أجازة - علي السيد ------------------ لا أدرى كم مضى من الوقت.. وانا داخل القطار.. القابع في المخزن .. أطل برأسي من النافذة المكسورة ..أرصد .. ألاحظ , أتأمل , كل ما يدور حولي .. وأتابع على طريقة الاستقراء والتتبع .. مع شدة الملاحظة .. تقع عينيَّ على العمارات الخراسانية , الشاهقة , الممتدة علي جانبي الطريق .. والعربات المرصوصة تحتها .. وأخرى تقطع الشارع بأزيز محركاتها , وأصواتها المزعجة التي تمخر الأذان , وتتعب الأعصاب .. وهى تجرى بسرعة مجنونه .. ُمخلفة ورائها سحب من الدخان الأسود الكثيف .. " يا لها من مدنية جمعت كل المتناقضات الجميلة , إنها " القاهرة " دولة " المعز لدين الله الفاطفي , بلد الألف ِمئذنة , بلد الأزهر الشريف , والأهرمات, وهبة النيل ".. والمترجلون علي قضبان السكة الحديد كالنمل.. يمشون مثنى , وفرادى.. وجماعات بعضهم يحمل أمتعته .. والأخريحمل حقائبه .. ومنهم من يحمل كراتين ورقيه , ومنهم من يحمل جِوالاً .. وانا جالس أراقبهم في مكاني المفضل بجوار النافذة .. مرهقاً , ومتعباً .. والإنهاك بلغ مني مداه ..أتأمل كل هذا في صمت , وتلك عادتي .. بل قل هوايتي الفضلة ..عندما أكون في سفر .. دائما أُحب أن أتابع كل ما يدور حولي , وما يحدث , بتدقيق وتأمل , وكنت في وضع استرخاء تام .. وهدوء يشبه الفتور.. ولا مبالاه .. غير عابئ بما يحدث . أنظر الي صديقي الجالس بجواري .. منذ ركبنا القطار.. وهو يغط في ثبات عميق .." بصراحة الواحد يحسده على ذلك .. كيف أستطاع أن ينام .. وسط كل هذا الزحام .. والضجيج المزعج .. وكأن النوم يضعه فى جيبه ..ويستدعيه وقتما شاء ..وأعجب له , ولا أدري كيف ينام ..؟.! ".. ألقيت عليه نظرة فاحصة.. كانت يداه ملفوفتان على صدره .. متكئاً على المقعد .. رأسه مائلة قليلاً على كتفه.. وكرشه ممتد أمامه.. فوق رجليه الممدودة للأمام .. وصوت شخيره المزعج , لا ينقطع .. ضحكت فى نفسى .. تبعتها بزفرة طويلة.. متقطعة.. ورحت أقل في نفسي .. ــ يا بختك يا عم.. بتعرف تنام .. وقت ما تحب..؟!.. وفى أي مكان تريد .؟! أخذت نفسا أخر عميقاً , أحتبسته برهة في صدري.. ثم اخرجته متقطعا.. وواصلت استرخائى على المقعد .. الذى فزت به بعد معركة , وسباق مع الركاب .. أخرجت سيجارة أشعلتها.. وأنا أتابع تدافع الأجسام , والزحام.. وزجاج العربات من بعيد , يعكس أشعة الشمس المائلة للغروب .. نظرت الي ساعة معصمي .. كانت تشير للثالثة الا ثلث عصراً .. شعرت للحظة أنى انتقلت للصين الشعبية.. استدعيت ذكرياتي الجميلة..ورحت أجترها..... " فحضر من الماضي بقوة , وجه فتاتي الصغيرة..ذات السابعة عشر ربيعاً .. والتي يشبه الملائكة .. أو نجوم السينما في أناقتها, وتألقها , وحضورها الجميل .. ملوّنة العينين ..شقراء .. ومثقفة جداً.. شعرها سبائك ذهبيه .. نحرها كالإبريز الخالص .. رائحتها أطيب من كل عطر اشتممته .. قوامها ممشوق .. مرحة , خفيفة الظل .. وأيضاً سريعة الملاحظة .. والبديهة .".. آآآه لكم أحببتها , حب عذري .. حب لدرجة الجنون .. كنت أنتظرها كل صباح .. وهى ذاهبة الى المدرسة .. وهى عائدة إلي البيت .. أو السوق .. وفى كل طريق .. تجدنى أمامها..