طاعة العاصي - أحمد عبد اللطيف النجار ----------------------------------------------
إننا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه . ذلك قول مأثور للصحابي الجليل أبى الدرداء رضي الله عنه ، ويا له من قول حكيم تغشاه الرحمة والرفق والتسامح يوجز لنا انفعالات النفس البشرية وترددها بين العفو والانتقام ممن أساؤوا إلينا . حين يسيء إلينا الآخرون فإنما يسيئون لأنفسهم وعندما يمكر بنا الماكرون فإنما يمكرون بأنفسهم ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فما أجمل أن نتسامح ونعفو ونصفح ونقابل السيئة بالحسنة مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى جل في علاه : ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) 124 / فصلت . الفتى سامح نشأ في أسرة كبيرة تتكون من أبيه تاجر المنسوجات الكبير بمدينة المحلة الكبرى . كان سامح الابن الأكبر ويليه شقيقاه صبحي وصبري ثم شقيقته الكبرى عايدة المتزوجة من تاجر منسوجات كبير ، وقد اختار شقيقاه عدم إكمال تعليمهما وفضلا التجارة على التعليم العالي وعملا مع أبيهما في تجارته الكبيرة ، واختار سامح مواصلة تعليمه بكلية الهندسة وحصل على البكالوريوس بتفوق وفرح أبوه بذلك فرحة طاغية ، وكانت هديته لابنه عقب تخرجه مكتب بوسط المدينة ليبدأ فيه عمله الهندسي الحُر وشقة واسعة مؤثثة بكل الكماليات لتكون جاهزة له في المستقبل عندما يفكر في الزواج وسيارة جميلة . سعد سامح كثيراً بذلك وشكر أباه واعتبر نفسه من المحظوظين الذين أنعم الله عليهم بالكثير ، وبدأ حياته العملية بحماس وكوّن مع زملاء دفعته فريقاً متعاوناً وبدأ تنفيذ عمليات صغيرة حالفهم فيها التوفيق بفضل الله ، ثم دخلوا في عملية أكبر تعاون فيها سامح مع مكتب لمهندس كبير لحاجته إلى خبرته وإمكانياته ، وخلال عمله مع ذلك المهندس وتردده كثيراً على مكتبه لفت نظره سكرتيرته بحسن مظهرها ولباقتها وأدبها وحسن معاملتها للآخرين ، فوجد نفسه ينجذب إليها من النظرة الأولي ، وعلى الفور فاتح زميله المهندس الكبير برغبته في الارتباط بها وسأله عن رأيه فيها ، فشهد لها بحسن الأخلاق وعرف منه أنها تعول شقيقتين يتعلمان في المدارس وأنها تعمل لديه منذ ستة أعوام كانت خلالها مثالاً للأدب والالتزام الخلقي ، ورغم أن أحد زملاء سامح حذره من أن أباه ربما لا يوافق على زواجه منها لأنها من أسرة بسيطة ، لكنه تفاءل خيراً ظناً منه أن أباه لا يهمه سوى الأخلاق والتدين ، أما الغنى والفقر فمن أعراض الدنيا الزائلة ، صارح سامح أمه بالقصة كلها فقالت له أنها تعرف والد صابرة السكرتيرة التي يريد أن يرتبط بها ابنها المهندس ، لأنه كان يعمل لديهم في تجارة أبيه منذ سنوات طويلة ثم التحق بالعمل في إحدى شركات الغزل وأنه توفي تاركاً ثلاث فتيات أكبرهن صابرة ، ثم توفيت الأم بعده بسنوات ، فتحملت خالتهن مسؤولية الفتيات الثلاث حتى حصلت صابرة على دبلوم التجارة وعملت وبدأت تتحمل مسؤوليتها في تعليم أختيها ورعايتهما . وجد سامح أمه موافقة على اختياره رغم الفارق الاجتماعي والمادي ، بل وشجعته على التقدم لطلب يد صابرة وسؤالها عن رأيها في الارتباط بها ، وسألها سامح بالفعل ورحبت