لحظة توبة - أحمد عبد اللطيف النجار ------------------------------- إنها حقاً لحظة من أجمل وأروع لحظات العمر ، تلك اللحظة التي يتوب فيها الإنسان عن المعاصي والذنوب ، ويعود خاضعاً خاشعاً لله رب العالمين ، والتوبة لا تكون مجرد لحظة فقط ، إنما هي توبة دائمة متواصلة وعزم أكيد علي عدم العودة إلي المعاصي مرة ثانية . إنها توبة مستديمة واستغفار دائم لرب العالمين ، تلك هي التوبة الحقيقية ، لا التوبة المزيفة التي يظن صاحبها أنه يخادع بها الله عز وجل ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) ... التوبة الصادقة تطهر صاحبها من كل معصية وما اقترفه من آثام وذنوب ، ولسوف يلقي جزاء التائبين الصابرين المجاهدين الذين جاهدوا النفس ولم ينصاعوا وراء أهوائهم . صابرين امرأة عاشت فترة من حياتها كما يقولون بالطول والعرض ، فكان كل شيء لديها مُباح ، التبرج مُباح ، الزينة وارتداء أحدث أزياء الموضة مُباح ، العطور مباحة ، فجأة عاشت تجربة صعبة جعلت منها سيدة مختلفة تماماً . جاءتني صابرين ذات يوم سعيدة ، علي وجهها هالات النور وعطر الإيمان تقول : عمري أربعين عاماً ، جميلة ومثقفة، تزوجت منذ 15 سنة من زميلي في العمل عبد الله ، وذلك بعد قصة حب استمرت ثماني سنوات ، وأنجبت منه طفلين هما قرة عيني . منذ ثلاث سنوات اكتشفت إصابتي بأورام في الثدي ، وقتها شعرت بالرعب والخوف لهذه المفاجأة الصعبة ، ونمت ليلتي بين أولادي كأنما احتمي بهم مما أتوجس منه وأريد أن أشبع منهما . بعد مداولات بين الأطباء قررت السفر للخارج لإجراء الجراحة وأجريتها هناك بنجاح وعدت لحياتي وزوجي وأولادي ، لكنه بعد عام ظهرت نفس الأعراض وسافرت مع زوجي لإجراء الجراحة الثانية ... ودّعت أولادي وأهلي هذه المرة وداع من يخشى ألا يراهم ثانية ، وتمت الجراحة بنجاح وصارحني الأطباء أن الورم خبيث ؛ فكانت صدمة كبيرة علي نفسي . في اليوم التالي للجراحة كنت راقدة في فراشي بالمستشفي أنظر إلي النافذة بجواري ، حين تردد هذا السؤال فجأة في أعماقي : ماذا لو أخبرني الطبيب بأن ما تبقي لي من عمر ليس سوى شهر أو شهور معدودة ؟!! تأملت حالي وحياتي السابقة وتساءلت : ما هذا المظهر الأوروبي الذي يتسم به مظهري ؟ .... ما هذا الشعر المكشوف ؟! .... ماذا عن علاقتي بزوجي ومناطحتي له في السابق ؟! ما هذا الشعر المكشوف ؟!! ... إلي أين يقودني ذلك ؟!! هل لو زال الخطر عني حينها أعود إلي حياتي الماضية وأواصلها كما كانت بأخطائها وعثراتها ؟! الجميع يصفونني بالشهامة وبأنني أقدّر الجميل ولا أنسي فاعله ، وأقف بجوار الحق ، فهل أنسي جميل ربي عليّ بتمام شفائي وأعود لحياتي السابقة اللاهية ؟!! قررت بعد تفكير عميق أن الوقت قد حان لمراجعة حياتي كلها ، والاستعداد لقطف ثمرة محنتي في طاعة الله والتوبة عن كل أفعالي في الماضي . ذات يوم جاءني الطبيب وأبلغني بزوال الخطر ، وبأنني أستطيع أن أواصل حياتي الطبيعية دون خوف ، ابتهجت لذلك كثيراً وتذكرت ديني لربي بالوفاء له سبحانه بالعهد ، فكان قراري الأول هو أن غادرت المستشفي الأجنبي الذي دخلته امرأة متبرجة وارتديت الحجاب