فريضة وجهاد - أحمد عبد اللطيف النجار ----------------------------------------------
تلك هي الحياة الدنيا سعي وجهاد وامتحان وابتلاء ، ونحن لا نملك خياراً وليس في مقدورنا سوى أن نتقبل أقدارنا فيها وأن نتحملها بشجاعة . وفريضة الحياة تقتضي منّا الصبر على شدائدها وآلامها وأن يكون إيماننا قوياً وثقتنا بالله لا حدود لها . أنعام امرأة مسكينة مُبتلاة ، جاءتني ذات يوم باكية حزينة تقول : كنت طالبة بالثانوية العامة في الثامنة عشرة من عمري حين سمعت أخي الطالب الجامعي يتحدث بانبهار شديد عن زميل له بالكلية يُدعى حسين ، مُشيداً بتفوقه وشخصيته الجذّابة واعتداده بنفسه وعنايته بمظهره رغم بساطة ملابسه . مرت الأيام وحصلت على الثانوية العامة والتحقت بنفس الكلية التي يدرس فيها أخي ورأيت حسين لأول مرة فوجدته شابا أسمر له وجه جذاّب رغم تناقض ملامحه وجسم رياضي ممشوق ، لاحظت أن حسين لم يهتم بي كما يفعل الزملاء الآخرون مع أني علي درجة عالية من الجمال ! مضت أيامي الأولى في الكلية وهو لا يبالي بي ، فوجدت نفسي انجذب إليه واهتم به ثم أحبه بكل براءة مشاعري التي لم تشعر بإنسان قبله ، لكني لم أبح له بحبي ، وذات يوم طلب حسين أن يوصلني إلي محطة الأتوبيس وراح يحدثني عن نفسه فروى لي أنه أمل أسرته الريفية البسيطة ، وأنه لا يستطيع أن يرتبط بي إلا بعد أن يتخرج بتفوّق ويعمل لكي يعوّض أبويه أيام الحرمان ! تقبلت الحقيقة راضية واستمرت حياتي كما هي ، وحقق هو حلمه فنجح بتفوّق وحصل على مرتبة الشرف ثم فجأة ابتعد عن الكلية وعني تماماً دون إبداء أية أسباب ... حزنت لفراقه ودعوت الله له بالتوفيق في حياته . مرت الأيام وتخرجت بعده بعامين وذهبت للكلية ذات يوم فإذا بي أراه هناك فاضطربت وتعّثرت الكلمات علي شفتي ، لكنه تقدّم مني وصافحني وهو يطلب مني بصوته العميق أن أتمشى معه قليلاً ليروي لي كل شئ ، وخرجت معه فقال لي أن أبويه أجبراه على الارتباط بإحدى قريباته بدعوى أنها الأقدر على تحّمل الفقر والمعاناة وبدعوي إنني لن استطيع تحّمل ظروفهم ومعايشتهم حياتهم البسيطة ، فاستجاب لرغبتهم لكنه لم يستطع أن يكمل المشوار معها فانسحب وأقنع أبويه بأن من حقه أن يعيش مع منْ اختارها قلبه إذا رضيت بظروفه ، ساعتها صرخت فيه وقلت له أنني رضيت بكل شئ منذ البداية ، فلماذا لم تصدقني ولم يصدقني أهلك ؟! انتهي اللقاء بتصميمنا على تحقيق الحلم القديم وتزوجنا عن حب واقتناع وبدأنا حياتنا في شقة شبه خالية من الأثاث ليس فيها سوى أثاث غرفة النوم والمطبخ ، أما باقي الحجرات فكنا نغلق أبوابها لكيلا يراها أحد وهي خالية ، وأحرص حين أنظفها على عدم فتح نوافذها حتى لا يراها الناس وهي على البلاط ... بدأنا معاً رحلة الحب والكفاح ومضت أيامنا سعيدة رغم بساطتها ، وأنجبت طفلي الأول فوضع زوجي حسين في يده أول مائة جنيه استطاع أن يوفرها من عمله المرهق المضني ، واصل حسين كفاحه مع الحياة فكان لا يهدأ ولا يستقر ويجري من مكان لمكان وراء لقمة العيش وتأمين المستقبل ويقسو على نفسه في سبيل ذلك ، وكلما رجوته أن يراعي صحته