بين الرغبة والزهد - أحمد عبد اللطيف النجار ------------------------------------------------
يقول الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ( رغبتك في زاهد فيك مذلة نفس ، وزهدك في راغب فيك نقصان حظ !) . ما بين الرغبة والزهد تتشكل سمات بني آدم ، فمنهم من يحرص أن يكون دائماً في طور الاعتدال ، فلا يسرف في الزهد وكذلك في الرغبة ، ويردد دعاء سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( رب قدّرني علي من ظلمني ،لكن اجعل عفوي عنه شكراً لك علي قدرتي عليه ) . ومنهم أيضاً من يتذكر أن كل إنسان ينفق مما عنده كما يقول المسيح عيسي بن مريم عليه السلام . فريد مهندس شاب ، نشأ علي الأخلاق والقيم الحميدة في إحدى قري الصعيد ، هو لا يعرف في حياته سوي الصلاة وطاعة ربه ، ثم عمله وبيته وعلاقاته الأسرية . بعد أن تخرج من الجامعة ، بدأ البحث عن شريكة الحياة ، ووفقه المولي في الارتباط بقريبته سلمي ، تلك الفتاة لافتة الجمال والتي تصغره بعشرين عاما . تردد الرجل قليلاً لفارق السن الكبير بينهم ، لكن أمه وإخوته نجحوا في إقناعه بخطبة سلمي وخوض التجربة لعل الأيام تثبت له أنها تستحق الارتباط بها . وبالفعل استطاعت سلمي بكلامها الجميل وحديثها العذب استمالة قلب فريد إليها وتزوجها بعد اقتناع وتفاهم ، وارتدت سلمي الحجاب بعد الزواج ، ورزقهم الله الذرية الصالحة من البنين والبنات . حاول فريد جاهداً توفير الحياة الكريمة لأسرته ، فانتقل إلي شقة واسعة بأرقي أحياء القاهرة ، واستبدل سيارته الصغيرة بسيارة أكبر ، وعندما طلبت منه سلمي استكمال تعليمها في الجامعة المفتوحة ؛ رحّب علي الفور من منطلق الحب وإيمانا منه بأن أي تقدم تحققه زوجته هو نجاح وتقدم له أيضاً . التحقت سلمي بالجامعة المفتوحة وكان فريد يذهب معها لتوصيلها لسماع المحاضرات . ذات يوم طلبت منه أن يعلمها قيادة السيارات كي تذهب بمفردها إلي الجامعة لانها لم تعد تلميذة صغيرة علي حد قولها ! في عامها الجامعي الأخير لاحظ فريد أن زوجته تهمله كثيراً وتثير معه المشاكل علي أتفه الأسباب ! بدأ الشك يتسرب إلي نفسه لتغير مشاعر سلمي التي أحبها بكل جوارحه ، وقرر مراقبتها ليعرف سر هذا التغيير . ذات يوم شاهدها مصادفة يركب بجوارها في سيارتها شخص غريب ، وعندما عادت إلي المنزل واجهها بما رأي ؛ فعقدت الدهشة لسانها وتلعثمت قائلة : انه مجرد زميل لي في الدراسة وأنه متزوج وله أولاد . لم يقتنع فريد بردها ، وقرر تفتيش حجرة نومها أثناء خروجها ، لعله يعثر علي شيء ، وكانت صدمة هائلة له عندما وجد خطابات غرامية ملتهبة من ذلك الزميل يبث سلمي شوقه وهيامه !! تكهرب الجو بمواجهة فريد لزوجته بتلك الخطابات الغرامية ، وأنكرت وطلبت الطلاق وبإلحاح شديد ! ساعتها مادت الأرض من تحت أقدام الرجل وقرر منع زوجته من مواصلة تعليمها ، لكنها رفضت وبدأت تهرب من البيت وتختفي ومعها أطفالها ! بحث عنها فريد في كل مكان حتي عثر عليها في شقة مفروشة وعلم من البواب أن هناك رجلاً يتردد عليها في هذه الشقة يقول له