الابتدائي إلى حين إتمام باقي الإجراءات . أبديت لها فرحي لذاك الخبر تزفّه إليّ بفخر و بابتسامة صفراء ، بينما كان ابنها يلعب بسيارة ابنتي ، السيارة الجديدة ، الحمراء .

🚗👸👸🚗👸?👸🚗

— هنيئا لكم ، الفيلا ، لم أكن أعلم أنكما استطعتما التّوفير لاقتناء هكذا بيتا !! — و هل كنت تظنّينني مثلك ، منذ متى و أنت تطنبين الحديث عن مشروع بداية الأشغال لبناء بيتكم ، و إلى الآن لم نر شيئا ، مجرّد كلام و تسويف !! شعرت بكلّ الحروف تتدحرج كشلّال ماء و تغوص أسفل حنجرتي . و بالأثناء ، شحنة أسًى ضغطت على أضلعي . ثمّ ، ابتسمتْ قائلة و قد لمعتْ عيناها : « و تحصّلتُ على رخصة سياقة ، نجحتُ باختبار قيادة السيارات ، .. وعدني زوجي أن يشتري لي سيارة أول ما أتحصّل على الرخصة » ثم أردفت بسخرية قبل أن أسألها ، متى بدأتْ التعلم ، إذ هي لم تخبرني عن نواياها الدفينة رغم أني لم أُخْفِ عنها مشاريعنا ، و الخطوات أثناءكل حلم يعترينا .. — هل بدأت ِ تعلّم السياقة ؟ أم مازلت بعد تسوّفين الأماني ؟!! أنا لست مثلكِ ، أنا لا أقول إلا ما أفعل !! ثم تناولت كوب العصير ، كأنها أدركت رغبتي بأن أطفئ ما اشتعل غيضا بصدري .

لما همّت بالمغادرة شعرت برغبة جامحة في الإنفراد ، لكنها استكثرت عليّ كل فرصة للتّخلّص من سموم زيارتها إذ أطبق أبنها على السيارة بكلتا يديه و همّ هو الآخر بالإنصراف . اقتربت منه لآخذ سيارة ابنتي ، لكنه صرخ و أخذ في البكاء وهو يتكوّر على الهدية . صرت أقدّم له بعض الألعاب الأخرى على أمل أن يترك تلك السيارة . لكن والدته رمقتني بنظرة كلها ثقة و مكر ، و أضافت : — ألا تخجلين ..؟ تنزعين اللّعبة من يدي طفل صغير دامع العينين ..!! خجلت من نفسي . و ابنتي ترى سيارتها بيد طفل يغادر البيت مزهوّا بوالدته تبرع في جلب الحظ إليه . هي لا تتفانى لجعله أسعد مخلوق . ثم انصرفت أخيرا ، و طارت السيارة الجميلة مع ذلك الشيطان الصغير . أخذها و خرج وهو لا يلوي على شيء و لا ينصت حتى لنداء والدته ترجوه أن يمسك يدها و ان ينتبه للطريق . و انطويت على نفسي ، أتجرّع سموم رسائلها ، و ذاك الكمّ الهائل من السخرية و التبجّح بكل منعطف حديث يحملنا بين ثناياه .. انتظرت حتى تدعوني لزيارتها كما وعدت لتعيد لإبنتي سيارتها ، لكنها بادرت بقولها ، أول ما وطئت قدماي عتبة باب بيتها : — آسفة ، فإبني لعب بالسيارة و لم يتركها إلا بعدما صارت أشلاء ، حطام سيارة لا يمكن حتى إصلاحها بأي حال من الأحوال !! عدت يومها إلى بيتي أجرّ أذيال الخيبة . كما أنني عقدت العزم ألا أحدّثها مجدّدا عن أحلامي ببناء بيتنا . اكتفيت بذكر بعض تفاصيل تافهة . أما مشاريع مستقبلنا أنا و زوجي فأبقيتها بصندوق أحلامنا ، نرويها لبعضنا كل مساء لما تحلو مسامراتنا الليلية . ثم سرعان ما نغلق ذاك الصندوق و نتأكّد أننا أودعنا كل الاحلام البسيطة داخله و أننا أحكمنا غلقه حتى لا يكون عرضة للإنتقاد . كما قد يسطو عليه أحد المتطفلين ، فيسبقنا إلى بعض حلم فيتبجّح بتحقيقه بينما يبقى كلانا يعيد حساباته للمرة الألف لمّا لا تتطابق ميزانيّـتنا و بعض المصاريف الطّارئة .