عن اقتناع كامل ورجعت إلي بيتي وأولادي وأنا إنسانة مختلفة أنظر إلي الحياة نظرة مختلفة ، واعتبر كل لحظة تمضي بي وأنا علي قيد الحياة صدقة منحها الله لي بفضله وكرمه ، أرجوه أن يطيل في حياتي كي أربي أولادي علي طاعة الله ، وأصبحت أقدّر الحياة حق قدرها ووضعت كل مشاكلي في حجمها الطبيعي . لقد آمنت أنه من الجحود بنعمة الله ألا يرضي الإنسان بحياته بسبب ما يعانيه من قلة الرزق أو عدم التوفيق في حياته الزوجية . راجعت حساباتي بعد أن استقرت حالتي ووجدت أن حياتي قد تغيّرت للأفضل ، وأن علاقتي بكل من حولي قد تحسنت وأنني قد سعدت بالسلام النفسي والثقة بالله والرضا بقضائه وقدره ، وأدركت أن لي ثروة من الأهل والأحباب الذين غمروني بمشاعرهم وأفضالهم خلال محنتي مثل صديق زوجي الذي بادر بالاتصال بالمستشفي الأجنبي دون طلب منا وحجز لنا تذكرتين للسفر وصمم علي أن نقيم في شقة صديق له بالعاصمة الأوروبية لمتابعة العلاج بعد الجراحة ، أو هذا الشاب المصري الذي يقيم هناك ولم نكن نعرفه من قبل وأصرّ علي أن نقيم في بيته الصغير مع أسرته ، أو هذا الرجل الصالح وزوجته الفاضلة الذين يتصلون بي يومياً داعين المولي عز وجل لي بالشفاء ، أو صديق أبي المخلص الذي أراد أن يخفف عني فأهداني كتاب سيدات بيت النبوة . والله يا أخي لقد وقف الجميع معي بالدعاء والتثبيت والتشجيع وأحاطوني بحبهم ورعايتهم ، فكيف أعتبر بعد ذلك ما تعرّضت له ابتلاء محنة وقد كان منحة وفضلاً من الله ونعمة وتذكيراً لي بما أنعم به ربي عليّ . ما أروعها لحظات التوبة الصادقة التي عايشناها مع تلك السيدة المؤمنة الصابرة صابرين التي صبرت علي المرض وصهرتها المحنة في بوتقة الإيمان ، فأصبحت إنسانة مختلفة تماماً ، وتلك هي مفارقات الحياة العجيبة ، أننا قد لا ندرك أحيانًا قيمة ما يحدث لنا من أسباب السعادة والرضا والابتهاج إلا ونحن نستعد للرحيل ! وتلك هي روعة الحياة أو حلاوة الروح كما يقولون ، فتفكيرنا في الموت يدعونا إلي الشعور بقيمة الحياة ، وأننا يجب أن نعمل فيها العمل الصالح استعداداً ليوم الرحيل ، وهذا هو بالتحديد كان رد فعل صابرين عند علمها بمرضها الخطير ؛ فراجعت نفسها وحياتها السابقة وعزمت علي الطاعات واستثمار حياتها في تحقيق السعادة لها ولمن حولها ، وفي إضاءة عالمها الصغير بالقيم الدينية والأخلاقية والعلاقات الإنسانية الراقية . لقد تعلمت صابرين درس المحنة ، وبدأت الالتفات إلي الأشياء الجديرة حقاً باهتمام الإنسان ، وفي التغاضي عما لا يستحق العِناد من أجله أو الوقوف أمامه بلا فائدة من صغائر الحياة . كانت تلك هي الفلسفة الإيمانية العميقة التي تمسكت بها صابرين ، فكانت لها طوق نجاة وفوز في الدنيا والآخرة . هنيئاً لها التزامها جانب الطاعة والإيمان الصادق في كل شئون حياتها واستمتاعها بحياة فاضلة مع الاستعداد للرحيل الأبدي كما نصحنا إمام المتقين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه : اعمل لدنياك كأنك نعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً . ************************************ أحمد عبد عبد اللطيف النجار