أنه زوجها !! يا إلهي إلي هذا الحد واصلت سلمي انحرافها وسقوطها ! قرر فريد علي الفور أن يطلقها وساومها علي حقوقها وحضانة أطفاله وحصل علي ما أراد . استقل فريد بحياته متفرغاً تماماً لتربية أولاده ، وعلم بعد فترة أن طليقته تزوجت من زميلها هذا وأنه طلّق زوجته من أجلها ! تعجب فريد من تدبير الأقدار ، فهو رغب وبشدة فيمن زهدت فيه وتحولت بمشاعرها عنه ، ولم تتورع عن الغدر به ولم تبال بأولادها ولا مستقبلهم ! في المقابل رأينا كيف زهدت سلمي فيمن أحبها بكل جوارحه وسعي لإرضائها بكل السبل ! لا أحد يختار أقداره بيديه ، وإنما عليه ألا يمتهن نفسه وكرامته من أجل من لا يحمل له مثقال ذرة من حب أو احترام ! قد يكون صغر سن سلمي بالنسبة لزوجها الأول فريد من أهم العوامل الدالة علي عدم نضجها العاطفي الذي لم يصمد للزمن والتحديات ، لذلك سرعان ما رأينا مناعتها تضعف أمام أول إغراء تعرضت له في الجامعة المفتوحة ! تلك هي تجارب الحياة نتعلم منها كل يوم الجديد والعجيب من حكايات وقصص بني آدم الذي لا يثبت قلبه علي شيء ، وسبحان مثبت القلوب ، سبحان الحي القيوم . صاحبنا فريد أخطأ خطأ استراتيجيا عندما سمح لزوجته الجميلة باستكمال تعليمها في (( الجامعة المفتوحة )) فهو بذلك قد أخرجها من القمقم الذي كانت تعيش فيه في أعماق الصعيد ، لتواجه دنيا جديدة وعالم جديد ينشط فيه شياطين الإنس لغواية أي امرأة ! وبمناسبة الجامعة المفتوحة أري أن الدولة المصرية فعلت خيراً بإيقاف التعليم فيها وإغلاقها إلي أجل غير مسمي ! تلك الجامعة المفتوحة ليست جامعة حقيقية ، بل هي وسيلة هشة وساذجة لإعطاء شهادات وهمية لمن فاتهم اللحاق بالجامعات الحكومية الحقيقية ! حتي الجامعات الحكومية الحقيقية التعليم فيها ضعيف جداً ومتخلف جداً ! فماذا يكون شكل التعليم في الجامعات المفتوحة ؟!! بالطبع تعليم شكلي زائف !! مجرد شهادات زائفة يحصل عليها الموظفون لتحسين وضعهم الوظيفي !! ذلك هو واقع الحال ، ونحمد الله أن الدولة المصرية تنبهت لذلك مؤخراً وقررت غلق تلك الجامعة ((المفتوحة الزائفة)) !! أما جامعاتنا الخاصة فهي كارثة حقيقية للتجارة بالعلم والشهادات ، وكأني أري عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين يبكي في قبره علي ضياع حلم عمره أن العلم كالماء والهواء ، مجاناً يعني !! آه لو تعلم يا دكتور طه إلي أي مدي أصبح حال التعليم في مصر ؟! انتشرت المدارس الخاصة بالآلاف في كل أنحاء مصر ، وكذلك الجامعات الخاصة ! أصبحت الشهادات تُباع وتُشتري في سوق النخاسة التعليمية المصرية !! الفقير المسكين لا حق له في الاقتراب من أسواق النخاسة التعليمية المصرية ! حقه المشروع هو المدارس الحكومية الكئيبة الفاشلة والجامعات الحكومية الكسيحة ! تلك هي أقدارنا أن نشتري العلم الذي كان كالماء والهواء كما نادي الدكتور طه حسين رحمه الله . تري ماذا سيكون شكل تعليمنا المصري الفاشل بعد 100 سنة ؟! ـــــــــــــــــــــــــــ نتمني أن يكون أفضل فشلاً ! ــــــــــــــــــــــــــ أحمد عبد اللطيف النجار