صاحب الثمانين - صفية قم
--------------------------
من رواية في طريق الاكتمال:
" إيه يا بنيّتي، أنا الآن أشرف على الثمانين ومن يعش ثمانين حولا - لا أبا لك يتعب... متعبة أنا يا ابنتي وأبوك زاد من تعبي، فأنا ما عدت قادرة على القيام بشؤونه. طلباته لا تنتهي وأوامره لا تؤجّل. ينام نهارا و يرهقني ليلا. إنّ النوم لا يعرف إليه سبيلا، إنّه أصبح يعيش خارج إطار الزمان و المكان: يرى ما لا أراه ويخاطب من لا وجود لهم بيننا ويسمع نداءات من وراء الغيوم و تداهمه مياه غامرة وخلاء وهو لم يغادر فراشه بل إنّه ينكر أن يكون في غرفته وعلى فراشه ويستحلفني بأغلظ الأيمان أن أخلّصه من السيول الجارفة والأنهار الطامية وأن أعود به إلى بيته ... " - منذ متى هذه الهواجس والتخيّلات؟! - منذ مدّة، منذ شهر تقريبا و الأمر يستفحل يوما بعد يوم... و ينتبه أبي إلى ما ترويه أمّي بصوت خافت حتّى لا تزعجه أو تؤذي كبرياءه فيطلق زفرات ضرغام جريح هدّه الوجع و أدمى أقدامه الوهن. يحاول أن يعدّل من ضجعته تلك وقد طال به الأمد فيجد نفسه أعجز من أن يتحرّك يمينا أو شمالا. يحاول مرّة أخرى و يتحامل على نفسه. يمسك برأس السرير الخشبيّ ويجذبه إليه ويتوكّأ على الوسادة تلو الوسادة... عبثا يحاول وبالنفس رغبة جامحة في أن يتجاوز العقبة وما أدراك ما العقبة: كلاكل العجز الراسية الجاثمة القاتلة... يطلب منّي أن أعطيه عصاه؛ أبحث عنها وأوافيه بها... يحاول مرّة أخرى أن ينهض. يستند إلى الجدار ويقترب من حافة السرير زحفا بطيئا، بطيئا... يئنّ السرير بحمله ويصرخ أبي من شدّة الغيظ والألم صابّا جام غضبه على الفراش والوسادات والأغطية الّتي منعته عن الحركة بطلاقته المعهودة... إنّه لا يريد أن يعترف أمامنا بعجزه و لا نريد أن نخدش كبرياءه... نتركه يحاول مرّة ومرّة ومرّة... أهمّ بمساعدته فتجذبني أمّي خلسة من ثيابي أن تنحّيْ عنه حتّى لا ينزعج... أتراجع القهقرى والقلب ينفطر ألما ويخيّم على الغرفة صمت رهيب كأنّه الدهر كلّه... تمزّق أنّات أبي الفضاء السادر ويخيّم علينا ظلام هادر قاهر مارد... تتفطّن أمّي إلى دموعي الحبيسة في مقلتيّ فتغادر الغرفة إلى فناء الدار مكرهة... أتقدّم من أبي على وجل وأهمس: " هذي عصاك أبي، هات يدك و أمسكْ بي وبها وما تمسّكك إلّا بالله الحيّ الذي لا ينام " يمدّ إليّ بيده على استحياء و يمسك بي بشدّة وعنف كما الغريق يبغي تجاوز اللّجج و يمسك باليد الأخرى عكّازه بعنف أشدّ وتصميم أصمّ على النهوض... أجذبه إليّ بكلّ ما أوتيت من قوّة زادها الألم تصميما على بلوغ الأرب و يقبل عليّ بكلّ إرادته الصمّاء قائلا:" يا الله، يا معين، يا كريم، يا ذا الجلال والإكرام " ويهمّ بالنزول من السرير في حركة بطيئة وأجذبه إليّ جذبا كطفل كسيح أخشى عليه من السقوط... أجذب وأجذب ولا يزداد إلّا ثقلا و تراخيا... أعيد الكرّة تلو الكرّة ويده اليمنى ممسكة بي كما الأخطبوط... يلسعني الألم وتلفحني السياط و يتقوّس ظهري وأكتم وجعي وأتحاشى النّظر إلى عينيه العسليّتين البرّاقتين حتّى لا أحرجه... " هيّا يا أبتي، كدنا نصل بل إنّنا وصلنا... هيّا هُبْ، هُبْ، هُبْ" و في غفلة منّي يتهاوى بعد أن ضغط بكلّ كلكله عليّ وأراه بأمّ عيني طريح الأرض الّتي فُرشت ببساط سميك... ظللت مشدوهة لبضع دقائق ولم ينبس أبي ببنت شفة... أفقت من غفوتي وهرعت إليه: " أبي، أبي، هل أنت بخير؟؟؟ " انعقد لسانه واكتفى بالنظر إليّ... رأيت بمقلتيه دمعتين لألاءتين تهمّان بالسقوط على خدّيه المورّدين... فرك عينيه حتّى يحبس دموعه و تمتم: " أنقذيني يا ابنتي من هذه الأمواج العاتية التّي بلّلتني " لم أتمالك نفسي واجتاحتني زوبعة من البكاء في صمت. أدرت وجهي إلى باب الغرفة حتّى لا يتفطّن إلى دموعي و قلت في حشرجة: " لا بأس عليك يا أبتي، سأفعل قصارى جهدي لتكون بخير." عادت أمّي ومعها زوجة أخي... تعاونّا وحملناه ثلاثتنا إلى فراشه في صمت جنائزيّ رهيب...