أو خلفها..محاولاً لفت نظرها.. وشد انتباهها .. مرة بنظرة .. وأخرى بابتسامة .. وثالثةً بكلمة .. حتى استطعت أخيراً ..أن أكتب لها رسالة عاطفية .. وطلبت منها ميعاد .. وانتظرتها في المكان .. وكنت غير مصدق بأنها ستأتى .. ولكنها جاءت.. ووفّت.. وكانت مفاجأة سعيدة بالنسبة لي..سلمت عليها, ووضعت يدي في يدها ..وكانت تلك هي المرة الأولي التي تلمس يدي يدها.. فأحسست بشيءٍ غريب .. وإحساس لم أجربه من قبل..جعلني أشعر بأني أطيرفي السماء.. وبأنى قد ملكتُ الدنيا بأسرها.. وقبل ان أتكلم معها .. ابتسمت , وسألتني .. وعيناها في عينيَّ ــ " وأخرتها معاك " . ؟!. فأخبرتها .. وانا أنظر في عينيها الجميلة .. وقلت لها ــ أنتِ الماضي .. والحاضر .. والمستقبل .. وكل شيء عندي .. بل أهم شيء في حياتي .. ولن أستطيع العيش بدونكِ ..." .... انتبهت .. هرج , ومرج يملأ المكان .. وقد ازدحمت عربة القطار بالبشر .. وأغراضهم , وأمتعتهم .. حتى صارت مكدّسة كعلبة سردين .. والضجيج لا يُحتمل.. فأنا أكره الصخب , وأحب الهدوء , فالصخب يقلق .. ويوتر أعصابى ويشتت أفكاري .. نظرت الى المقهى .. القابع تحت المحطة .. لاحظت أغلبية الجالسين عليه شباب .. وإعلانات ضخمة , فخمة معلقة في كل مكان .. وعلى طول السور الممتد.. تحسست استمارة السفر الخضراء , القابعة فى جيب السترى الميري ..والراقد بظهرها التصريح .. أخرجته.. وقرأت بصوت مسموع .. وللمرة التاسعة ــ " يصرح للمذكور بالغياب من الوحدة العسكرية ...... من الساعة ...... والى الساعة ........ " .. ... " ثمانية أيام سأنام فيها نوماً عميقا .. متواصلاً .. لا يقلقني , ولا يزعجنى ولا يوقظني أحد .. ولن أقوم من مرقدي , إلا للأكل .. والذهاب الى الحمام , وفقط .. ثم أنام مرة أخرى .. فلا طبور صباح .. ولا قطاع نظافة .. ولا طبور تمام .. ولا خطوة معتادة .. ولا طبور سلاح .. ولا جري في المكان .. ولا اجمع في طابور الهتاف .. ولا شئ من هذا القبيل , ثمانية أيام سأكون فيها حرا.. طليقا من غير قيود أو إنضباط , أو أوامر عسكرية..أو تقرير ضابط نبطشي او دوّر مكتب.. او.. او ." يااااه .. شعور لذيذ أن تكون حراً .. وأجمل منه أن تكون طليقا كالعصافير.. والفراشات .. انا عن نفسي أكره الروتين .. والتكرار.. والرتابة , التي تورث الملل والاكتئاب .. شعور رائع .. بل اكثر من رائع .. كلما تذكرت أنى حر .. ولو لوقت قصير ومحدود .. واحساس بالفرحة يغمرنى .. كلما اقترب الوقت .. والسعادة تتملكني .. لإنى فى أجازة ثمانية أيام .. " كلها ساعات قلائل .. وسأكون في بلدي الحبيبة " طهطا ".. مسقط رأسي .. وسط أهلى , وأحبابى , أبى , وامى , واخوتى .. وأبناء إخوتي الأعزاء " دار ببالي للحظة كلام الشاويش .. " فرّاج " .. " يا عسكري يا بعكوك .. انت , وهو , وهو, إيديك فى القايش.. وركبك لازم تخبط في صدرك .. كما كنت يا عسكرى .. ثابت .. إبدأ من جديد " .... ابتسمت في نفسي .. رفعت الكاب الزيتى فوق راسى .. وعينايا تمسح الرفوف المكدسة بالحقائب , والكراتين , وأقفاص الطيورالمستسلم بعضها للنوم .. فوق بقايا الطعام .. تذكرت صديقى النائم بجوارى .. القيت عليه نظرة .. كان لا يزال نائم .. فرطت ساقيّ المتعبة .. تحسست " البيادة " التى خلعتها من قدمي آنفاً .. بعدما اطمأننت على حقيبتي .. وأنها لم تزل فى مكانها ..