وطن ..وملعقة عسل - رشيدة محداد
--------------------------------------
تسمرت عيناه على العقرب الصغير للساعة الحائطية، بمحل "المحلبة"، فصار يبتلع فطيرته الساخنة بطريقة سريعة همجية، وهو يستعد للمغادرة..الوقت ظهيرة، وبطنه لا تفرق بين وجبات الغذاء والفطور، هم أمعائه الامتلاء حتى لو كان كسرة خبز تسد رمق جوعه. محظوظ بتلك المسافة الفاصلة، بين هذا المحل الذي يجيد صنع الفطائر، و شجرة الانتظار التي يتكئ عليها حظه وسطل الصباغة، بانتظار صفقة تزف الجدران عروسا للذوق! دس يده بجيبه، يبحث عن درهمين ثمن كأس الشاي والفطيرة، وهو يمرر بكمه الأيسر على فمه، ماسحا ماعلق به من قشر الفطيرة المقرمش..رافعا ياقة معطفه المهترئة، محاولا تدفئة عنقه المكشوف.. تقدم خطوتين باتجاه صاحب المحل، ليتناهى إلى سمعه إعلان فني لمسابقة " نجم العرب".. استدار "حميد" حتى كاد يطيح بالطبق البلاستيكي بيد زبون مستعجل، واختطفت عيناه تاريخ ومكان "الكاستينغ" من شاشة تلفاز معلق بالزاوية، خزنه بذاكرته، وغادر المحل وشجرة الانتظار، نحو بيته الصفيحي، بحي السعادة.. مخاض حضه صار مقرونا بصوته المبحوح، سيدلله بعسل صاف من الجبل، هناك حيث يرعى النحل بين زهور الحوامض والأعشاب..سيتخطى جدران حمامه ذو الباب الحديدي المتآكل..ليكرمه أمام "ميكروفون" النجوم. ملعونة ياقات المعاطف المهترئة، تلك التي تسربت خيوطها فتنازلت عن وظيفتها لبرد متسلط أفسد عليه آخر ورقة يانصيب، يشهرها بوجه لجنة تحكيم الحياة ! ملعقة عسل أو إثنين كافية..باق على الحظ بضعة رقصات لعقارب ساعة، تعلم فيها الحائط الشاحب، رقصة عراء وحفاء..تعانق بعدها أمير السندريلا! البذلة...من أين له ببذلة تليق بموهوب، على صدره ورقة برقم حظه واسم بلده! كسر حصالته الطينية، ووزع قطعه النقدية على الحصير، وصار يعد ثمنا يحاول أن يشرئب نحو ملعقة عسل، كغريق يبحث عن قشة للنجاة.. مر الشريط سريعا أمام عينيه، وهو يقف أمام مكبر الصوت الغنائي، على أرض غير أرضه، وعلى خشبة ترفعه مسافات شاهقة عن بيته الصفيحي، وحصالته الطينية.. ماذا لو لم تكن التذكرة مجانية ..وماذا لو لم يكن شكله جميلا.. كل شيء كان جاهزا ..حتى الملابس والأكل على نفقة البرنامج المستضيف! وحتى سريره بالأكادمية، كان نظيفا ووتيرا، وشرشفه دافئ، به رائحة تشبه رائحة الشامبو، الذي ينبعث من شعر تلك الشقراء، التي مرت من أمامه، وهو يضم سطل طلائه بانتظار زبون ! كانت له وسادة ناعمة تغري بحلم مخملي، وشوكة وسكين، ومقعد، و كاميرا تلتقط تحركاته، وتركز على خصلاته وغمازته، فيتعمد اللامبالاة كلما سمع أزيز تحركها. فيا لحظ شجرة الانتظار، تلك التي تخلصت من ظهره البارد وسطله الصدئ! عليه أن يستجمع أنفاسه وثقته بنفسه، بالبث المباشر، فهو يمثل وطنه! يمثل وطنه! وطنه ام نفسه! ..كيف يمثل وطنا خلعه و معطفه البالي،أمام مطار الحلم، مقابل إتفاقية يكون بطلا فيها.. كان شرط مدير البرنامج، دور صغير يشعل فيه فتنة تطال مقدسات عربية بينه وبين زملائه المشاركين..يفتعلون فيها نزاعا، وجدالا يرفع من نسبة المشاهدة، ويرفع حدة الفتنة بين الشعوب.. احم، انطلق صوته عبر مكبر الصوت شاديا : الأرض بتتكلم عربي الأرض الأرض.. الأرض بتتكلم عربي الأرض الأرض.. ويرتفع صوت من زاوية البيت الصفيحي، بحي السعادة لامرأة يغزو الشيب رأسها، تطلب نظارتها من أم حميد لتقريب النظر، صادحة: - هذا حفيدي !... من أخفض صوت التلفاز !؟
--------------------------------
رشيدة محداد