جنة أبي - أحمد عبد اللطيف النجار
--------------------------------------
العلاقة بين الآباء والأبناء يجب أن تقوم على الاحترام المتبادل والمودة والرحمة والعطف من كلا الطرفين ، فواجب الأب أن يعطف على أولاده ، يمنحهم زاداً من المحبة والرعاية والإحساس بالأمان ، فصورة الأب المتكبر المتعالي على أبنائه من أسوأ صور التعامل بين أفراد الأسرة الواحدة . كل أب يتمنى أن يكون ابنه أحسن منه أو على الأقل مثله ، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فالحياة حظوظ ولكل إنسان حظه ورزقه في التعليم وإقبال الحياة عليه أو انقلابها ضده ، والناس يختلفون في ذلك كما تختلف أوراق الشجرة الواحدة ، فيندر أن تجد بينها ورقتين متماثلتين تماماً ! وهدان ، شاب في الثلاثين من عمره ، شاء القدر أن يكون أصغر إخوته وأن يعرف طعم اليتم مبكراً حيث ماتت أمه وهو مازال شاباً صغيراً لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره . كانت الأم تعامل الفتى بعطف وحنان كبير ، وكان أبوه يتشدد معه كثيراً حتى لا يفسد ويكون رجلاً صلباً . أبو وهدان كان من المعروفين في مجال تجارته ، يسكن مع أولاده في فيلا بأحد الأحياء الراقية وسط القاهرة ، وكثيراً ما كان يصطحب أولاده في سيارته كل يوم جمعة إلى نادي المعادي العريق . مرت الأيام وكبر الأبناء وسافر بعضهم للعمل بالخارج وتزوج الآخرون ولم يبق مع وهدان غير أخيه الأكبر زهران . يتعثر وهدان في دراسته كثيراً بعد وفاة أمه ، وخشي أبوه أن يفشل في الدراسة فمارس عليه ضغوطاً هائلة لكي يتفوق كباقي إخوته ، وبذل الشاب المسكين كل جهده كي يرضي أباه ويتجنب غضبه. لكن جهوده كلها لم تكن تسفر إلا عن نجاحه بصعوبة في نهاية السنة بالرغم من الدروس الخصوصية وساعات المذاكرة الطويلة ، وبدأ أبوه يضربه وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة بقسوة بالغة مع أنه لم يمد يده على أحد من إخوته طوال عمرهم ، وراح يتهم شقيقه زهران بأنه يتستر على إهماله في استذكار دروسه ، وتطور الأمر إلى قطيعة شبه دائمة من جانب الأب . بالإضافة إلى تهكمه اللاذع عليه وأنه لا يشرفه أن يعرف الناس أنه ابنه ! كان وهدان يتألم كثيراً لذلك ويضاعف من ساعات مذاكرته ، فلا تأتي النتيجة في النهاية إلا بنجاح عسير وعلى حافة السقوط ! وبدلاً من أن يقدر أبوه جهده ويعرف أنه ليس في ذكاء إخوته وأن هذه إرادة الله ولا دخل له فيها . كان ينهال عليه ضرباً ولوماً وسخرية . عندما بلغ وهدان مرحلة الثانوية العامة تزوج أبوه من أرملة من أقاربهم وأقام في شقة فاخرة قريبة من أولاده . كانت زوجة أبيه الطيبة أكثر رفقاً بالفتى من أبيه وتنصحه دائماً بأن يخفف الضغط على ولده حتى لا يفشل نهائياً . واصل الأب الظالم معاملة ابنه المسكين بقسوة بالغة ، فكان يستقبله بفتور بالغ في شقته الفاخرة ، على عكس زوجته التي كانت دائمة الابتسام في وجه وهدان ، أما أشقاء الفتي البائس فكان أبوهم يعاملهم أحسن معاملة وكانوا موضع ترحيب أبيه وفخره في أي مكان ! مرت الأيام ودخل وهدان امتحان الثانوية العامة