على الرف فوق رأسى .. ضغطت على أطرافي .. التي تؤالمني كثيرا جدا.. من كثرة المشي.. والوقوف في الخدمات وطوابير الياقة البدنية أغمضت عينيَّ في محاولة يائسة للنوم .. وأردت أن أنام كصديقى.. وأخذت أفكر في البلد.. وأتوقع ماذا سيحدث عندما أعود .. وأصل إلى البيت.. ورحت أتخيل ..: " أبى , وامى .. قطعا يعرفان أني سآتى إليهما الليلة .. فهما يعدان الأيام والليالي , حتى أتي اليهم .. لذا سأجدهما مستعدان لمقدمي .. أمي محتفظة لي بنصيبي من الطعام " قطعة كبيرة من اللحم ".. كعادتها .. وأبى قد جمع لي مبلغا من المال .. ليعطيني إياه .. حتى أستطيع أن أصرف منه .. وسيسعدان ويفرحان كثيرا جداً .. لعودتى إليهما بالسلامة .. حامدين الله على رجوعي اليهما بالسلامة .. أبى سيضمنى بين ذراعيه السمراوين .. الحانية إلي صدره العريض .. يحتضنني بقوة , وحنان .. ويقبلني بين عينيَّ .. وهو لا يستطيع أن يمسك دموعه المتساقطة .. على وجنتيه السمراوتين .. الذى أبى الزمان إلا أن يترك بصماته عليها.. ثم ينفلت ضاحكا بملء فيه.. وهو يقول ليّ بصوت متحشرِج .. ونبرات مرتعشة كأوراق الياسمين حين يداعبها النسيم .. وهو يهزني من كتفي برفق : ــ " والله اكبرت يا واد وبقيت راجل وعشت وشفتك دفعة قد الدنيا.. تحمى بلدك ووطنك , وأهلك .. " فتدخلني كلماته تغسلني.. وتطهرني , وتنقيني من كل تعب.. ثم يسترسل في الحديث معى.. ليحكي لي عن شبابه , الذى دائما ما يترحم عليه.. وكيف كان عسكريا منضبطاً .. في " الجهادية " ـ هكذا يطلق عليها دائما ـ وكيف حارب الإنجليز .. حتى غاروا عن بلادنا.. وعن العسكرية في أيام زمان .. وكيف صارت ألان .. وانا أستمع له فى حب .. وإهتمام بالغ النظير.. وسعيد بهذا , وفخور به.. وأمي لجوارنا .. تعد لنا الطعام ..وهى تستمع معي .. وتقاطعه من حين لأخر.. بسؤال ساذج.. وربما بضحكة حلوه .. ثم نجلس نتناول الطعام .. وهما يتحسسانى بعينيهما .. وكأنهما يتباريان فى إستكشافى .. وكأنهما يبحثان فيّ عن شئ لا أعرفه , أو أجهله , بنظرات فاحصة .. حانية .. محببة .. وكأنهما يراني لأول مرة .. أو كأنهما يتباريان في مسابقة أبوية .. عطوفة , سريعة .. فيمن يكتشف , أو يلاحظ علىّ شيء جديد قد تغير.. وانا سعيد , ومغتبط بهذا الإهتمام الذي أراه .. وأجده منهما .. وكأنهما أزال عنى كل ألآم الدنيا .. وأوجاعها.. وعندما يأتى دورى فى الحديث .. حتماً سأقص عليهما بفخر..