الهالة الفضية - أحمد عبد اللطيف النجار
-------------------------------------------
أشد صدمات الحياة علي نفس الإنسان هي أن يُبتلي في أبنائه . أصعب شيء أن ترى فلذة كبدك يعاني و يتألم من المرض ، فما بالك إذا كان مرضه مزمناً أو وراثياً لا أمل في الشفاء منه ! في كل الأحوال الابتلاء من عند الله هو امتحان للإنسان ، الصابر والقوى الإيمان ينجح فيه بجدارة ، أما الخائف المرتجف ، الساخط علي أقدار الله ؛ فإنه يسقط فيه بجدارة أيضاً ! أمل طبيبة شابة ، تزوجت منذ عدة سنوات من زميلها ثروت ، ويعيشون معاً في سلام وأمان بمدينة القاهرة ، وقد رزقهم الله ثلاثة أولاد وابنة واحدة . لاحظت أمل أن ابنتها لمياء ذات الأعوام الخمسة تتمايل خلال سيرها وتستعين علي حفظ توازنها بالاستناد إلي الحائط ، فذهبت بها علي الفور إلي طبيب الأطفال الذي فحصها وطمأنهابأنها طبيعية . عادت بها للبيت مطمئنة قليلاً ، لكنها مع الأيام لاحظت أن حالتها تسوء ، فذهبت بها إلي أستاذ كبير في طب العظام ، وعلي الفور طلب فحصها بالأشعة المقطعية علي المخ . كانت النتيجة صدمة هائلة ، إذ ظهر أنها تعاني من ورم خبيث من النوع النشط علي المخيخ ! بكت أمل وانهارت رغم أنها طبيبة ، فلم تحتمل رؤية ابنتها وهي لا تقوى علي رفع رأسها وتتمدد علي السرير ، فحملتها إلي جراح كبير في المخ والأعصاب ، الذي قرر علي الفور إجراء جراحتين لابنتها الحبيبة ، وكان بحق إنسانا فاضلا إذ رفض أن يتقاضى أي أتعاب عن العمليتين ، وكان لا يفارقهم صباحاً ومساء . ووقف جميع من بالمستشفي بجوار أمل وابنتها ، وبمجرد خروجهم من المستشفي بدأت رحلة العلاج بالكوبلت المشع ، وكان لابد من إعطاء لمياء حقنة بنج خفيفة في كل جلسة حتي لا تتحرك تحت الجهاز . كان قلب الأم ينخلع وهي تري طفلتها تغيب عن الوعي ، لكن إيمانها بالله كان عظيماً ، فقد أدركت أن ما يحدث هو ابتلاء من الله لعباده الصابرين ليجزيهم أجرهم ( وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) . بعد انتهاء جلسات الكوبلت المشع عادوا للطبيب مرة أخري للمتابعة ؛ فطلب منهم إعطاءها جرعات من العلاج الكيماوي ، ولكن طبيب الأورام لم يحبذ هذا الرأي ، فاكتفت أمل بهذا القدر من العلاج لطفلتها حتي لا تزيد عذابها وآلامها . ذات يوم اقترح عليها زوجها ثروت الذهاب إلي الأراضي المقدسة لأداء العمرة وزيارة الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم ، لعل الله يلطف يهم وبابنتهم لمياء ببركة أطهر بقعة مقدسة علي وجه الأرض . سافروا جميعاً ومعهم طفلتهم لمياء ، وفوجئوا خلال رحلة السفر بطفلتهم تُصاب بضعف شديد في الجانب الأيسر من جسمها الرقيق ، ثم تطورت حالتها إلي شلل نصفي ! أصر الزوجان علي أن يكملا رحلتهم للمدينة المنورة ، ولمياء محمولة علي أعناقهم طوال الطريق الطويل ، فالآلام لا ترحمها ولا تجدي معها المسكنات ، حتي أن أباها حمل ابنته علي ذراعه وخرج مع زوجته يطوف بها حول الكعبة المشرفة يكبرون ويهللون ودموعهم تسيل كالمطر وطفلتهم تبكي من شدة الألم ، والناس من حولهم يشاركونهم الدعاء لها بأن يخفف الله آلامها ويشفيها . كان والدها يشعر بداخله أن تلك هي النهاية وأن أجل ابنته الحبيبة قد حان ! بعد انتهاء مناسك العمرة ، أديا الصلاة في المسجد النبوي الشريف ، وهم يدعون الله ويتضرعون إليه سبحانه أن يشفي طفلتهم البريئة . عاد ثروت وزوجته إلي مصر وحالة ابنتهم الغالية تزداد سوءاً ، فذهبوا علي الفور إلي طبيب المخ والأعصاب الذي تألم كثيراً لحالة الطفلة ووبخهم علي عدم سماع نصيحته منذ البداية بعلاجها بالكيماوي ، وبدؤوا علي الفور رحلة العلاج بالكيماوي ،فلم يمض أسبوع واحد حتي بدأت آلام لمياء تهدأ ، ثم بدأت تتحسن حالتها وأصبحت تستطيع تناول طعامها وهي جالسة بعد أن كانت تأكل وتشرب الماء بخرطوم بلاستيك وهي نائمة ، ثم تحسنت صحتها أكثر فأكثر ، فإذا بها بقدرة الله ومشيئته وببركة زيارة قبر رسول الله صلي الله عليه وسلم ؛ تنهض من فراشها وسط ذهول الأطباء ، وإذا بها تمشي ثم تجري ، ثم تلعب مع إخوتها وصوتها الملائكي يملأ البيت ! وأمها تدعو الله ألا يحرمها منها وأن يتم عليهم نعمته . تلك كانت رحلة الآلام والصبر والإيمان بقدرة الله ، فالمحن هي التي تصنع البشر وتطهر النفوس من شوائب الحياة ، وتصهر المعادن الأصيلة ولا تزيدها إلا صلابة ! رغم السحابة السوداء التي غيّمت علي حياة أمل وطفلتها الحبيبة ؛ فإن الله كان لطيفا رحيما لأن كل سحابة سوداء حولها هالة فضية ، وإذا دققنا النظر في السماء لرأينا تلك الهالة الفضية تحيط بالسواد وتحدده ، تذكرنا بأن لكل ألم نهاية ولكل عذاب آخر . ذلك هو الأمل في رحمة الله ولطفه بعباده المؤمنين ، يقويهم ويكون زادهم وذخيرتهم في مواجهة أى صعاب تواجههم في حياتهم الدنيا. نعم فأعظم نعمة في الوجود هي نعمة الصحة ، أن ترى أولادك حولك بخير أصحاء . تخيل معي أنك تمتلك الثروات الطائلة ، لكنك مريض ، ممنوع من قائمة طويلة من الممنوعات ، فلا تستطيع الاستمتاع بأموالك ، وتتساءل بينك وبين نفسك : ما فائدة ما أملك ؟! وغيرك فقير لكنه يعيش بصحة جيدة ، سعيداً بحياته ، يستطيع أن يأكل كل أنواع الطعام ! راضياً بما قسمه الله له ، لو تأملنا هذا وتأملنا ذاك لعرفنا أن مال قارون لن يسعد بني آدم ، وإلا كان أسعد صاحبه قارون الذي خسف الله به وبداره الأرض ليكون عبرة للمؤمنين . ومهما قابلت في حياتك من صعاب مستحيلة ؛ اعلم أنه يوجد دائماً بقعة نور في نهاية النفق المظلم ، إنه نور الله الذي يملأ نفوسنا فيزيدها بهاء وإيمان وجمال
---------------------------------. أحمد عبد اللطيف النجار