ورسب فيه فكاد أبوه يقتله وعاش الفتى أياماً سوداء خاصة بعد أن فشل في الحصول على الثانوية العامة ثلاث مرات متتالية وفقد آخر فرصة في الحصول على الشهادة التي تتيح له استمرار الإقامة في جنة أبيه ! قاطعه أبوه نهائياً وحرمه من المصروف ومن الملابس ومن كل شيء . عاش الفتي وهدان على مساعدات أشقائه ، وعندما علمت أخته المغتربة بالخارج بحاله كانت ترسل له بعض الملابس وتوصيه بكتمان الأمر عن الجميع حتى لا تفقد رضا أبيها ، هكذا وجد وهدان نفسه وهو في الحادية والعشرين من عمره طالباً فاشلاً محروماً من جنة أبيه ، فقرر مواجهة الواقع مهما كان مُراً وأدى الخدمة العسكرية لمدة ثلاث سنوات طوال ، وبعد أن استلم شهادة نهاية خدمته العسكرية ، فكر في حاله وقرر الخروج للعمل، والتحق بالعمل في محل أحذية ، لكن أباه لم يتركه في حاله فقد واصل ضغوطه على صاحب المحل حتى طرده ، وطرده أبوه الظالم أيضاً من الإقامة في جنته ، لكن شقيقه زهران وقف بجانبه ورفض ظلم أبيه له قائلاً: وهدان مظلوم وهذا حظه في التعليم والحياة ولا داعي لزيادة معاناته ، لكن الأب الظالم أصر على موقفه ، فذهب الفتي المسكين للإقامة في أحد الفنادق الرخيصة وكان أخوه زهران يزوره بين الحين والآخر ويدفع له حساب الشهر مقدماً . اكتشف وهدان أشياء جميلة في أخيه الحبيب وعرف معدنه الأصيل ، وأكد له أنه لا يكره أباه وأن قلبه كالبفتة البيضاء لا يحمل حقداً أو ضغينة لأحد . كما أنه يحب إخوته جميعاً حبا لا مثيل له ويحب كل الناس ! استمر وهدان في العمل بأحد المحال التجارية لمدة عامين ، وهناك تعرف على أزهار ، فتاة طيبة تعمل معه بنفس المحل ، وقرر وهدان الزواج منها ، وعندما فاتح أخاه زهران برغبته وعده بأنه سوف يطلب من أبيه مبلغاً من المال يعينه على الزواج ، لكن هيهات .. هيهات . فقد رفض الأب الظالم دفع أي مبلغ لولده وفلذة كبده ، لكن زهران استمر في محاولته حتى وافق الأب أخيراً وأعطاه مبلغاً معقولاً ذهب به على الفور وأعطاه لوهدان ، واستأجر شقة بسيطة له وكتب عقد الإيجار باسم أخيه وهدان ولم يتركه إلا بعد أن تم فرش الشقة بمفروشات بسيطة، شكر وهدان أخاه كثيراً على معروفه معه ودعاه لحضور زفافه علي فتاته أزهار . فقال له زهران : ـ كنت أتمني لك مصاهرة أسرة كبيرة كأسرة زوجتي . ـ أين أجد الأسرة الكبيرة التي تقبل بشاب مطرود من جنة أبيه وبلا أي مؤهلات؟ لكنه أكد له أنه متمسك بالزواج من أزهار لأنها فتاة طيبة وتحبه بصدق ، كما أن أسرتها محترمة ومتدينة إخوتها كلهم متعلمون وهي نفسها أرقي منه تعليماً . لم يعترض زهران على اختيار أخيه ووقف بجانبه ، لكن الاعتراض جاء من أبيه الذي واصل قسوته وظلمه لابنه وهدان وتسبب في قطع رزقه من المحل الذي كان يعمل به كي يمنعه من الزواج ممن اختارها قلبه ! بالرغم من ذلك مضى وهدان في إجراءات الزواج ووقف أخوه زهران معه رغم التهديد والوعيد من أبيهما وحضر معه كل الإجراءات . وتلقى وهدان خطابات التهاني من إخوته بالخارج ومع كل خطاب هدية مالية بمناسبة زواجه . تزوج الفتى المسكين وهدان على بركة الله ووجد