واعتزاز .. كل ما حدث معي .. وما كان منى , مذ فارقتهما في المرة الأخيرة .. وحتى عودتي اليهما .. وسأصف لهما ما رأيته , وشاهدته .." كرنيش النيل .. ومترو الأنفاق .. الذي يمشى تحت الأرض , والمصعد الكهربائي , والأهرامات , وأبو الهول , والزحام الذى قد ملأ شوارع مصر, وزحمة المواصلات , والناس مثل النمل, والجبل الأحمر.. ومدرسة الشؤون المعنوية .. وميدان الرماية .. والتدريبات الشاقة التي نقوم بها .. وعن الميري الذى طق , ومات من ابتدعه , لأنه لم يقدرعليه , والإنضباط العسكري .. ولم , ولن أنسى أبداً.. في خِضَمْ الحديث أن أخبرهما عن النشيد العسكرى الذي تحاربه إسرائيل, من أجل أن ُتلغيه من الجيش , أو تغيره " كذا قال لي الشاويش " فراج " .. " وأن العسكرية المصرية هي المدرسة العليا للوطنية.. وهى عرين الأبطال .. ومصنع الرجال على مر العصور والأزمان " .. إحساس لذيذ ورائع راح يتسرب بداخلى , ويتوغل ويسرى فى دمى .. أطرب له كلما تذكرت تلك اللحظات الجميلة , التي عشتها وسط رفاقي في مركز تدريب وأيضاً سوف تأتى علىّ, بعد سويعات قليلة.. وقد شدّ بيتُنا عن أخره.. وأعلن حالة الطَّوارئ لاستقبالي الليلة .... "بالأمس كانت عيناي مصحصحة على الأخر في خدمة " البر نجى " وأنا واقف من حديد , شادد .. ومقفزّ.. والسلاح متقاطع على صدرى .. والخوذة فوق رأسي .. والشدّة كاملة على ظهري , وعيناي في وسط رأسي , ومع كل ذلك , الشاويش " فراج " كان يريد تعليقي في الخدمة , لولا ربنا ستر , وعدّ ت الخدمة بسلام .. الشاويش " فراج " ماسك مكتب الأفراد , ولإرانيك الذنب , والتصاريح , واليومية التي يحملها ـ كل صباح ـ الى مكتب العميد, ليوقّع عليها , وهو الذي ُيدوّرمكتب , ويا ويل من يجده نائم , أو تارك للخدمة , أو متكاسل , أو جالس , أو حتى فاتح الراديو , أو يراه يُشعل سيجارة أثناء الخدمة , أو واقف والسلاح بجواره , أو غير متقاطع على صدره , أو غير ذلك , كل ذلك يثبته في تقرير ظابط نبطشي , ثم في الصباح يدوّر مكتب.. ويوقّع عليه الجزاء المناسب .. ويحرم من الأجازه , حتى يقضى فترة الإنضباط العسكرى .. في الصباح بعد ما نزلنا من " الميس ".. وأخذ كل واحد منا .. قطاع النظافة الخاص به .. وقفنا في الطابور, وانتهى اليوم بسلام .. إستبقنا إلى العنابر.. لنغير ملابس اللياقة البدنية .. وارتدينا الأفرول المموه.. دقائق معدودة وكنا في أرض الطابور أخذنا نتشمم .. ونتسقط الأخبار .. حول المكتب عن اليومية .. كل بطريقته الخاصة , فلا أحد يعرف.. متي سينزل اليوم , حتي ينادى علينا لنستلم التصاريح.. وقتها عينيَّ كانت ترصد كل حركة.. فى مكتب الأفراد .. شأني شأن كل زملائي .. من الداخل .. ومن الخارج .. وما أن أُوكلت اليومية للشاويش " محمدعبد الهادى " ليكتبها, ويذهب بها ليمضيها من العميد .. حتى هرعت أسأله ..عن من سينزل أجازه , ومن الدفعة اليوم .. وإن كان إسمى فيهم أم لا .. فسمعت ضحكته المتميزة ..وعيناه لم تغادر الورقة والقلم وهو يهز رأسه بلإ يجاب .. فاكتفيت بإشارة رأسه دون أن أدعه ينطقها .. فقد فهمت أن إسمي فيمن سينزل أجازة اليوم .. حتى إنطلقت كالطلقة صوب عنبر المستجدين .. بعد أن ألقيت له سيجارة على الدفتر .. وفي لمح البصر كنت أمام الدولاب الخاص بي.. فتحته بيد.. ورحت أفك أزرار السترة بيدى ألاخرى .. وفى اللحظة ذاتها كانت رجلاى تتخلص من الحذاء " البيادة " خلعت حذائي .. ثلاث دقائق فقط .. بالبدله الزيتي المكوية " زى الفسحة " والبيادة النص ملمعة .. فقد كانت اطرافى كلها تعمل فى وقت واحد , ومخي سارح في البلد.. وكأنى أصبحت ألة كهربائية , أو مكنة .. ثلاث دقائق فقط وكنت وقفت أمام المكتب , بجوار العنبر.. الذي يطل علي أرض الطابور, ومكتب العميد , والبوابة وعيناي قد علقت على مكتب العميد .. قرب البوابة ,والمطلة ايضاً على أرض الطابور.. والجنينه التي في الفناء .. والعنابر, والميس , وكل شئ فى الكتيبة , أشعلت سيجارة.. وأنا أحاول ان أُهدأ نفسى , وأسكت إطرابى المتزايد .. والتوتر .. وشعورى بالجوع .. منتظر نزول اليومية من " فوق " .. من عند العميد .. أقتربت من خدمة السلاح ..الواقفة تحت " التنده" الصغيرة .. لتحتمى بها من حرارة الشمس سألته على الغداء ضحك بصوت مرتفع .. متهكم مني ــ أنت مش نازل أجازه ومروح أجازه النهاردة بتسأل ليه علي الغداء بقي " ؟! ــ ولكن سأتأخر على النزول.. والواحد منا جاع . وأرتفعت قهقهات ساخرة ــ" أكيد أكيد أنت يا يولد..داخل الجيش على طمع" ودار الحور بيننا.. وأخذنا نضحك .. ويسألاني عما سأفعله .. حينما أخرج من الوحدة ..وأروح البلد .. ؟ وطلبا منى أن أفتكرهما في الإجازة .. وأسلم لهما على أبواي .. وألاصدقاء , وألاحباب وأن أفتكرهما برصك .. بحاجه حلوة أجلبها لهما , وانا جاى ووعدتهما بذلك ...... داخلني شعور غريب .. مذيج من الفرح .. بالنزول للأجازة ..لأرى أهلي , وناسي , وأحبائي وفي ذات اللحظة الحزن على فراق أصدقائى .. الذين أكلت معهم عيش وملح .. والمكان الذى ألفته حتى صار في دمى .. وكذلك المعسكر, والمباني والمعدات .. وكانت الدقائق تمر ببطء شديد جداً .. أستأذنت من الخدمة .. وانصرفت سحبتني قدماي الى المغسلة .. جلست تحت شجرة الكافور الكبيرة أستظل بظلها .. والهواء الجميل يداعب الأورق علي الأغصان .. والشمس تمرر شعاعها .. ليقع ضوئها على الأرض ..على هيئة دوائر صغيرة .. تتراقص.. والعصافير تزقزق .. والقمرى .. والهدوء يلف المكان , فى جو شاعرى .. أشعلت سيجارة أخرى كانت فى جيبى .. ورحت انظر الى أغصان ألأشجار , وهى تهتز .. وترقص مع الريح .. لتصدر حفيف جميل .. والورق الأصفر يتطاير فوق الأرض , بكثافة.. مما جعلنى أغوص فى تأملات عميقة .. في هذا الكون .. وكل شيء في الوجود .. شجر الكافور يملأ الصحراء بكثافة .. وانا منذ أتيت الى هنا .. وأنا بحلم فى يوم أستيقظ فيه.. وأجد جميع أوراق الأشجار قد سقطت .. أو جفت , أو نشفت .. فالأورق تلوث قطاع النظافة .. الموكل به أنا كل صباح .. وثلاث نفر من زملائى .. واحد يكنس , والثانى يقم ألأوراق .. والثالث يروش .. والرابع يسحف الأرض .. طقس يومي , لا يمكن أن ينفك أو يتغير .. الا بالموت .. أو ألاجازة التي أنتظر تصريحها ألان .. نظرت الى ساعة معصمى .. فوجدتها الثانية بعد الظهر..ها هو "محمد عبد الهادي " لم يزل يتمشى .. وهو نازل من عند العميد .. بعد ما مضى اليومية .. يتطوح فى مشيته .. يتمايل .. وهو يغنى اغنيته المفضله . "علمني حبك يا امرأة .. أن ادخل مدن الأحزان " هرولت العساكر نحوه.. أحطنه من كل جانب .. كالنحل التفوا حوله .. سألونه بلهفة عن اليوميه .. هل إتمضت أم لا .. ؟ ...