اختبار الله - أحمد عبد اللطيف النجار ------------------------------------------ "ليست قصة ،، سرد قصصي يفوق القصة "
صعبة هي اختبارات الحياة ، يفوز فيها الصابرون الشاكرون الحامدون الله سبحانه وتعالي في السرّاء والضرّاء . لكنها النفس الإنسانية بكل ما فيها من نوازع الخير والشر تكون نظرتها للحوادث غالباً متغيّرة متذبذبة ، فتارة تكون أقرب إلى الصبر علي الابتلاء والإيمان بمشيئة الله وحكمته ، وتارة نراها أقرب إلي اليأس والقنوط من رحمة الله ، وما بين اليأس والرجاء تتوالد الأحداث وتتفاعل النفوس الطيّبة والنفوس الخبيثة ، صاحبي عبد الرحيم ، مهندس زراعي ابتلاه الله بمرض ولده الوحيد عثمان ، ولنترك عبد الرحيم يقص بنفسه قصته، يقول الرجل : نشأت في أسرة ريفية بسيطة تعرف وتقّدر فضل احترام الوالدين ، وأمضيت معظم مراحل تعليمي بعيداً عن أسرتي التي تعيش في قرية بعيدة في الوجه البحري ... كانت أمنيتي أن أتم تعليمي وأعود للاستقرار في بلدتي بين أبي وأمي ، لكن القدر لم يمهل أمي طويلاً كي تستمتع باجتماع شمل أولادها حولها ، فعقب تخرجي بعام واحد وعودة أخي من بعثة الدكتوراه في الخارج رحلت أمي عن الحياة راضية عنّا ، وبعد رحيل أمي يرحمها الله وأثابها عنّا أفضل الثواب ، تزوجت من فاطمة وهي فتاة فاضلة من أسرة صديقة لأسرتي وأنجبت طفلتي الحبيبة دعاء ، فكانت ابنتي فاتحة خير كبيرة في حياتي ، إذ وفقني الله إلى فرصة عمل طيّبة بمكة المكرمة ، وهناك أحببت عملي كثيراً وتفانيت فيه ووفقني الله إلى ابتكار أسلوب جديد فيه وفّر كثيراً من الجهد البشري وحقق الجودة ، فسعد به رؤسائي وعشت أجمل أيام عمري في تلك البقعة المباركة ، مر عام ورزقنا المولى عز وجل بولدنا الحبيب عثمان الذي تفاءلت بمقدمه خيراً وتقاسم حبنا مع شقيقته دعاء ... كانت زوجتي تقضي معظم وقتها في التدريس لهما بالبيت حتى تفوقا في دراستهما ، وحتى كان ابني عثمان وهو في الثامنة من عمره يحفظ القرآن الكريم كله ويتلوه بطلاقة أمام زوّارنا ....
فجأة أصيب ولدي الحبيب بنوبة برد عابرة وذهبنا للطبيب الذي أعطاه بعض المضادات الحيوية لكن نوبة البرد كانت شديدة بعض الشئ فلم تنته أعراضها ورأينا أن نعرضه على طبيب آخر فكتب له دواءً مختلفاً ولم تتحسن حالته، ولاحظت أنه يزداد شحوباً فشعرت بالقلق عليه وذهبت به إلى مستشفي خاص وأجريت له الفحوص والتحليلات اللازمة وأخبرني الطبيب أنه يشتبه في حالته وطلب أخذ عيّنة فوراً من بلعومه لتحليلها ، وتمت العملية وأخذت العيّنة وانتظرت يومين حتى ظهرت النتيجة وذهبت على الفور إلى طبيبة التحاليل لتسّلم النتيجة ، وكانت صدمتي كبيرة عندما علمت منها أن هناك ورماً في بلعوم ولدي الصغير ، وخفق قلبي خفقة مؤلمة حين سمعت هذه الكلمة المخيفة وسألتها عما إذا كان الورم حميداً أم لا ؟.. فقالت أنه بكل أسف ورم غير حميد ! ساعتها شعرت بأن الأرض تهتز من تحت قدمي ، لكني تماسكت وذهبت للبيت وتظاهرت بالاستهانة أن الأمر بسيط للغاية ويحتاج لبعض العلاج ، وذهبت للطبيب المُعالج الذي نصحني بالتوجه إلى مستشفى خاص ، وذهبت للمستشفى فوراً وهناك وجدت طبيباً استشارياً مصرياً كبيرا كان يزور المستشفى ، فما أن رأى أطباء المستشفى ابني حتي اتصلوا به في غرفته وهو يحزم حقائبه استعداداً للسفر وأبلغوه عن الحالة فنزل لرؤيتها وقال لي بعد الفحص أنه رغم ندرة الحالة وخطورتها إلا أن الأمل في رحمة الله كبير ، وقرر البدء علي الفور علاجه بالجرعات الكيماوية ، وبدأ على الفور إعطاءه الجرعة الأولى ، والحمد لله كان مديري في العمل متفهماً لظروفي الصعبة فقال لي جزاه الله عني كل خير رافق ابنك في مراحل علاجه ولو اضطررت للغياب عن العمل بالشهر ... شكرت له موقفه النبيل مني الذي لن أنساه ما حييت ، وتفرغت لعلاج ولدي الحبيب في البيت والمستشفى ، وصارحت زوجتي بحقيقة مرض ابننا وكانت بفضل الله إنسانة مؤمنة بربها اقتنعت بكلامي بأن ما يتعرض له ابننا إنما هو ابتلاء واختبار من