القرودُ والضّباب (*) - الشاعر حسن منصور -------------------------------------- خَـرجَتْ من أوْكارِها مُسْرِعاتٍ || إذْ أطـلَّ الصّباحُ بعــدَ الغِـــيابِ أبصَرَتْ في الآفاقِ فجْراً جَميلاً || فــتَـنادَتْ تَخْــتالُ فـوق الرَّوابِي واطْـمــأنَّتْ واستَبْـشرَتْ بِحــياةٍ || كلُّهـــا هِــمّـةٌ لِـنَــيْـلِ الـرِّغــابِ لَـمْ يَضِـرْهــا أنّ الشّـتاءَ طـويلٌ || وسَـمـاهُ أُمـورُها في اضطّـراب بيـنَ برْدٍ تصْـطَــكُّ مـنهُ الثّـَنـايا || وهَـــواءٍ مُـزمْــجِــرٍ وسَــحـاب وضــبابٍ كأنّــهُ الْحُــلْــمُ يبْــدو || أوْ كطَــيْفٍ يَطـفـو على الأَهْداب فــــتَـراهُ ومـــــا تــكــادُ تَـــراه || يتـمَــطّـى في جـيــئَـةٍ وذَهـــابِ ******** خَـرجَتْ تلْكُمُ القُــرودُ وسارتْ || تَرْقــبُ الشّمسَ منْ ثَنايا الْحِـجاب كُلّـما لاحَ في السّحابِ انْفِـراجٌ || وبدَتْ مــنْهُ وَمـضَـةٌ في اقْــتِرابِ: اسـتَدارتْ رؤوسُهـا للأَعـــالِي || ترْتَـجي طَلْعــةَ الشُّعــاعِ الْخـابِي وتَراهــا في رقْــصَةٍ وصِـياحٍ || ونَعــــيـقٍ يَــرنّ بيـنَ الشِّــعــاب فـرْحةٌ في قُـلـوبِهـا جـعَـلَـتْهــا || لا تُبالِي الأَذى وحَـمـلَ الصِّعــاب ومَضتْ في سرورِها ساعِـياتٍ|| تطـلُـبُ الـرّزقَ في دُروبِ الْغـابِ حُــلُــمٌ في ضَمــيرِهـــا يتَلالا || كوَمـيـضِ الـبُـروقِ أو كالـشّهـاب كلّما لاحَــتْ قــمَّــةٌ من بَعــيدٍ || قــصَدَتْـهــــا بِسَــيْـرِهـــا الوَثّــاب لَمْ تُفكّرْ بِسَيْرِها كـيفَ يَمْضي || أوْ تُشاهـدْ غـيرَ الــذُّرى والقِــباب ******** ومَضى أكــثرُ النّـهـارِ عـليْها || وهْـيَ في نـشْـوةِ الأمانِي العِــذابِ بَهـرَ الضّوْءُ أعْيُناً شاخِصاتٍ || لِلأَعـــالِي فــي غَـــيْـبةِ الألْــبــاب وبدَتْ عينُ الشمسِ ترْنو ولكنْ|| فـي اعْـتِكارٍ يلُــفُّــها بالــضَّـبــاب ومشَى الغيمُ فوقَها فَــمَحــاهـا || مـثْلـما تُـمْــحَى أسْطــرٌ من كِـتاب طُمِـسَتْ وهيَ لِلقــرودِ مَــنارٌ || طـالَــما قــادَهــا بتــلـكَ الـرِّحــاب فأَضاعَـتْ أوْكارَها ودُروبـــاً || واضحــاتٍ تَهــدي بــِدونِ ارْتِيـاب خِـفَّــةٌ في ســيقانِهــا أخـذَتْهـا || لـطــريـقٍ تـبــدو بـغــــيـرِ إِيـــاب لَـمْ تُشـاهِــدْ وِدْيانَهـا غـائِراتٍ || كجَـحــيــمٍ تَحْـتَ السّــنا الْخَـــلاّب وأتتْ مـن كلّ الْجِـهاتِ رياحٌ || كـعـــوُاءٍ مـــنَ الذّئابِ الـغِــضــاب وتَغــشَّـتْها ظُـلـمَــةٌ وضــبابٌ || أســوَدٌ هــائِـجٌ كــمَــوْجِ العُــــبـاب ******** فـأَفـاقَـــتْ تلـك القـرودُ وثابَتْ || بعــدَ غَــيٍّ لِرُشـدِهـــا، لـلـصّـــواب أدرَكــَتْ بعــدَمــا تَــولّى أَوانٌ || أنّ ذاكَ الضّـــياءَ عَـــيـنُ السَّــراب وأرادَتْ تَلَـمُّسَ الـدّربِ حــقّـــاً || بعـدَ أن سارتْ في طـريقِ الــتَّـباب فـتـنـادَتْ مـذْعـورَةً إذْ أفــاقَـتْ || مــن كــَراهـا وحُــلْـمِــهــا الكـذّاب تطْلبُ الـنّورَ والـنّـجــاةَ ولكــنْ || أينَ مــنْـهــا طــريقُـهــا لـلـطِّـلاب! ضربَ الليلُ حولَها سـورَ رَيْبٍ || لَــم تَجــــدْ مِـنْ خِـلالِــه أيَّ بــاب واحْتَواها الظّلامُ جسْمـاً وَروحاً || مُطفِـئاً ما في روحِها مـن غِــلاب ساءَلــتْ عن دُروبِهـا كلَّ شيءٍ || فَـجــنَـتْ خــيْـبةً نَظــيرَ الْجَـــواب كُلّــمــا سارتْ لــلأمــامِ قـلــيـلاً || شَعــرَتْ في مَســيرِهـا باغْــتِراب ثم عــادتْ كـمَـــوْجــةٍ تَـتـلــوّى || لفــظَـتْـها دوّامَــةٌ في اصْـطِـخاب واسْــتـقــرَّتْ مَكانَهــا حائِراتٍ || تَتـَلــظّى مــنْ وَحــشَـةٍ واكْـتِــئاب وأقامَـتْ مكانَهـا وهيَ تَهـــذي: || (ليْـتَـنا كُــنّا كَــوْمـةً مــن تُــراب!) ******** وستَبْقى مُقــيمـةً في جَــحــيـمٍ || مـوصَـدِ الـبـابِ حـالـكِ الْجِـلْبــاب وستَـبْـقــى إلـى وِلادةِ جــــيـلٍ || مُسْــتـعِـــدٍّ لِـلأَخْــــذِ بــالأسْــبـاب وإلى أنْ يَجــيءَ فَــتْـحٌ جَـــديدٌ || يُنـقِــذُ الْجَــمْعَ من شَـبا الأَوْصاب ويُزيلُ الضّبابَ عنْ كُلِّ عــينٍ || فـتَرى في الصَّباحِ درْبَ الْمَــآب. ***************************************************************** (*) هذه القصيدة (عام 1986م) من وحي مدينة (أبها) في جبال عسير في جنوب السعودية، وهي مشهورة بضبابها وبوجود القردة فيها ويسمونها (الرِّبْحان ومفردها رَباح). ***************************************************************** الشاعر حسن منصور من المجموعة الخامسة، ديوان (لمن أغني) ط2 – دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع- عمّان 2014م – ص 12