زواج أبيض - أحمد عبد اللطيف النجار -------------------------------------------
هل هناك زواج أبيض وزواج أسود ، أم أن الزواج أصبح ملوّناً ؟ في الواقع لا ، لكنها الضرورات التي تجبر الإنسان على مصارحة شريكة حياته بأن زواجهما سيكون أبيضاً ، بمعنى أنه لا علاقة فيه بين الزوجين مثل كل الأزواج ويعيش الزوجان كالأخوات تماماً ! هذا ما حدث لبطلة قصتنا تيسير التي جاءتني حزينة مهمومة تقول : حين كنت طالبة بكلية العلوم في التاسعة عشرة من عمري تقدم لخطبتي طبيب شاب ، فرفضت في البداية لكن أبي أقنعني بقبول الخطبة فوافقت ثم لم ألبث أن ارتحت لخطيبي سعيد لما لمسته فيه من تهذيب ورِقـّة في المعاملة ، وكانت فترة الخطبة مشحونة بالخلافات الكثيرة بين أبي وخطيبي سببها كلها مسائل مادية ! ذات مرة خرجت مع خطيبي سعيد للتنزه بسيارته وشاءت إرادة الله أن نتعرض لحادث كبير حيث اصطدمت السيارة بأتوبيس عام ، وكانت جروح سعيد سطحية ، أما جروحي أنا فكانت جرحاً غائراً في جبهتي وجرحاً كبيراً في كتفي ، ثم جرح داخلي عميق استدعى تدخلاً جراحياً سريعاً وانتهى الأمر بأن أصبحت عقيماً غير قادرة على الحمل والإنجاب ! تماثلت للشفاء بعد فترة وخرجت من المستشفى حزينة يائسة حيث أظهر لي الحادث معدن خطيبي الرديء ، فقد تخلى عني نهائياً وتباعدت زياراته لي ! كانت صدمتي فيه كبيرة للغاية ، مرت الأيام وبعد فترة قصيرة تأهبت للعودة لممارسة حياتي ، فعّدلت تسريحة شعري بحيث أسدل بعض خصلاته على جبهتي لإخفاء جرحها وتكفلت ملابسي المحتشمة دائماً بإخفاء الجرح في كتفي ، وخلعت الدبلة وعدت إلى كليتي وواصلت الدراسة حتى تخرجت وعملت ومضت سنوات عمري متشابهة بطيئة توفى خلالها أبي وتزوجت شقيقتي وأشقائي وخلا عليّ البيت فعشت فيه وحيدة حزينة لا أمل لي في زواج أو إنجاب ! كنت كلما تقدم لي شاب عارضاً حبه ورغبته في الزواج مني صارحته بحقيقة ظروفي فيشكرني على صراحتي ويذهب بلا عودة ! ذات يوم ضقت بوحدتي في مسكني فقررت أن أمضي أجازتي السنوية في بيت شقيقتي المتزوجة في الريف ، وهو بيت ريفي صغير جميل أجد فيه راحتي ، وأجد في رعاية ابنتها الصغيرة سلواي ومتعتي ، ذات يوم جاء صديق حميم لزوجها كي يودع طفليه عندها لاضطراره للسفر في رحلة عمل قصيرة ، ذلك هو ممدوح... انصرف الرجل بعد أن اطمأن على طفله وطفلته ، ووجدت نفسي اقترب منهما وأداعبهما ، وأقص عليهما الحكايات وأشاركهما ألعابهما البريئة وأتولى شؤونهما ... تكرر ذلك في اليوم التالي وعرفت من شقيقتي حكاية ممدوح ،فهو رجل أرمل في الثلاثين من عمره ، رحلت زوجته عن الحياة بعد عِشرة لم تكن طيبة ولم ترع خلالها حقوق ربها في زوجها وطفليها ، فكان رحيلها نهاية لعذابه معها وبداية لوحدته ومعاناته مع طفليه اليتيمين ، ساعتها فهمت سرّ النظرة الحزينة المستقرة في عينيه ! عاد ممدوح ليسترد طفليه ، فحزنت لذهابهما وتمنيت لو رأيتهما مرة أخرى .... مرت الأيام وتكررت زيارات ممدوح ثم فوجئت به يطلب مني الزواج ، وقبل أن أجيبه بالرفض أو بالقبول ، فوجئت به يصدمني بقوله أن زواجنا سيكون زواج أبيض ، أي أزواج على الورق فقط !!... لأنه وبصراحة قد كره النساء بسبب معاناته من غدر زوجته الراحلة ومن طعناتها له ، وإنه فقط سيتزوج من أجل طفليه فهو يريد أماً صالحة وحياة مستقرة خاصة بعد أن لاحظ ارتياحهما لي وارتياحي لهما ! وبقدر فرحتي بعرضه ، بقدر حزني علي مصيري في هذا الزواج الناقص ، أمضيت ليلة كئيبة وأنا أفكر في عرضه وكدت أرفضه لولا أن تخيّلت صورة الطفلين البريئين ، فهدأت أفكاري وقررت قبول الزواج من ممدوح ، وفي اليوم التالي أعلنت للجميع موافقتي ، وكانت حجتي لإقناع إخوتي هي أنني لا أستطيع العيش وحيدة في مسكن واسع بلا رفيق ولا أنيس إلي الأبد ! فكّرت أن أخبر ممدوح بآثار الحادث الذي وقع لي مع خطيبي السابق سعيد ولكني جِبُنت عن إبلاغه وأعفيت ضميري من اللوم بأن زوجي لا يريدني سوى أمّا لطفليه ، وتم عقد القران وانتقلت إلى بيت زوجي ، بدأت معه أيامي سعيدة ازداد فيها تعلقي بالطفلين ، وشكرت الله على زواجي من هذا الرجل الطيب الكريم ، وشيئاً فشيئاً وجدت حبه يتسلل إلى قلبي وينمو داخله رغم زواجنا الأبيض ! مع الأيام تحول ممدوح إلى إنسان رقيق طيّب كعادته ، توقفت قسوته وازدادت رقته وطيبته وازداد حبي له وتعلقي به .... ذات يوم جاء زوجي الحبيب ليقول لي أنه يريد أن يوّثق روابطه بي بأن ننجب طفلاً أو أكثر لتكون لنا حياة طبيعية كاملة ، ساعتها اُسقط في يدي ووجدت لساني يتجمد في حلقي ودقات قلبي تتلاحق ، وغضب زوجي لصمتي فانصرف دون تعليق ! والآن أنا في حيرة كبيرة من أمري ، هل أخبره بأنني لا يمكنني أن أحمل وأنجب للأبد ؟ أم لا ..ماذا أفعل ؟!! *صارحيه بكل شئ سيدتي ، فالصراحة راحة كما يقولون في الأمثال الشعبية البسيطة ، لقد أراد الرجل أن يعدل معكِ بعد اشتراطه أن يكون زواجكما أبيض، وها هو الآن يطلب موافقتك علي إقامة علاقة زوجية كاملة وحقيقية بينكما ... لا بأس ، فأنتِ لا ذنب لك فيما حدث في الماضي ، إنه حادث مأساوي أفقدك القدرة على الإنجاب وهذا قضاء الله الذي لا راد لقضائه ، ولسوف يكون ممدوح متفهماً لكل تلك الظروف ، خاصة وقد منحه الله زهرتين جميلتين تملئان حياته سعادة وأمل ، وتلك هي الحياة بكل آلامها وأفراحها لا تعطي الإنسان كل ما يتمناه . أحمد عبد اللطيف النجار