وهو يصرخ فيهم .. ويدفعهم عنه بهزار .. ويقهقه بصوت عال .. ويجري أمامهم .. وهو يقول ــ " يا عسكري يا طلبه.. منك ليه , لِه. ِله. لُه .." يجرون خلفه يلحقون به .. يشدّونه من كل جانب , وهم يستحلفونه برحمة أبيه , وأمه .. بأن يخبرهم , فيضحك وهو يجيب فضولهم .. - " أنترجونى شويه كمان " - " يارب تعلق شريطين كمان " ينظر الى كتفه بفخر .. وإعتزاز .. ويضحك مقهقهاً .. ثم يقول لنا : ــ طاب روحوا البسوا بسرعة.. وحذارى , وإياكم أشوف واحد منكم فى الميس .. أرشقه على البرج , أو البوابة .. إنتوا عوزين تأكلونا بذر وجدر ولا ايه ,انا عارفكم دخلين الجيش على طمع يا ولاد الذين ..هعهعههه ..ههههههه .. ههههههه " محمد عبد الهادي " دفعة مثلنا , لكن لحسن اخلاقة وجودة خطه , جعلوه سكرتارية , إنسان طيب القلب.. ومتواضع جدا , مرح .. انا عن نفسي بحبه جداً , وأيضاً لكل الدفعة , اشعر انهم اخوتي , وليسوا أصدقاء, وكلنا نتبادل نفس الشعور , والإحساس.. لدرجة إني لو واحد منا , سلم مهماته , وأنهي خدمته , أو حتى أُنتدب إلي مكان في سلاح أخر كلنا يبكي عليه ويتمني أن يبقي ولا يفارقنا , أو نفارقه .. " أحلى صداقة صداقة الجيش " هاهو " محمد عبد الهادي , يرفع عقيرة صوته بالغناء " علمني حبك يا امرآة أن أدخل مدن الأحزان" فهو من عشاق كاظم الساهر,وقبل أن يصل الى مكتب الأفراد .. ماراً بأرض الطابور.. والمنصة , وعنبر المستجدين .. وعندما يسمع الشويش " فراج " صوته.. يقف على باب مكتبه.. ليزعق فيه , وهو يبتسم , و" محمد " يواصل الغناء وهو يشير بيديه في الهواء وكأنه يحيي الجمهور , نسبق" محمد عبد الهادي الي مكتب الأفراد, ونقف أمام الشويش " فراج " وما أن تصل اليومية الممضية , وينظر فيها , حتي يقول لنا : ــ " روحوا إلبسوا قوام ..عشان أديكم التصريح .. ومحدش يجينى لوحده .. كلكم تدونى تمام هنا , أمام المكتب , عشان أديكم التساكر.. وتطلعوا مع العربية .. ولا تراكم الشرطة العسكرية.. وتوصلوا بسرعة وتلحقوا القطار.. وتروحوا بدري شوية في النوارة .. ووعوا تتأخروا في العودة.. واللى هيتأخر ساعة وأحدة .. عن ميعادة هعتبرها له يوم غياب.. وانتوا حرين .. وانا مش مسؤل عن حد فيكم " اسمع من يقول معى ــ " تمام يا يفند " وهو يقول لنا ـ " أتفضلوا روحوا أدخلوا العنبر وغيروا " .. ويدخل " محمد عبد الهادى " مكتب الأفراد .. مع الشويش " فراج " لكى يكتب التذاكر .. وهو خلفه يرفع بنطاله على حقويه بيده.. واليد الاخرى على كتف " محمد عبد الهادى "وأنا أتحنن فيه كى يعطينى التصريح,حتى أمشى لوحدي , وألحق القطار .. فرفض .. وأنتظرت .. حتى تجمعنا كما قال .. أخذت التصريح سلمت على خدمة السلاح .. والبوابه .. ثم مرقت كالطلقة للخارج لوحدي ..ودون أن أنتظر العربة الخارجة . " إنتبهت كان القطار مازال واقفاً فى المخزن .. يستقبل الركاب .. أرى أناس تصعد لتشغل المقاعد الشاغرة لزويهم .. وأخرين فى ردهت القطار.. فى أنتظار أخرين على الرصيف .. يزدحم القطار بلواقفين على اقدامهم فى ردهت القطار.. والذين بين الكراسى .. والجالسين فوق الرفوف وخلف الباب .. ساعاتٍ قلائل .. واكون فى بلدي " عليَّ ان استحملهم علي أي وضع ".. هكذا حدثتني نفسي .. تململ صديقي النائم بجواري .. أصدر صوتا يشبهه الغطيط .. عدل من جلسته على الكرسي .. ثم عاد إلي ثباته العميق .. وراح يغط فى نومه من جديد , وله شخير. " النوم مملكة .. وصديق ظريف أن طلبك أراحك وان طلبته أعنتك .. حقا إنه لمخلوق عجيب .. وعالم ساحر, لطالما حير العلماء .. والباحثين , على مر العصور والأجيال..