الله عز وجل فإما أن نثبت للاختبار فننال عفوه ورضاه ، وإما أن نرسب فيه فنبوأ بالخسران المبين ولن يغيّر حزننا وفشلنا من النتائج شيئاً ، وتعاهدنا بالدمع الغزير على أن نثبت في الامتحان وننجح فيه بإذن الله ، ولأننا في النهاية بشر من نسل سيدنا آدم الذين توعدهم الشيطان بأن يقعد لهم ويأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم ومن فوقهم ومن تحتهم . كان من سوء حظي أن مدرسة ابني ملاصقة لعملي فكنت حين أذهب للعمل كل فترة أمرّ علي المدرسة وأرى الأطفال يلعبون ويلهون ويمرحون فأستعيد صورة ابني الحبيب الراقد في البيت عاجزاً عن الحركة بعد أخذ الجرعة ، ويفحّ الشيطان فحيحه السام في أذني ، وأتساءل بيني وبين نفسي : يا رب ماذا ارتكبت في حياتي منى ذنوب ليعاقبني الله عليها بهذا الاختبار الأليم ؟!... ثم أفيق لنفسي واستعيذ بالله من الشيطان الرجيم واستغفر الله العظيم كثيراً وأمضي إلى عملي داعياً لابني ولكل الأبناء بالسلامة من كل سوء . تعمّدت بعد ذلك ألا أنظر ناحية مدرسة ولدي عثمان كلما مررت عليها ، وبدأت أقرأ القرآن الكريم كل ليلة لفترة طويلة لولدي قبل أن ينام وأضع يدي على رقبته حيث موطن الداء وأقرأ المعوذتين داعياً له ومبتهلاً إلى الله أن يشفيه . قطعنا عدة شهور من العلاج استدنت خلالها لمواجهة نفقات العلاج الباهظة ، ثم قررت أن تعود به أمه إلى مصر لعرضه على كبار الأطباء لاستكمال العلاج في معهد الأورام بالقاهرة ، وهناك في معهد الأورام رأت أمه من الحالات ما جعلها تلهج بالحمد والشكر لله أن كان امتحاننا في هذه الحدود وهدانا لاكتشاف حالة ابننا مبكراً وقبل فوات الأوان ! كم قاسى ولدي الحبيب من عذاب وآلام في علاجه وازداد ذبولاً وعزوفاً عن الطعام ، حتى كانت أمه تضع له الطعام في فمه كما يُطعم الطفل الرضيع ، وتساقط شعر رأسه بسبب العلاج الكيماوي وأنا أواصل ابتهالي لله سبحانه وتعالى أن يمدني وأمه بالقوة كي نتحّمل المشوار حتى النهاية بغير أن ننهار .... عشنا على هذه الحال أربعة سنوات كاملة نرى ابننا يذبل أمامنا ، وأخيراً بدأت حالة عثمان تتحسن بعد المواظبة على أخذ جرعات العلاج وبدأ وهو في الثانية عشرة من عمره يتماسك قليلاً وبدأ شعره ينمو تدريجياً بعد أن توقف عن تناول العلاج ، وبدأ جسمه ينمو وطوله يزيد حتي أصبح بحمد الله أطول مني وأبلغنا الأطباء بأنه قد شُفي شفاءً كاملاً من مرضه الخطير ، والآن ولدي الحبيب في المرحلة الثانوية يذاكر ويقرأ ويجالس زوّارنا ويذهب لمدرسته ، ويقوم الأطباء بإجراء فحص دوري له كل أربعة شهور في العام الأول ، ثم كل ستة شهور في العام الثاني ، ثم مرة كل عام لمدة ثلاث سنوات قادمة والنتائج بحمد الله مُبّشرة . تلك هي قصتي يا صاحبي وتجربتي مع الابتلاء التي اكتسبت منها الكثير والكثير وأيقنت أن الله سبحانه وتعالى قد أراد لي بهذا الابتلاء خيراً ، وعرفت أيضاً أن أطماع الدنيا كلها لا تساوي قلامة ظفر وأن صغائرها وصراعاتها لا تستحق أن نتوقف أمامها لحظة واحدة ! والآن قد خرجت من محنتي وقد أسقطت كل صغائر الدنيا وأطماعها من حساباتي بعد أن لمست غدرها المفاجئ ، عرفت أن ما قد يجمعه الإنسان في سنين طويلة يمكن أن يضيع في غمضة عين ! وأن الصحة وعفو الله والستر والقناعة هي الأهداف السامية التي ينبغي أن يسعى إليها الإنسان ، وأن أفضل الدعاء هو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ( اللهم متعني بالعفو والعافية ) . *تلك قصة صاحبي عبد الرحيم مع المحنة والمرض والابتلاء ، وهو بحمد الله نجح في الاختبار ومعه زوجته الصابرة المؤمنة . هذه هي دروس المحنة العظيمة التي ينبغي أن نتعلمها جميعاً ، وذلك بأن نهتدي بهدي أولي العزم من الرسل والأنبياء الذين صبروا علي ابتلاءات أشد واختبارات أقسى وأصعب ، وهذا ما يطلقون عليه منحة المحنة أي أننا نتعلم من المحن والأزمات الكثير والكثير ، وبقدر ما كان الابتلاء عظيماً بقدر ما كانت المنحة كبيرة . أحمد عبد اللطيف النجار