top of page
صورة الكاتبAdmin

العصفور -  المنجي حسين بنخليفة – تونس


العصفور - المنجي حسين بنخليفة

--------------------------------- أشعلتُ سيجارتي الأخيرة من العلبة المرميّة بجانب المُطفأة المكوّمة بأعقاب السجائر، تتبّعتُ الدخان المنفلت من بين شفتي، الباحث عن فجوة من الشبّاك المُوارب كي يتسلّل إلى رحاب الشارع، الكلّ يسعى للانعتاق، الكلّ يحلم من ضيق المكان بالانفساح، حتّى الدّخان يفرّ من الضيق إلى الرحابة، ومن العتمة إلى النور! وتذكّرتُ ذلك العصفور. في الصباح أقف أمام هذا الكشك الصغير، المطلّ على مفترق الطرق، المتخم بأصناف السجائر المهرّبة، وبرزمٍ من الجرائد الملوّنة بصور تخدش للحييّ حياءه، من بابه الحديدي الأزرق نفث ما بداخله من جرائد ومجلّات، فتدلّت في حبال شُدّت وثاقها بالباب، المارّة المحمّلون بثقل دوامهم الوظيفيّ يصطفّون أمامه بشكل فوضوي كعادتهم كلّ صباح، يتزوّدون بالسجائر والجرائد لحرق طول حبال الثواني التي اعتصرت عمرهم، فسعوا لطويّ صفحات العمر كي يتحرروا بالتّقاعد من ناموس الوظيفة. القفص المعلّق على باب الكشك أسر بداخله عصفورا، أستعار من قوس قزح ألوانه، بها تزيّن، وبها يلفت كلّ عين وقفتْ أو مرّتْ بالمكان، كلّما حرّك جناحيه في ضيق سجنه كشف عن لون أسود كان يخفيه تحت جناحه، أيكون كلّ هذا الجمال للعابرين، ولون السواد يتجرعه لوحده؟ العابرون، المحمّلون بزاد قتل الوقت يطربهم غناؤه، إذا رأوه كَلَّ من الإنشاد حاولوا تقليد صوته بالصفير، علّهم يثيرون ما أخفاه من جمال الصوت والنغمات، أقول في نفسي ما أغباهم، أيظنون أن صفيرهم يثير كوامن نفسه، فيطربهم كلّما وقفوا أمامه ! أيظنون أنّ جمال زقزقته غناء ! أليس غناء السجين نحيب !... آه ما أقسى غناء السجين، حين يمرّ على القلب يشعل فيه لهيبا، لقد كنت مثلك أيها العصفور، قصائدي يظنّونها غناء وما هي إلاّ صراخ لروح تاقت لرحب الفضاء. وأمرّ من هذا الطريق، صدى صراخ زقزقته ينهش أذني، يمزّق هشيم الروح، يحملني على شراع الجرح لسنين تجرّعتُ ثوانيها ضنى، كنتُ مثله خلف كوّة تشابكت قضبانها، أصدحُ بالنشيد، لكن من يدري لعلّه يقول لي: أيّها الشاعر أراك مررتَ ككلّ الوجوه العابرة، سمعتَ نواح غنائي، عرفتَ سرّ أنيني... أتمضي ولم تمدد يدا تكسر سجني اللعين. الليل حين ألبسه رداء، يحملني سكونه إلى حيث ألتقي بي، تمزّق الكلمات صمت قصائدي، قصائد حملتها فكرا، حملتها ذكرى، حملتها عطرا لمن كانوا بالأمس معي، لكن نغمات ذلك الطير السجين، تنبع من روحي كرجع الصدى، تشق سكون ليلي البهيم، تبعثر كلمات قصائدي بين شفاهي، تذكرني بأن هناك سجينا ينتظر مني يدا تحمل بشائر فرج قريب. قبل طلوع فجر النهار، أرى صاحب الكشك مشغولا بكشف ستر ما حمل محله الصغير، وقبل مجيء المثقلين برتابة الوقت، وقفت أمام عصفوري السجين، رفرف بجناحيه، كشف عن عتمة بقعته السوداء، زقزق بنغمات أدركت معانيها، عرفت سرّها، ألست مثله في هذا الكون كشمعة يحرقها اللهيب، والآخرون يستضيئون بنورها؟ ألسنا كأعمدة من نور تشقّ ظلام السماء فيذهب ما حملته من ضياء في هذا الظلام هباء؟... سكتَ عن زقزقة بَوْحِهِ، كأنّه ينتظر مني مقالا؟ تلمستُ قضبان سجنه، اقتربت منه، همست له، وأعاصير الذكريات تهزّ جذورا في داخلي ظننتها قد طمرتها السنون: غناؤك يذكي لهيبًا بصــــدري وما هو إلاّ نواحُ الأسيــر لقـد كنت مثلك إذ طال أسري ومثلك كنــتُ أودّ أطيـــر* ثمّ سرتُ... حيث طار مع نغماته باتجاه طلوع شمس يوم جديد...

--------------------------------------------------------------

• الأبيات للشاعر التونسي : حسين الجزيري (1894 – 1974)


٥ مشاهدات٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page