إنه لغز الأغاز, وسر الاسرارالذى لم يستطع كائن من كان , وإلى ألأن أن يفك شفرته , وطلمسه الغريب العجيب , كل ما أستطاع الباحثون , والعالمون حياله .. أنّ يدوروا حوله , ويطوفوا حول سره .. من غيرأن يستطيعوا الدخول إلى عالمه الغريب..ومملكته الساحره.. ذالك الحارث على بوابة الغيب البعيد , سبحان الله .!" أخرجت إستمارة السفر الخضراء , الراقدة في جيبي , نظرت في التصريح المطبوع في ظهرها أخذت أقرأه , للمرة العشرون ..." يصرح للمذكور ...... بالغياب عن الوحدة العسكرية من تاريخ ...... إلي ... " أول شيء سأفعله..عندما أصل الى البيت.. كوب من الشاي الساخن ..أعدل بيه أم دماغي.. ثم بعده حمام ساخن .. أزيل به ما علق بي , من وعثاء السفر.. ثم أكل لقمه ساخنة.. وقبل كل ذالك أخلع الزى الميرى , حتى لا يتسخ , ثم أنام نومةً عميقةً .. دون أن يوقظنى أحد ..سأنبه عليهم وأخبرهم بذالك .. أدخلت التصريح في جيب السترة الميرى .. يدي تصطدم بالرادىو الترانزستم الصغير.. الذي اشتريته من الدفعة " إسلام " بمركز التدريب .. لأقتل به الفراغ , والملل.. قربته من النافذة , أدرت المؤشر.. صفع اذنى صوت أجش .. كان تعليق على نشرة الأخبار."لا بأس" فأنا لا احب الاخبار اصلاً.. ولا متابعة برامج " التوك شو" في الفضائيات .. اسمع المذيع وهو يقول : " إسرائيل مازالت تواصل .. اعتداتها على قطاع غزة.. واستفززاتها ببناء المستوطنات .. وعدم رضوخها للقوانين الدوليه .." ((اسرائيل لا تستمع لاى نداء.. صمت اذنيها.. وكأنها لا تسمع.. ولا ترى وأمركا تكيل للعالم العربى بمكيالين بعدما نصبت نفسها كشرطيا على العالم الثالث )) . أتخنقت.. ولم أستطع أن اواصل الأستماع .. أدرت المؤشر مرة أخرى .. شنف أذنى صوت العندليب وهو يشدو .. ويصدح بأغنية وطنيه جميلة , محببة الى نفسى جداً.. فرحت أردد معه بصوت خافت " أحلف بسماها وبتربها .. أحلف بالمدني وبالمدفع .. ما تغيب الشمس العربية... طول ما أنا عايش فوق الدنيا .. احلف بسماها وبتربها .. " برهة قصيرة تسلل النوم خلسة .. الى عيناى المتعبه .. فأنا لم اذق طعم النوم منذ ليلة أمس .. وقبل أن يحاول النوم سرقة عينيَّ .. وقبل أن أستسلم إليه تماماً .. طرده صوت أجش جهورى , عالى جداً .. لرجل أدمي ضخم الجته.. جالس فى آخر العربة .. يزعق بكل صوته على ولده , يناديه وهو ينهره ويأمره أن يجلس مكانه , حتى لا يتشاجر مع احد, أو يجلس مكانه أحد , وإبنه يرد عليه ويقول له وهو يضحك ــ " تعبت من الجلوس يابا... والقطار باقي على قيامه نصف ساعة ..".! وقفت..عدلت من هندامي..ورميت بصري من النافذة .. وأنا أتابع الشمس التي تسحب عباءتها البرتقالية لتختبئ خلف الجبل .. سرح عقلي بعيدا .. وتذكرت أول يوم .. التحقت فيه الى قواتنا المسلحة ....... ............. " يتابع "