به . انتظر سامح عودة أبيه من أداء فريضة الحج لينال موافقته ، عاد والده وكانت الطامة الكبرى حيث رفض نهائياً وهاج بشدة وأنذر ابنه بالعقاب الشديد . كانت الصدمة كبيرة على الفتى لكنه أصرّ على إتمام مشروع زواجه ومرت الأيام حتى فوجئ بالمهندس الكبير يغلق مكتبه لدواعي السفر للخارج ، فعرض على صابرة أن تعمل معه في مكتبه الهندسي الصغير ، واستمر الحال هكذا فترة من الزمن حدثت خلالها مشاكل كبيرة بين صابرة وأسرة سامح فاضطرت الفتاة المسكينة لترك العمل لديه حرصاً على مصلحته وعلاقته بأبيه . حاول سامح نسيان صابرة لكنه لم يستطع و في النهاية حزم أمره وقرر الزواج منها وصارحها بما فكر فيه قائلاً أنه سوف يبذل قصارى جهده لإقناع أبيه وإذا رفض فسوف يتزوجها وله العذر كل العذر ، قالت له صابرة : ـ إذا اضطررنا للزواج بغير موافقته فعليك أن تعيد إليه كل ما أعطاه لك وتبدأ من جديد ! ـ كيف يحدث ذلك فأنا ابنه في النهاية ولن يسعده أن يعيدني إلى نقطة الصفر ! ـ ذلك هو طلبي الوحيد !! ـ لكني حاولت مع أبي كثيراً ورفض بل وطالبني بنزع هذه الفكرة من رأسي نهائياً وإلا أدخلني ئمستشفي الأمراض العقلية ! دارت الأيام دورتها وعندما يئس سامح من إقناع أبيه بدأ يستعد للزواج ممن اختارها قلبه ، وعندما علم أبوه استولى منه على ما أعطاه بداية من المكتب الهندسي والسيارة والشقة وكل شيء .. كل شيء ! وكان أشد ما آلم سامح أن يساعد أباه في ذلك الظلم أخواه الصغيران صبحي وصبري وكذلك زوج أخته الكبرى عايدة الذي انتهزها فرصة واستولى على المكتب الهندسي ووضع عليه لافتة كبيرة لتوسيع تجارته في المنسوجات ، ولم يجد سامح معه غير مائة جنيه فقط دفعها للمأذون الذي عقد قرانه على صابرة ، وأقام مع زوجته وشقيقتيها في بيتهن البسيط الدافئ بالحب والتراحم بين ذوي القربى . بعد فترة عرف سامح أن كل تركته تم توزيعها على شقيقيه وأخته الكبرى ، وبدأ يفكر فيما يفعل كي يكسب رزقه ويعول زوجته التي رفضها أهله لفقرها وبساطة أهلها . مرت الأيام ووفقه الله في الحصول على عمل بشركة كبرى للاستثمار وانتقل إلي شقة مفروشة بالإيجار ومعه زوجته ، بعد ذلك جاء الفرج من عند الله عز وجل وحصل على عقد عمل بالكويت ، سافر إلى هناك مع زوجته صابرة واستمرت غربتهم عن وطنهم سبعة أعوام وفتح الله عليهم أبواب الرزق بسخاء شديد كأنما أراد المولى أن يعوضهم عما خسروا في مصر وبأيدي ذوي القربى والرحم ، وأنجبت صابرة طفلاً أصر زوجها على تسميته على اسم والده وأيدته هي في ذلك ، ثم أنجبوا طفلة أطلقوا عليها اسم أمه ! خلال سنوات الغربة علم سامح أن أباه قد مرض منذ فترة مرضاً شديداً أفقده القدرة على الحركة كما علم أن زوج شقيقته عايدة قد تورط في صفقة استيراد مشبوهة ودخل السجن ، فكان يرسل إلى شقيقته مصروفها وأولادها الأربعة كل شهر خلال محنتهم ! عاد سامح وزوجته للاستقرار في مصر وفوجئ بأن تجارة أبيه مهددة بالإفلاس بسبب كثرة الديون ! وقام شقيقاه ببيع كل شيء لتسديد الديون لكن الباقي ما زال كثيراً !! توالت الأخبار الصعبة عن أهله وقد سيطرت عليه فكرة الانتقام منهم جميعاًَ خاصة زوج أخته بسبب ما فعلوه معه عندما قرر الزواج من صابرة ، لكن زوجته الأصيلة