🚗 👸👸 🚗👸?👸🚗

مرت السنون مفرحة أحيانا و محزنة أو محبطة أحيانا كثيرة أخرى . كبرت البنات و التحقن بالجامعة لمواصلة الدراسة العليا . كبرت احلامهن ، كما كبرت معها طموحاتهن .. وفّقن في دراستهن و صارت معالم النجاح ترتسم بالأفق . و أكيد كبر ذاك الفتى المشاغب ، و أكيد صار رجلا .. تخيّلته ناجحا ، لامعا ، فقد تميّز أثناء دراسته الإبتدائية . كان من الأوائل بكل سنة دراسة ، فوالدته لا تدّخر جهدا ليكون من النوابغ . فهي مدرّسة ، جميلة ، أنيقة و يليق بها أن تفخر بذاك الكائن الفريد ، فيشرّفها بين كامل الإطار العامل بالمدرسة . يليق بها أن تفخر و ترفع رأسها عاليا ، فهي والدة حالة غريبة بامتياز ؛ ذكاء ، وسامة ، ذكورية فريدة . طبعا ، فمقارنة بالرقم "أربعة" لحصيلة موروثي العائلي ، فذاك المولود الذكر الوحيد بحياة والديه ، لا يمكن إلا أن يكون حالة نادرة لولادة فريدة . أحيانا كنت أفكر بأن إنجاب البنات من الأمور السهلة و المتداولة . لا تتطلب جهدا أو حمية يصفها طبيب التغذية لتحقيق ذلك الهدف البعيد المنال . نقيس على ذلك ما فعله أجدادنا الأوائل عندما كانوا يئدون البنات لما تكاثرت تلك النوعية من الكائنات البسيطة ، حتى صارت كالأعشاب العشوائية إن لم يُقتلع أغلبها ، فحتما سيقلّ منتوج المادة الجيدة رفيعة المستوى ، والتي هي طبعا ذاك الكائن الذي عجزت عن زرعه بأحشائي . كان أحيانا زوجي يتهمني بالتقصير ، فلا أنبس ببنت شفة . بينما زميلاتي يؤكّدن لي أنني غير طبيعية ، إذ لا يُعقل ألا أحلم بفتًى مثل كل الأمهات . أنا كنت ببساطة أدرك أن الفتاة لها نفس الحظوظ تماما كما الفتى ، فهي أمّ المستقبل و مربية الأجيال القادمة ، فلا جدوى من الإكثار من نوعية واحدة ، معيّنة .. يصنفها الجميع أنها الأفضل و الأجود . طردت كل فكرة من خيالي . أبعدت كل الوساوس حتى لا أُبْـتَـلى بما ابتُـلِـيَت به أغلب الأمهات ..

