صرخات الموتى.. - محمد القصبي
-----------------------------------
عاد العجوز إلى بيته و قد كبث سعادته تقديرا لمشاعر زوجته التي وجدها نائمة في غرفة ابنها.. لم يشأ أن يوقظها...حاول هو الآخر النوم بعد أن أخذ رشاشا دافئا استعاد به بعض الحيوية و النشاط .. مستلق على ظهره و صور حميمية تتقافز أمام ناظريه لن يطويها النسيان مطلقا ... صور يتابعها بانفراج الأسارير لقطة .. لقطة ... منذ لقاء ناديا بالكلية و ما دار بينهما من حديث ضارب في عمق المثاقفة أفكارا و أطروحات ناقدة أو مؤيدة لما تم الإيمان به من مرجعيات محركة لقضايا عامة في السياسة و الدين و الجنس ...إنهما قد حررا شكلية الثالوت المحرم الرهيب من خلال ما يمثلانه من زوايا تقييمية حسب مقاربة النوع و العمر و اختلاف التجارب الداعمة للمواقف بينهما ... صور دافئة صاعقة تثرى..فكم يستلذ استيهاماته التي تنثال دفقة حرى من مخيلته الناصعة ألوانا الدقيقة زمانا الهائمة مكانا ... كركوب الحافلة معا أو ما مر معه و إياها في أصيلا من لحظات ماجنة ستؤجل موته عشرات السنين ...و كلما لاح شبح ابنه على شاشة ذاكرته الطازج أحداثها إلا و تجاهل بما يوثق حلم اليقظة على لذة مشفوعة بالاسترجاع و الإعادة المتكررة التي لم تعرف الملل قط ... كم يحس بعنفوان الشباب يسري عبر مسامه إلى كل خلايا جسده فيشببها حيوية و يغدق عليها من نظارة الإحساس ما يعمق في نفسه الثقة في نفسه كونه لا زال يحتفظ ببعض الجاذبية و الفحولة ...فعلا الرجال لا يكبرون ...ثم التفت إلى زوجته التي بلغت سن اليأس و قد انبجس الخطاب من عمقه لغة مفعمة بآيات الاستغراب الغامق لونه..: ---- إنها اصغر مني بتسع عشرة سنة كاملة لكنها شاخت قبلي...فهل يعتبر هذا سببا كافيا لطلب التعدد ؟؟؟ زوجتي طيبة أصيلة المنبت.. فهي بكل فخر شرقية التقاليد إذ تعتبر الزوج مقدسا أسوة بالهنديات اللائي يحرقن أنفسهن أحياء بعد موت بعولتهن و سوف لن تمانع إذا ما اقترحت عليها الفكرة ... سأتزوج فقط لأنجب لها ابنا استخلف به فقيدي .. أليس من حقي أن أعيش أبا مستمتعا بعاطفة الغريزة سيدا للعائلة وحلمي أن أكون جدا يتحلق حوله الأحفاد ككومة نحل لا يكف عن الطنين.. ففي الصراخ و الجبلة كل الأدلة على الحياة و الوجود ...يقبل هذا ..يتذمر من تلك ...يصفع هذا.. يدغدغ تانيك ..و يمنح مما يخبئه من شوكولاطة لذانيك من الأحفاد و الحفيدات ...احلم بان تكون لاسمي مملكة مقدسة الامتداد ...... يكفي أنها منشغلة بفقدان ابنها الذي كانت توليه من الحب ما لا يمكن مقارنته إطلاقا و سائر النساء و الأمهات اللائي أنجبن بعد عقر طويل الأمد... إنها أمومة مكلومة .. مهيضة الجناح .. و ليست أنوثة في عز خصوبتها تعلن بصرختها الأخيرة أنها رحم خرود بالعطاء الذي يجدد إيهاب الوجود .. إنها الطبيعة التي تمنح من رسالة الميلاد سر الحياة حبا لتباشير الاستخلاف ... استفاقت الزوجة على صوت كحة الزوج الممدد فوق فراشه الأثير ...بشوشة سألته : --- حبيبي متى وصلت ؟... انحنت عليه تقبله فشمت بقايا رائحة السجائر مختلطة بنكهة الخمر المعطر بالبسباس : ---ابعد هذا العمر عادت حليمة إلى عادتها القديمة...ما الذي دفعك إلى هذا الانتحار البطيء حبيبي ؟؟؟؟ فقدت ابني و لا زلت ارتجي من الله عودته إن شاء العزيز القدير لكنني أبدا لا استطيع العيش إذا ما قدر الله لك الرحيل... لقد منع عليك الطبيب التدخين و معاقرة الخمر... إنهما يشكلان خطرا حقيقيا على حياتك كما تعلم و بالوثائق الطبية فما الذي أجبرك على العودة إلى مثل هذه الموبقات السيئة حبيبي ...عش للأمل المنتظر عودة ابننا فقط ... و صرخت حتى تشقق صمته من هولها ...أرجوك لا تنتحر... من دقيق التشرخات الصوتية.. انبعث ضوء مرافق بنبر الراوي: --- كيف لزوج أن يغدر برفيقة عمره محاولا تحت ذريعة استخلاف الفقيد أن يتزوج ثانية .. ليس هذا إلا لترضية ما عاناه من حرمان أول البدء ...في حين نجد الزوجة الجريجة تجهما و كآبة أكثر تحملا رغم فقدان جزء من ذاكرتها النابضة بالحنين و صدق المشاعر الدافقة بالحب المجيد ... إنها لا زالت تتذكر واجباتها نحو زوجها و تعلقها بأمل عودة فقيدها إلى الأحضان ... قام الشيخ العجوز من مرقده وقف امام المرأة فكتب باصبعه على اديمها الصقيل : إذا كُنتَ ذا رأيٍ فكُن ذا عزيمةٍ--- فإن فساد الرأي أن تترددا.و بهذا خفتت همهمات الراوي التي لم تجد في أذن الزوج إلا وقرا موغلا في الكلسية المتيبسة و الموحلة تشققا .. صرخات.. صرخات بالصوت.. بالأنفاس..بالصمت و بالاماءة .....تجلل وادي الموتى المقفر الكئيب...
من رواية صدام -----------الفصل 21 - يتبع
------------------------- محمد القصبي 21/2/2017 القصر الكبير المغرب الأقصى