منعته من ذلك قائلة له أنها أحبت سامح المتسامح الطيب ولا تريد أن تعيش مع سامح المتسلط الجبار !! والآن يعيش سامح في عذاب مقيم من تأنيب ضميره ، فهو يرجو من أعماقه مساعدة أهله في محنتهم ، لكن تمنعه نفسه وتأبي أن تطيعه في ذلك ! لقد ركبته الهموم لانشغال نفسه بالتفكير في الانتقام من الآخرين ، لكن ممن سينتقم ؟!!... إنهم أهله رغم كل ما فعلوه وبانتقامه منهم فإنما ينتقم من نفسه تلك هي آفات النفس البشرية ، إنها تنقاد وراء أهوائها وغرائزها ، لذا فمن الواجب علينا كبح جماحها وتهذيبها وتحويلها من نفس أمارة بالسوء إلي نفس متسامحة تترك للخالق جل في علاه أن يأخذ لها ثأرها من ظالميها وتصبح نفسا مطمئنة هادئة واثقة من عدالة ربها ، ومن الواجب عليه الآن أن ينهض بما يمليه عليه ضميره ويفرضه عليه دينه وخُلقه ويحمي اسم أبيه الذي هو اسمه ، ينقذ تجارته من الإفلاس وبيع ممتلكاته في المزاد العلني ! فمهما حدث من أبيه فإنه في النهاية وما يملك ملك لأبيه ، ويكفيه أنه رأى بعينيه حكم المحكمة الإلهية في الذين ظلموه ، فلا ينبغي أن يكون هو أيضاً ظالماً مثلهم !! ويكفيه فخراً وعِزاً أن جاءت نجدة من ظلموه على يديه هو ، هكذا تعلمنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ازداد أحد بعفو إلا عزاً وأعفوا يعزكم الله ) .. لقد آن الأوان للقلب الجريح أن ينسى طعنات الآخرين الدامية له ، ويا لها من فرصة عظيمة لنيل رضا الله عنا بأن نكافئ من عصى الله فينا بطاعة الله فيه . تلك هي النفوس النورانية الشفافة تنسي إساءة الآخرين بسهولة ، بل وتتمني لهم الهداية والهدي والفلاح في الحياة . وذلك هو الفارق الشاسع بين نفس ونفس وبين قلب وقلب وبين عقل وعقل ، وطبيعي ان يختلف الناس ، فلولا اختلاف الآراء لبارت السلعة ، لكن مهما كان الاختلاف شديدا لابد أن ترافقه الرحمة بالعباد والعفو والتسامح . القلوب البيضاء تسامح سريعاً ودائماً ، أما القلوب السوداء فانها تكون مشحونة بالبغضاء والحقد والكراهية ، والتلذذ بالتشبث بأهداب الماضي الأليم ، فتراها تقول كيف انسي ما فعله فيّ فلان ؟! كيف أغفر له ؟ ... كيف أسامحه ؟ كيف وكيف وكيف ؟! .. فيتغلب عليها طابع القسوة والكراهية لكل من ظلموها وتنشر في المجتمع جوا من الحقد وعدم الثقة ! تخيل مجتمعا الجميع فيه يتشككون في بعضهم البعض ! مثل هكذا مجتمع نراه مريضاً ، لا ينتج ولا يبتكر ولا تزدهر بضاعته ! وهذا هو سر تقدم الغرب عنّا ، هناك نجد روح الإسلام ، نجد المحبة بين الناس بإخلاص ، نجد العمل بتفاني ، والعامل يحصل علي حقه كاملاً غير منقوص ، أما هنا في أمتنا العربية فالعامل مسروق حقه وبالتالي لا ينتج ولا يحب صاحب العمل ، نجد ذلك واضحاً في المدن الصناعية ألكبري في (( كل )) البلدان العربية ، ولهذا تقدمت صناعة الغرب ورجعنا نحن للخلف مئات السنين وما زال التراجع مستمراً ، وما زال الحقد مستمراً ، وما زالت الكراهية مستمرة ! ذلك هو واقع العرب المؤسف !! أقوام تكره بعضها وتحقد علي بعضها ، ماذا تتوقع منها غير المزيد من التخلف والمزيد من البؤس والمزيد من الحروب وضياع الأوطان !! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحمد عبد اللطيف النجار