و اعتكفت على تدريس البنات حتى يبلغن مراتب لا يتوصّل إليها إلا الرجال أو أصحاب العزائم الصلدة . كنت أشعر بلذة و بسعادة فائقتين كلما رأيت معالم الرضا على ملامح ابنتي الكبرى وهي تسير بخطًى واضحة ، ترسم أحلامها برويّة ، تنتقي صديقاتها قبل أن أوجّه ملاحظاتي لها سواء كان ذلك بالامتعاظ أو بالإمتنان . لكن ذلك اليوم كان مميزا و فريدا ، لما حملت إليّ صورة التقطتها بواسطة جهازها الخلوي . كانت صورة بها بعض الشباب المستهترون . أولئك الشبان الذين حين تراهم من الوهلة الأولى تبصم أنهم أبدا لم يزوروا مدارس و لا ارتادوا معاهد ثانوية . شبّان كل ملامحهم تبعث على الاشمئزاز ، بينما نظرات عيونهم توحي بالمكر و رغبة جامحة في الفتك بأول فريسة تقع بطريقهم . يبدو أنها صارت تهوى صيد الصور الخليعة . كمصور فوتوغرافي يلتقط الصور الفريدة بالأماكن التي تعجّ بمثل هؤلاء المنحرفين ، أو الخارجين عن النطاق المعهود .. أشارت إليّ بسبابتها إلى أحدهم ؛ — من يكون هذا برأيك ؟ لا أنكر تخوفي من الوساوس . تخيلت كل السيناريوهات المقبولة و الممكنة ، إلا أن يكون ذاك الكائن العجيب . ثم ابتسمتْ ابنتي ، حنان قائلة ؛ « انه إبن زميلتك ، سهير !!» — مستحيل ! لا يمكن ! كيف صار هكذا ، ربما أنت مخطئة !!

— هو لم يكمل دراسته الثانوية ، فاعتنق الشوارع ، و تعلم كل صنوف العصيان و التمرد ، ..... لقد طُرد من المعهد إثر مشادة كلامية مع زملائه بالفصل ، كما أنه تطاول على الأساتذة ، و تهجّم على المدير ، ..... و كان يغشّ بكل المواد أثناء الإمتحانات ، .... — يكفي ، يكفي ..!

🚗👸👸🚗👸👸🚗

تضاربت كل المفاهيم برأسي حينها و انا استمع إلى حديث ابنتي و التحقت إليها ابنتي رقم أربعة أو صاحبة الترتيب الرابع ، كما كنا نناديها دوما ، إذ كان لها نصيب هي الأخرى بالسّرد . و انطلقت تروي بطولاته الشهيرة أثناء معاكسته للفتيات . أطنبت في وصف حركاته و جمله المعسولة يلقيها بوجه كل فتاة يقطع طريق عودتها إلى البيت دون مراعاة لروابط الجيرة ..

تزاحمت الأفكار برأسي . لم أستوعب أن تكون هكذا ثمرة لأب ناجح بعمله ، و الكل يذعن لأوامره . بل إن والدته ما فتئت تريني ألوان الكبرياء و صنوف التفاخر ! ما كانت تتكلم أو تجيب إلا بلهجة واثقة ، أما مشيتها فكانت لا تختلف كثيرا عن مشية الأميرات أو الملكات ؛ رأس إلى الأعلى و أنف شامخ ، يكاد يلامس الحاجبين ..! يومها ، لا أنكر أنني تمنيت أن ألتقيها . تمنيت لو أنني أراها و لو بصدفة تجمعني بها بالطريق العام لأرى كيف صار ذلك الشموخ ، و إلى أي مدى ارتفع أنفها ؟

و التقيتها . يا للمصادفة العجيبة ! التقينا بقاعة رياضة عمومية ، كانت أنيقة كعهدي بها . لم تغيرها السنون ، كانت لاتزال شابة . تبادلنا حوارا مستعجلا . سألتني عن جيش البنات ببيتي ، و ما إن أتعبنني في تربيتهن !! فلم أتوانَ أن أسألها طبعا عن أولادها و كم صار عددهم ؟ ثم ، بكل زهو عرّجت إلى موضوع إبنها . بل تظاهرت التجاهل لأستفسر عن دراسته أو تخرّجه من الجامعة ، رغم يقيني أنه ما أكمل حتى دراسته الثانوية ! فرفعت رأسها عاليا لتعلمني بكل زهو أنه صار يشتغل بالبنك ! — ماذا ؟ بالبنك !! .. ثم تداركت حالي لأضيف : « آه .. أكيد والده ساعده للحصول على هكذا وضيفة ، فهو ذو نفوذ ! » لكنها ، و بنفس عنجهيتها أصرّت أن لا دخل لزوجها بذلك ، هو فقط نجح بمناضرة خاصة للحصول على تلك الوضيفة .. — هنيئا له ، إذن . هو مميّز منذ صغره ، ليبارك لك فيه الله . ثم عدت إلى البيت ..