قليلاً يجيبني بأنه يريد أن يعوّض أيام الحرمان وأن يوّفر لي الحياة التي استحقها ، ثم يشير إلى الحجرات الخالية ويقول لي أنه يريد أن يشترى لها أثاثاً لائقاً لكي يجنبني الحَرج كلما زارنا الأهل والجيران ، مرت الأيام وأنجبت طفلي الثاني وأنا ازداد له حباً وحناناً وأذوب شوقاً إليه وغيرة عليه ، فكنت لا يغمض لي جفن إلا إذا عاد ولو بعد منتصف الليل ولا آكل إلا معه ! وأخيراً بعد صبر طويل بدأ كفاحه يؤتي ثماره فاشترينا أثاثا للغرف الخالية وحصلنا على تليفون لكي يتصل بي كلما غاب عني ، وحصل حسين على الدرجة العلمية التي كان يتمناها وأنجبت طفلي الثالث وأصبحت لنا سيارة جميلة نركبها جميعاً معاً ولا يقودها زوجي إلا وأصغر أطفاله علي ركبتيه ، ثم أعطتنا الدنيا أكثر فانتقلنا إلى شقة أفضل امتلأت حجراتها بالأثاث الجميل البسيط ، وظل حسين زوجاً رائعاً وأباً حانياً لا يجلس إلا مع أولاده ولا يخرج إلا معهم ولا يسافر إلى بلدته ليزور أهله إلا وهم معه . مرت الأيام وبدأت أشعر بالتعب من عملي بالشركة التي أعمل بها ففكرت في أن أستقيل وأتفرغ لزوجي وأطفالي ، وفاتحت زوجي في ذلك فشجعني عليه وحسمت أمري وقررت أن أتقدم باستقالتي ، وفي اليوم التالي عاد حسين مجهداً من عمله ففزعت وسألته عما به فأجاب بأنه مجرد إعياء من ضغط العمل وأنه يحتاج إلي النوم ليستعيد نشاطه ، نام زوجي ساعة ثم صحا أكثر إعياءً ، فذهبت به إلى الطبيب على الفور وإذا بالطبيب يخبرنا أن حسين يحمل في جسمه الرياضي الممشوق مرضاً لعيناً خبيثاً ، وبدأنا رحلة العلاج والعذاب اليومي ورفض زوجي العلاج وأنا أبكي بين يديه كي اثنيه عن رفضه ! وبعد إلحاح طويل وافق عليه بشرط أن يحج لبيت الله أولاً ، وبعد أن عاد من الأراضي الحجازية بدأ رحلة العلاج كان سهم القضاء قد نفذ بأسرع مما توقع الجميع ووجدت نفسي في حلم مزعج أبكي نفسي وأطفالي ، وأبكي قصة حب لم تتم وعمراً من السعادة لم يستغرق سوى عشر سنوات فقط هي عمر زواجي القصير ، والآن مضت أيام الحداد الأولى وبدأت الدنيا تخلو من حولي .... أفكر بيني وبين نفسي وأتعجب من تصريف القدر إذ ماذا كنت سأفعل بحياتي وأولادي لو كنت قد استقلت من عملي قبل أن يجري حكم القضاء !! *ما حدث مع أختنا الفاضلة أنعام لطف من ألطاف الله الخفية على عقولنا القاصرة ، لقد عاشت أنعام حياتها فريضة وجهادا وكفاحا مع زوجها الراحل حسين ، والآن صار كل هدفها في الحياة هو تأمين مستقبل أولادها ، وهذا بالتحديد هو واجبنا الإنساني العام بأن نجعل لنا هدفاً نحيا من أجله ونتحمل عثرات الطريق في سبيله وتلك هي سنة الكون ، فمنْ منّا لا تخلو حياته من الهموم والشجون ، وذلك هو قانون الحياة وشريعتها يجب أن نحياها بنفوس مطمئنة واثقة في رحمة الله ، هدفها الأسمى والأكبر هو ألا نخسر الدنيا والآخرة ! وأعظم طوق للنجاة لكل إنسان مُبتلى هو الصبر والصلاة وقراءة القرآن كتاب الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فيه شفاء لما في الصدور المحزونة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحمد عبد اللطيف النجار