تشرد - علي السيد
--------------- والجوع يفترسه.. جلس في ظل شجرة .. في احدي الحدائق العامة ..المفتوحة مضغ لسانه بفكيه .. بلع ريقه الجاري .. فروائح المطعم الفخم .. الرابض امامه تختلط في انفه ..عصر بطنه بين يديه.. نظر للأجسام المتخمة باللحم .. القابعة فوق الموائد.. المفروشة بالطعام .. تلك الأجسام التي لا تنظر .. إلا للذي امامها تذكر امه التي اخبرته ذات يوم بانه " ولغ من لبن الكلبة " فله " حتي انتفخت بطنه.. وشبع .. وكانت تفعل ذلك مراراً.. كلما رأته يبكي .. لذلك تعلل أمه ــ لجارتها ــ نشفان دماغه.. وطبعه العنيد ..ولآنه .. ومنذ الصباح .. لم يدحل جوفه شيئاً .. غير الهواء .. والماء وتعب من كثرة المشي .. في الشوارع .. وهو يعرض نفسه .. ككلب ضال .. علي اصحاب المقاهي .. والمحلات التجارية .. والمطاعم .. لعله يصعب علي احدهم .. فيتخذه ابناً .. أو عبداً يخدمه ببطنه .. ولكنه لم يجد .. قلباً رحيماً .. شعر بالتعب يفت في عظامه .. وبمرارة الصبار في حلقه .. اوي الي حديقة بدت له .. أسند رأسه المتعبة .. علي حجر صغير .. ومعدته خاوية .. فمنذ يومين .. وصورة امه .. والكلبة " فله" أمامه .. تمني ان ينقلب لكلب كبير للحظة .. غفي قليلاً .. فرأي فيما يري النائم .. وكأنه .. وبقدرة قادر .. صار كلباً جميلاً .. غير انه لا يعلم .. إلي أي اجناس الكلاب ينتمي .. شعر بالسعادة للحظة .. لأنه صار كلباً .. كما يتمني ..رأي الدنيا مختلفة من حوله .. عما كانت عليه تماماً .. تملكه احساس غريب .. ولم يجربه .. أو سبق وان تعامل معه من ذي قبل .. رأي المطعم مازال مرابضاً أمامه .. تزين وجهته الألوان .. المرتعشة الزاهية .. ويافطة كبيرة .. كتب عليها .. بالخط العريض .. " وكلوا وشربوا من رزق الله " وشلالات الضوء .. المنبعثة من المصابيح .. المصطفة علي جانبي الشارع .. تحيل الليل الي نهار ..صاخب .. والمارة تسير في حركة دائبة .. لا تقل .. ولا تمل .. ولا تنقطع .. سار بمحاذات الرصيف .. حتي لا تضربه عربة مجنونة .. والهواء البارد .. المشبع بالماء .. والدخان الأبيض يخرج .. من انفه .. وفمه .. علي هيئة دوائر صغيرة .. لاحظ الناس تفر منه .. وتنفر .. وتبتعد بعيداً عنه .. مشمئذين ومتقززين تارة .. وخائفين اخري .. وقف امام المطعم الكبير .. يهز زيله .. ولسانه خارج فمه .. يعوي بصوتٍ متقطع .. ضعيف .. وكأنه يرجوا الجالسين .. ان يلقوا اليه شيئاً ما مما في ايديهم ليأكله .. فضحكت جثة منتفخة .. علي احدي الموائد .. وهو ينظر اليه بأشفاق .. وهو يمصُ عظمة صغيرة .. لفرخة محمرةٍ .. ثم يلقي بها بعيداً .. أمامه .. يجري .. ومن قبل ان تقع علي الأرض .. يلقفها بفمه .. بحركة خفيفةٍ .. سريعةٍ .. بهلوانيةٍ .. وخاطفةٍ .. اثارت انتباه الجالسين .. فتوالت عليه بقايا الطعام .. هز زيله الجميل .. وكأنه يشكرهم .. وهو في سعادة بالغة .. وقبل ان ينهمك في الأكل .. وعلي حين غفلةٍ منه .. سدد اليه صاحب المطعم .. ضربة قوية .. علي أم رأسه .. أوجعته .. وكادت ان تفقده الوعي .. لولا انه تماسك .. وفر هارباً وهو يعوي .. وينبح .. ويعوي .. فانفلت الضحكات المجنونة .. والتعليقات الساخرة .. اللاذعة ..من الذين كانوا يأكلون .. وقف غير بعيد .. وهو ينظر نحو المطعم .. وينبح .. ممنياً نفسه بالرجوع اليه مرة أخري .. ولكن الرجل الواقف امام المطعم .. بعصاه الكبيرة .. جعله يغير بغيته .. ووجهته .. ليكتشف ان هناك مطعم ثاني.. فيسيل لعابه من جديد .. للروائح المتسربة ..من خلف الزجاج الي انفه .. يتكوم في حسرةٍ .. علي بقعة من الأرض المرشوشة اللينة .. وقبل ان يمسح النوم عيناه .. يري رجلاً قزم .. نحيف .. يقترب منه .. وفجأة يجري عليه .. وفي يده آلة صلبة .. ليضربه بها .. فينطلق .. يعدو كالريح .. وهو ينبح .. ويعوي .. ثم يكتشف .. مطعم ثالث .. ورابع .. وعاشر .. وفي كل مرةٍ .. يفكر فيها .. بالاقتراب .. ليأكل .. أو يستريح .. يجد نفسه مطارداً .. وغير مرغوب فيه .. ثم , وفجأة , وبالصدفة المحضة .. تظهر امامه كلبة جميلة .. أقترب منها .. هزت زيلها .. تشممها .. نبحت , فنبح .. عوت , فعوي .. جرت أمامه .. فوجد نفسه يجري خلفها .. ليكتشف انه في احدي الخرابات .. البعيدة عن العمران .. " مقلب زبالة كبير " نبش فضلات القمامة .. بحثاً عن الطعام .. قمقم .. أكل حتي شبع .. والكلبة واقفة أمامه .. تنتظره .. تهز زيلها .. تنظر اليه .. وتنبح .. يقترب منها .. يدور حولها .. يتشمم خلفها .. تنثني نحوه .. تضربه بيدها .. تعضه .. تعوي .. تهز زيلها .. غير مبتعدة عن وجهه .. وحين استجابت له .. فجأة .. الأطفال تخرج من تحت الأرض .. يتصايحون .. وهم ينقرونهما .. بوابل من الحجارة .. يسكن حجر صغير في رأسه .. فيسيل الدم منه .. دافئاً .. وغزيراً .. علي وجهه .. يجري .. ينبح .. يعوي .. يصيح .. يستيقظ .. فزعاً .. مذعورا ..مرتجفاً .. يجد نفسه في وسط الليل .. والناس من حوله .. تقبل وتدبر .. بلا مبالاه .. يتحسس رأسه .. المشدوخ .. كانت لم تزل في مكانها .. ولم تزل بخير.. لم تتعور.. فحمد الله علي سلامته.. نهض .. وهو ينفض ثيابه .. المعفرة .. لعن .. وسب الدنيا .. والناس .. والكلاب .. والفقر .. والجوع .. كور تفةٌ كبيرةٌ في فمه .. قذفها بكل قوة .. في وجه الدنيا والحياة .. تمتم ساخطاً .. " طظ " .. وراح يجر قدميه المتعبة .. ليطوف في الشوارع من جديد .. يمارس التشرد .. عارضاً نفسه .. عله يجد صدراً رحيماً .. أو قلباً عطوفاً .. ليتخذه أبناً .. أو حتي عبداً .. يخدمه .. و........