🚗👸👸🚗👸👸🚗 كانت بناتي الثلاث قد تخرجن و بقين بالبيت . لم يسعفهن الحظ للنجاح بالاختبارات التي أجرينها . بل كن ينصحن أختهن الصغرى أن تغير مسار دراستها و ألا تأمل بوضيفة لو فكرت الإلتحاق بالجامعة . و أمام كل هذا الوضع المحبط بالبلاد ، و الكم الهائل من خريجي الجامعات ، و أمام اعتكافهن بالبيت ، فقد كان الشغل الشاغل لنا جميعا ، البحث عن أي نشاط اجتماعي يندمجن به ، أو الهجرة . الهجرة للدراسة و العمل بالخارج . لكن حتى هذا الحلم ما استطعنا إليه سبيلا . و بقي ذاك الجيش من البنات يحاصرني بالبيت ، صباحا و مساء .

🚗👸👸🚗👸👸🚗

... ظلّين يحاصرنني بالبيت ، لكن تمضي الأيام بين بعض المسامرات الليلية سويا ، و بين بعض النوادر يسردنها لي لإزاحة جو قاتم كان يخيم على أجواء البيت أحيانا كثيرة خصوصا بعد أن وضع القدر يده ليرسم بصمته الثقيلة لما لفظ والدهن أنفاسه الأخيرة إثر مرض الزمه السرير شهورا طويلة .. فتعود بنا الذاكرة لاجترار بعض المزحات ... كمثل تلك الليلة ؛

كنت أخيط لهن بعض الملابس على آلة خياطة للتحايل على المصاريف ، فالراتب إضافة إلى راتب زوجي ما عاد يفي بالغرض ، و البنات ، خاصة الصغيرتين ، ما عادتا تقبلان بملابس أختيهما . و هذا صار يسبب إزعاجا كبيرا بالبيت ..

فــإبنتاي الكبيرتان كانتا تتعايشان مع الوضع المادي بشكل جيد ، تتصرّفان في بعض المستلزمات لخلق اكتفائهما ذاتيّا . بل أحيانا يعتكفن على أكوام الملابس المستعملة بمتاجر الملابس القديمة أو ما يعبر عنها بإسم «روبافيكا» .. و تمضيان وقتا لفرز البضاعة و من ثمّة استخراج أجمل القطع و بأثمان معقولة ، سرعان ما تحملانها بفخر و بفرح واضح إلى البيت و يبدأ فصل جديد من الغسيل و الكيّ و بعض التعديل أحيانا قليلة .. و بكل ثقة كانت إبنتي الكبرى تنافس صديقاتها اللّاتي ينفقن ميزانية محترمة للإيقاع بشاب وسيم ، فلا تغريه ملابسهن بقدر ما يبتسم أحدهم لحنان إبنتي الكبرى ! و بغمزة و ابتسامة يهمس لها : — كم كلفك ثمنه هذا الفستان الشيك ؟ مشيرا بعينين مبتسمتين إلى زميلتها ترمقها من بعيد بكل حسد و غيض .. فتجيبه : — فقط بعض دينارات ، و ها أنا من يجمّل الملابس و يعطيها رونقا خاصا !! قطع القماش لا تعني لي شيئا بقدر ما تهمني راحة والدتي ، خاصة بعد وفاة والدي و أنا أراها تعفي نفسها من أهم الضروريات لترانا نحن بناتها بأحسن حال .. — لكن ، زبيدة صديقتك ، لا تبدو سعيدة رغم الثّراء يلُـفّـها من نعلها حتى تسريحة شعرها !!! — دعك منها ، هي لا ترتدي إلا لمآرب خفية ، كما استولت على المرتبة الأولى لمدة ستّ سنوات لما كنا بالابتدائي ، فوالدها كان مدير المدرسة ، و المقعد الأمامي كان حكرا لها كما المرتبة الأولى كانت دوما بحوزتها ، لكن ، ها و قد صرنا هنا ، لن أسمح لأحد أن يسرق مني مجهودي ، و إن كان صديقا يرافقني إلى بيتنا أثناء العودة من المعهد !! .. ثم حملقت بوجهه ، و غمزت ثم ابتسمت .. و برشاقة عينيها تحوّل نظرها حيث الصديقة محور حديثهما ، فتكشّر بوجهها مقلّدة حركة قطة شرسة ، فيبتسم صديقها ثم يمضيان بالطريق العام سيرا على الأقدام حتى يصلا أمام بيتها . فتلج البيت ليواصل هو سيره كالمعتاد . تطرق الباب طرقا متناغما ، موسيقيا ، يفشي عن نشوة و انتصار و مرح بنفسها كما عوّدتنا .

