عكا - الشيخ د.صالح العطوان الحيالي
-------------------------------
"لو لم اقف أمام عكا لأستوليت على الشرق بكامله "حملة نابليون على بلاد الشام وهزيمته في عكا "
في السادس عشر من شهر رمضان 1213هـ الموافق 20 فبراير 17999م تمت مطاردة نابليون بونابرت للمماليك في العريش ثم هزم أمام عكا. وصل نابليون إلي مدينة عكا وكان لابد من احتلال هذه المدينة لكي يستطيع الاستمرار في حملته شمالاً إلي الشام، حيث كانت مدينة عكا تحتل موقعا استراتيجيا مهما. كان السلطان العثماني سليم الثالث قد أوكل مهمة الدفاع عن المدينة إلي القائد العثماني أحمد باشا الجزار بعد أن رقاه إلي مرتبة وزير، ومن بعدها بدأت المعركة، وبدأت المدافع الفرنسية تصب حممها علي قلاع المدينة وأسوارها، ولكن لم تتحقق توقعات نابليون في النصر السريع، فقد أبدت الحامية العثمانية لمدينة عكا شجاعة فائقة في القتال علي الرغم من تفوق الجيش الفرنسي من ناحية العدد والعتاد الحربية ولا سيما في عدد المدافع التي كانت تصب حممها علي المدينة الصغيرة المحاصرة. وعقد نابليون مشاورات عدة مع ضباطه ثم قرر إرسال رسالة إلي القائد العثماني يقترح عليه إجراء المفاوضات بين الطرفين. لكن المفاوضات فشلت ورفض الجزار ما جاء به الوفد الفرنسي وما إن نقل الوفد جواب القائد العثماني إلي نابليون حتى جن جنونه، وبدأ يفكر في وضع خطة جديدة تؤمن كسر مقاومة الحامية العثمانية، فأمر بأن يتم وضع عشرات بل المئات من المشاعل ليلاً علي مقربة من أسوار المدينة لكي يستمر قصف الأسوار ليلا ونهاراً دون توقف، وهدم بعض أجزاء من سور المدينة، وهنا أمر نابليون جنده بالهجوم ودخول المدينة من هذه الأماكن. وأسفر الهجوم عن تراجع المهاجمين بعد أن تكبدوا خسائر فادحة، ومرت الأيام والأسابيع علي هذا المنوال. وبدأ اليأس يستولي علي الجانب الفرنسي، وأخيراً وبعد 64 يوما من الحصار الشديد والقتال الدامي قرر نابليون فك الحصار، ويعلن بانسحابه أنه هزم من قبل قائد عثماني هرم في السبعين من عمره وكانت هذه هي المعركة البرية الوحيدة التي خسرها نابليون حتى ذلك اليوم. أسباب حملة نابليون على بلاد الشام * قيام الدولة العثمانية بإعداد جيشين إحداهما برى عن طريق بلاد الشام و الاخر البحرى عن طريق ” رودس ” * لقد خرج نابليون لبلاد الشام لمفاجأة جيش الدولة العثمانية قبل ان يتم استعداده وبالتالى من السهل هزيمته * ليضمن انه اذا نهزم فى بلاد الشام من السهل الرجوع لمصر و الاحتماء بها * كما ان أمان الحملة فى مصر لن يستمر الا بالسيطرة على بلاد الشام , لذلك عزم نابليون على فتح بلاد الشام * أن يحرم الاسطول البريطانى فى البحر المتوسط من تموين سفنه * وسيلة للضغط على السلطان ” سليم الثالث ” لإجباره على نجاح المفاوضات مع حكومة الادارة * القضاء على المماليك ببلاد الشام قبل أن يستطيعوا الانضمام إلى الجيش العثمانى الزاحف على مصر بقيادة ” يوسف ضيا باشا ” * أراد ان يرفع روح جنوده المعنوية بعد هزيمة ابى قير البحرية * الوقوف أمام التحالف العثمانى البريطانى لغزو مصر إعدادات حملة نابليون على بلاد الشام
خرج نابليون من القاهرة فى فبراير 17999م على رأس حملة مكونة من نحو 13 ألف جندى متجهة الى الشام فأتجه الى العريش واسترد قلعة العريش التى كان احمد باشا الجزار د أحتلها فى 2 يناير 1799 م وتمكن من هزيمة الجيش العثمانى ثم دخل غزة و أحتل فى طريقه خان يونس ومنها الى الرملة فى 25 رمضان حتى وصل إلى يافا فى 7 مارس 1799م واستطاع ان يستولى على يافا وارتكب نابليون فى يافا ابشع الجرائم فى حق اهلها. مذبحة يافا