في زوجته حلم حياته وجنته المفقودة التي حرمه أبوه منها وطرده بلا رحمة ولا شفقة !! بعد فترة وسع الله عليه واشترى محلا صغيرا لبيع الحلوى وساعدته أسرة زوجته بمبلغ من المال ، وباعت زوجته الأصيلة أزهار شبكتها وأعطتها له ليشتري البضاعة التي يبدأ بها تجارته . واصل وهدان عمله بإخلاص وهمة ونشاط وزوجته بجانبه تشد من أزره ومعها كل إخوتها وأبوها ، يشجعونه ويشترون له الطلبات ، وتوسعت تجارته حتى صار من أكبر تجار المنطقة ، ورزقه الله بطفل جميل كان نعمة كبرى من الله ، وأصر وهدان أن يسمي الطفل على اسم أبيه رغم كل ما فعله معه !! فتح الله علي الفتي المكافح وهدان وسدد كل ديونه لأسرة زوجته ، واشترى شبكة جديدة لأزهار تفوق في قيمتها شبكتها القديمة بعشرة أضعاف ، واستقرت أحواله ، وكانت الصلة بينه وبين إخوته مستمرة رغم قطيعة أبيه له مع أنه كان يتمنى رضاه ويزوره باستمرار رغم جفائه الدائم له ! حتى أنه ذات مرة كاد أن يقبل يد أبيه ويتوسل إليه أن يعفو عنه ويغفر له جريمته في إخفاقه في الحصول على شهادة دراسية !!! تلك هي الحياة الدنيا نصيب وأقدار وحظوظ ولكل إنسان حظه في الحياة ، وكم من أسر كبيرة فيها الناجح وفيها الفاشل ، لكن هل الفشل الدراسي هو نهاية الحياة ؟!! لا والله ، فالنجاح في الحياة العملية والاجتماعية أهم عندي من الشهادة الدراسية ، فكم من أشخاص يحملون الدكتوراه وعقولهم كعقول العصافير والهوام ، يعاملون الناس أسوأ معاملة . يعيشون حياة خالية من المودة والرحمة مع الناس جميعاً ، هؤلاء في نظري هم الفاشلون ! ها هو الفتى المظلوم وهدان يكافح في الحياة ويكسب رزقه بشرف ويقوم بمسؤوليته عن أسرته الصغيرة ، ويشرّف اسم أبيه وأسرته كلها بأخلاقه وتديّنه واستقامته وحسن معاملته للناس جميعاً ! فماذا يريد أبوه منه أكثر من ذلك ؟!! هناك أبناء عائلات وأصحاب ألقاب براقة لا يشرفون أسرهم بأخلاقهم السيئة ، فماذا جني الفتى المسكين وهدان حتى يظلمه أبوه هكذا ؟!! لقد فقد وهدان ثقته في نفسه ويشعر بالنقص والدونية بسبب معاملة أبيه له وحرمانه من عطفه ومن جنته ! إنه حقاً لشعور صعب مرير أن يشعر الإنسان أنه منبوذ في الحياة ، محروم من عطف وحب أقرب الناس إليه ! ذلك الفتي الطاهر البريء يحمل نفساً نقية وسريرة صافية تتطلع إلى الآخرين برغبة صادقة في نيل قبولهم ومحبتهم ، لكنه في نفس الوقت بحاجة إلى شيء من الثقة بالنفس والاقتناع بجدارته بحب الآخرين واحترامهم ! الفرق شاسع بين التواضع للآخرين وبين الإحساس بالنقص عنهم والدونية ! غريب حقاً موقف أبيه منه ، إنه أب متحجر القلب بثباته على ظلم ولده على طول الخط !! فبأي منطق وحجة يحق له أن يفعل ذلك ، وتوفيق الأبناء أو فشلهم في دراستهم لا يغير من بنوتهم ولا من حقوقهم وواجبنا نحوهم ؟!! لقد خلق الله الناس وجعلهم درجات يتفاوتون في كل شيء ، لكن ذلك الأب الظالم العجيب لا يرضي بمشيئة الله ويريد أن يفصّل أبنائه على هواه ليكونوا جديرين بدخول جنته والإقامة فيها أو طردهم منها !!
--------------------------------------
أحمد عبد اللطيف النجار