اذكر ، لما كنت افتح لها الباب ، لأستقبلها . لأستقبل ابنتي ، بهذه الساعة مثل كل يوم . ف كنت ألمحه .. ألمح ذاك الشاب ، يوصلها يوميا حتى باب البيت . أستدير إلى حنان ، فتجيبني قبل أن أسأل : — قلت لك مرارا هو مجرد صديق ، فلا داعي للقلق ، بل نكاية بــزبيدة لن أدعها تنفرد به ...!!

أحيانا ، يعدن سرد مغامراتهن أيام الدراسة ، و خاصة لما يكون خطيب ابنتي معنا بالبيت ، فيتلذّذن بكشف بعض أسرارها أمامه لبعثرة مشاعرها لحظات ، قبل ان يأخذهن في جولة و وعود الى سفرة يصطحب خلالها اخواتها لجولة بحرية أو لبعض نزهة بالجوار ..

🚗👸👸🚗👸👸🚗

و ، تزوجت ابنتي الكبرى ، دون أدنى أمل في العثور على شغل يمنحها بعض كرامة تليق بمستوى دراستها العليا و ما طمحت إليه لمدة سنوات . كانت دوما تلومني على حرصي الشديد لإكمال دراستها . كانت عبثا تحاول إقناعي أنها حتى لو اشتغلت فلن يكون شغلها بما جمّعته من شهائد عليا . « اسمعي ، قالت لي بكل ثقة ، البلد على كفّ عفريت ، و المقاييس غير منصفة ، فلا جدوى من استمراري بالدراسة و لا جدوى من استمرارك بالأحلام و بأنني قد أقف بمدرّج الجامعة لإلقاء محاضرة ترضي غرورك ! » . مرات كثيرة ، كانت سهام تغرز بصدري أسفا على كل تضحياتي المادية و المعنوية لأراهن يحققن بعضا ممّا حُرِمْـتُ منه لمّا كانت الظّروف متاحة أمامي أيام الدراسة غير أن والدي وقف جدارا منيعا أمام طموحاتي و تأمّلاتي لغد أفضل ، بينما غضّ الطرف لما كان الأمر يتعلق بأخي التوأم ! مع أننا ولدنا بنفس المقاييس و كان قد احتوانا رحم واحد و بآن واحد !!

