الرحيل - ليلى عبدلاوي -----------------------
حل المساء...العتمة على اشدها..لا أثر للغيوم..البدر يتراءى في تمام اكتماله.. النجوم تنتشر على الاديم الاسود..... الحافلة التي انطلقت من وجدة في عصر اليوم متجهة الى طنجة قطعت نصف الطريق.. الركاب الذين تمددوا على الكراسي ينصتون مكرهين لأهازيج شعبية .يتمايل لها السائق طربا..رافعا صوته بين الحين والاخر لترديد بعض المقاطع... كانت أستر تسلي نفسها بمنظر المروج الشاحب من خلال النافذة..تجاهد لتمنع الدموع من التساقط على خديها..ادارت وجهها يمينا.. والدها الجالس الى جنبها يغالب النوم..عيناه تضيقان شيئا فشيئا بيده كتاب الديانة مفتوح على ركبتيه.....على أم رأسه طاقية صغيرة و على كتفيه ثوب ابيض مخطوط باللون بالازرق..تراه استر لاول مرة لم يكن يبدو عليه انه يشعر بهذا الشجن الذي يستبد بها في هذه اللحظات من الليل.. خيل اليها انها ترى شبحا يبتسم لها بين الاشجار المتسارعة على جنب الطريق...وجه مضيء. عينان واسعتان...منى..اين انت يا صديقتي؟..اين مني تلك البسمة الرائقة الصافية..؟أين انت يا توأم الروح والفؤاد؟.كنتم اسرتي الثانية..كم الفتكم ..تقاسمنا كل شيء...من مقعد الدرس الى دفء البيت..كم ألفتكم !كم أحببتكم..!لم تفلح تهديدات والدي في ان تجعلني ابتعد عنكم... منى..لا اتصور حياتي في باريس بدونك.. تذكرت لحظة الفراق....ما أقساها!!..ما امرها على قلب غض فتي !! ..اشتد العناق .توالت القبلات...تواعدتا بالمراسلة باستمرار.. تلمست استر ضفيرتها الشقراء...مايزال مكان الخصلة التي قطعتها منى شاغرا... أحست بالبرودة تسري في جسدها.. يبدو أنها ودعت الدفء في بيت الاسرة العريية التي جاورتها طيلة طفولتها..في ذلك الحي الشعبي بوجدة.... الحنان..الرعاية الذي الفتهما رفقة منى وأسرتها بعد وفاة امها..طبق (الرقاق) الساخن الذي كانت تحمله بيديها إلى بيتهم يوم السبت.. اول ايام المدرسة..فرحتهما معا بالكتب والادوات الجديدة..ليالي رمضان..تسابقهما الى الفرن لانتظار نضج الحلوى ... مابال هذه الذكريات تعتصرني ..تلف على قلبي حبلا غليظا أسود..؟ أغمضت عينيها..الدموع ما تزال تسح ..شريط آخر يمر.. ليلة العيد..أنامل خالة زهرة تتناول عجينة الحناء من طبق اببض..تضعها على يديها البضتين برفق...منى..تتابع العملية منتظرة دورها.. احمد الاخ الاكبر يسترق النظرات من وراء صفحات الكتاب ..بعفوية لم تردها.. التفتت اليه...التقت عيناهما طويلا.. صوت السائق يدعو الركاب الى النزول..فتحت استر عينيها..الفجر يرسل خيوطه البيضاء على الحياة..النوارس تصطف على مقدمة الباخرة تتأمل الوافدين باهتمام