لقد قاومت يافا فى بداية الامر فحاصرها نابليون ودخلها عنوة فى أول يوم شوال ولقد استسلمت عندما يأست من نجدتها وأثروا التسليم و ألقاء السلاح بشروط أتفقوا عليها مع اثنين من ياروان ” نابليون وهما ” بوهارنيه – كروازييه ” ومن هذه الشروط 1. ان تضمن لهم ارواحهم بعد التسليم 2. تعهد الباروان باسم القائد العام بأنهم سيعاملون معاملة الاسرى حرب فأعطاهم نابليون الامان خديعة منه لحاميتها وعقب دخوله أمر بقتل حاميتها التى كانت تبلغ الاربعة ألاف ويرجع ذلك كما برره نابليون كالاتى . 1- عجزه عن إطعامهم و حراستهم فى بلاد نائية لم يستتب له فيها الامر. 2- خوفه من انضمامهم لقوات عكا. لذلك سيق أولئك الاسرى الى البحر وتم اعدامهم رميا بالرصاص وانعكس الامر سلبا على حامية عكا التى استبسلت لمعرفتها بمصيرها اذا سلمت وعقب قتلهم انتشر بالمدينة مرض الطاعون من كثرة عدد الجثث
حصار عكا ” مفتاح بلاد الشام "
بعد احتلال مدينة يافا, تابع نابليون وجيشه تقدمهم شمالاً, عبر طريق الساحل الفلسطيني والهدف احتلال مدينة عكا وإخضاع واليها”,أحمد باشا الجزار" حاكم عكا آنذاك. خلال تقدم الجيش الفرنسي شمالاً واجهته صعوبات جمّة كالأمراض والتعب وقلة المؤن والعتاد, وحتى خسارة عسكرية بالقرب من نابلس وفقط بفضل قوة الدعم الفرنسية التي وصلت من مصر لمساندة نابليون بقيادة ” كليبر " استطاع الجيش الفرنسي مواصلة الطريق واحتلال مدينة حيفا في 17/3/1799, وقوة الدعم العسكري بقيادة كليبر هي التي استطاعت في الواقع احتلال وإخضاع مدينة حيفا حيث أن هذه القوة التي وصلت عن طريق البحر, سبقت نابليون وقوته بالوصول لمشارف حيفا. وقوات ” كليبر” لم تلقَ في الواقع مقاومة تذكر من قِبل سكان المدينة بعد أن نزح عنها الجزار وجلب مدافع وحامية المدينة إلىعكا. وسكان حيفا اكتفوا بايفاد أحد سكان المدينة وكان من أصل أوروبي الذي انتظر قدوم الفرنسيين خارج بوابات ومداخل المدينة, وقامَ بتسليم الجنرال كليبر مفاتيح المدينة. وبعد ذلك التاريخ 17/3/1799, انضم نابليون وقوته إلى قوات كليبر لتتشكل قوة مشتركة للجيش الفرنسي بقيادة نابليون وكليبر , متوجهين نحو هدفهم التالي والصعب وهو احتلال مدينة عكا وإخضاع الجزار, وقد بلغ عدد الجنود الفرنسيين نحو 12 ألف جندي. في 19 آذار سنة 17999, وصل الجيش الفرنسي لمشارف مدينة عكا وفرض الحصار حول المدينة وباشرَ بضربها بالمدفعية. فقط من الجهة الغربية, من البحر والميناء, بقي مفتوحاً وتمركزت في الميناء قوة بحرية انجليزية لمساندة الجزار. أثناء حصار نابليون لمدينة عكا تركزت قيادة الجيش الفرنسي , على هضبة إلى الشرق من مدينة عكا تدعى بتل الفخار (عرفت فيما بعد بتل نابليون) . اهتم أحمد باشا الجزار (1775-18044), بتحصين مدينة عكا وبناء أسوار ضخمة حولها في وقت سابق, كان له الفضل الأكبر في صد وردع القوات الفرنسية عن مدينة عكا. بالإضافة للأسوار اهتم الجزار ببناء مرابض للمدفعية وتشييد خندق حول الأسوار بعمق ثمانية أمتار. وتذكر المصادر التاريخية أن عدد المدافع على أسوار عكا بلغ ما يقارب 250 مدفعاً, أثناء الحصار الفرنسي, هذا بالإضافة لاهتمام الجزار بجمع كميات كبيرة من الغذاء والقمح والأرز والمؤن وتوفير كميات كافية من المياه في الفترة التي سبقت وصول الجيش الفرنسي إلى مدينة عكا, وذلك استعداداً لوقت الحصار. في 23 آذار 17999 بدأت المعركة على عكا حيث طوّق نابليون المدينة وضرب حصاراً حولها من كافة الجهات البرية مستعملاً أثناء ذلك القصف المدفعي المكثف, خاصة من ناحية الجهة الشرقية والشمالية-الشرقية للمدينة, لكن نابليون وجنوه فشلوا في اختراق أسوار عكا المنيعة وبطولة أحمد الجزار المستميتة بالدفاع عن عكا وصد العدوان كان له الأثر