🚗👸👸🚗👸👸🚗

فرحت بزواجها ، على أمل أن يتجدّد طموحها فتحنّ لمقاعد الدراسة و تكمل مشوارا كان ضروريا للحصول على شهادة الماستر بقيت معلّقة إلى حين . إلى حين و أحيانا كثيرة أُخَــر . أنجبت خلالها إبنها الأول ، إبنًا ذكرا ، جلب لزوجها سعادة مؤقتة . بينما هي فقد كانت تنظر إليه بامتعاض ! « لم أتوقع أن ينعتق من رحمي طفلا ذكرا ... ! .. سأوريه صنوف المراوغات حتى تصل أخته ، ثأرا لك يا أمي ، فلا تتصوري أنني أحنّ لهذا الصنف .. !! .. بل أشعر كأنه كائن غريب بيننا ، لم نتعوّد على هذه النوعية الرفيعة بالبيت ! هل تراني سأقدر على رعايته و العناية به !! ؟ ثم ، تنفلت منها غمزة لزوجها ، فيبتسمان ، ثم ، التفت اليّ يومها صهري ليعلمني أن هذا المولود جلب معه بعض حظ . فيوم ولادته ، وصلته رسالة مفادها أنه نجح بإحدى المناضرات التي أجراها و سيحصل بموجبها على شغل ، رغم أنه لا يتوافق و دراسته العليا ، إلا أنه توسم خيرا لهذا الباب فُـتِـح أخيرا بوجهه ، و بعث أملا بنفس ابنتي ، أنها يوما ما ستجد شغلا هي الأخرى يهديها بعض رضًا و راحة بال لمجابهة الحياة ..

إلا أن فرحتهما لم تكتمل و هما يستعدان لحفل طهور الرضيع . فقد عاد زوج ابنتي متجهّم الوجه معلنا أنه لم يستطع الحصول على سلفة من البنك ، وهو بأمسّ الحاجة لبعض المال لدفع مستلزمات المصحة و نفقات أخرى ... ذلك أن عملية الطهور كانت بقرار اضطراري بسبب توعك صحي للرضيع استوجب إقامته بالمشفى إلى حين شفائه .. ثم رأيته يهمس بأذن ابنتي . تغيرت ملامح وجهها . تبادلنا نظرات ثقيلة و سريعة . ثم ، صرّحت أخيرا لرفع كل توتّـر أو ما يمكن أن يشغلني بهكذا موقف : « سرق البنك الذي أودعنا به كل أموالنا بغية شراء منزل . كنت أود ان أطمئنهم ، بِـأن ذلك لن يفقدهم ما جمّعوه و أودعوه بحسابهم البنكي ! لكنها بادرت بالإضافة : - فعلها و هرب ، اختفى و لازالوا يبحثون عنه . - من هو .. ؟ سألت دون أن أفقهَ سبب ابتسامة ساخرة تخلّـلت نبرة حديثها ؛ - إنه أحد الموضفين بنفس البنك ، حاميها حراميها ... ، أجاب زوج ابنتي بأسف واضح .

- هو نفسه يا أمي .. هو نفسه ، ذاك الكائن الغريب الذي سرق أحلامي و فرحتي لمّـا كنتُ صغيرة ، .. و يبدو أنه استكثر علي بعض الملاليم التي أودعناها بحسابنا المحتشم ، بعدما نافسني بتلك الوظيفة ، كنت أجدر منه بها .. !

و تذكرت دموع ابنتي وهي ترى سيارتها الفاخرة تُخطف من بين يديها و لا حول لها آنذاك و لا قوة . ثم ، تناثرت ملاليم و دينارات ، حتى لا أقول مئات الملايين ، بلحظات غفلة من أصحاب القرار ، لوضائف تُسلّم بالخفاء للبعض بينما مستحقّـيها يقبعون خلف جدار البطالة ، أو خلف زوج يعيل بعضهم ، كما صهري يعيل ابنتي حاليا . فهي أنثى و بيت زوجها أولى بها من عمل أو مهنة ترهقها ، كما أخبرتني صديقتي ، والدة ذاك الشقي ، ذات يوم ، لما سألتني عن جيش البنات ببيتي معلنة أن مآلهن بيتا يأويهن و أطفال عليهن بعثهم من أرحامهن لإعمار هذا الكون ..


٧ مشاهدات٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page