المعنوي الكبير على حامية وسكان المدينة بالتصدي للقوات الفرنسية. وعندما لم تنجح محاولات نابليون باختراق أسوار عكا أصدر أوامره لجيشه بالاستمرار بحصار عكا والحيلولة دون وصول مساعدة خارجية للجزار. وخلال حصار عكا نجح جنود نابليون بالاشتباك وإلحاق هزيمة بقوات الجيش العثماني القادمة من دمشق بمعركة قرب طبريا, وكانت تلك القوات قادمة لمساعدة ومناصرة الجزار. وفي هذه الفترة القصيرة تمكنت القوات الفرنسية من احتلال طبريا والناصرة وصفد, وخلال فترة حصار عكا التي استغرقت أكثر من 60 يوماً, استطاع الفرنسيون من السيطرة وبسط نفوذهم على منطقة الجليل الغربي والتي امتدت من [حيفا] جنوباً وحتى مدينة صور شمالاً, ومن البحر حتى شفاعمرو شرقاً. وبعد معركة جبل تابور في 16/4/1799, امتدت منطقة نفوذ الجيش الفرنسي لتشمل بقية مناطق الجليل ومرج ابن عامر. ميناء الطنطورة كان الميناء الوحيد على الساحل الفلسطيني الشمالي الذي خضع لاحتلال الفرنسيين والذي خدم الجنود الفرنسيين لمغادرة سفنهم ليافا ولاستقبال العتاد والمؤن والمحافظة على اتصالهم بيافا وغزة. ميناء حيفا كان مغلقاً أمام الفرنسيين نتيجة الحصار الذي فرضه الأسطول الانجليزي حوله, وميناء عكا كان تحت سيطرة قوات الجزار والأسطول الانجليزي بقيادة الجنرال ” سيدني سميث ", الذي ساعد الجزار بتصديه بنابليون وبالدفاع عن عكا. خلال حصار نابليون لعكا, استعمل واستغل دير الرهبان الكرمليين على جبل الكرمل كمستشفى لمداواة ومعالجة الجرحى والمرضى الفرنسيين, في حين تمت معالجة المرضى والجرحى من الجنود الفرنسيين المحاصرين لعكا في شفا عمرو, حيثُ تم تحويل قلعة سرايا ظاهر العمر إلى مستشفى عسكري لخدمة الجنود الفرنسيين. بعد حصار دام 62 يوماً حول عكا, من 18/3 – 21/5/1799, وبعدما فشل نابليون وجيشه ومدافعه باختراق أسوار المدينة المنيعة والدفاع البطولي لأحمد باشا الجزار عن عكا بمساعدة الأسطول الانجليزي, وبعدما رفض الأمير بشير الشهابي الثاني (لبنان) في الانضمام لنابليون والتحالف مع الفرنسيين ضد الجزار والعثمانيين, وبعدما باءت بالفشل محاولات وخطط الجنرال " لويس كافرلي "المهندس الرئيسي لجيش نابليون المحاصر لعكا, لاختراق أسوار المدينة ولتفشي الأمراض خاصة الطاعون في صفوف الجنود الفرنسيين وقلة العتاد والمؤن والخسائر البشرية والمادية الفادحة التي تكبدها الجيش الفرنسي خلال فترة حصاره لعكا, قرر نابليون في 20 أيار سنة 1799 فك الحصار عن عكا وأمر جنوده برمي ما بقي معهم من قذائف على المدينة وأبنيتها, لا سيما قصر الجزار والمنطقة المحيطة به, مما ألحق دماراً كبيراً في أبنية المدينة, وبعد أن فك الجنود الفرنسيون مقر قيادتهم ومعسكرهم من تل الفخار عادوا أدراجهم لمصر, حتى دون أن يشعر بذلك المدافعون عن عكا, وبعد أن ألقى الجنود الفرنسيين بمدافعهم الثقيلة وعتادهم وأسلحتهم للبحر تاركين عكا وعلامات الفشل والإرهاق والخسارة تلاحقهم. ومهما يكن من أمر فيمكننا استنتاج عجز وفشل نابليون بونابرت باحتلال عكا لسببين رئيسيين, الأول: أسوار المدينة المنيعة وتحصيناتها, والثاني: مساعدة الأسطول الانجليزي بالعتاد والأسلحة للجزار, كان لذلك أكبر الأثر في دعم ورفع معنويات الجزار بتصديه للقوات الغازية. وبفشل نابليون بكسر شوكة الجزار واختراق أسوار عكا, تلاشت وتحطمت أحلامه باحتلال اسطنبول والقضاء على الإمبراطورية العثمانية ولتبقى مقولته المشهورة مدوّنة على صفحات التاريخ: “لقد أنستني عكا عظمتي, لو سقطت عكا لغيرت وجه العالم, فقد كان حظ الشرق محصوراً في هذه المدينة الصغيرة”. “” لو لم اقف أمام عكا لأستوليت على الشرق بكامله “” كم انتي عظيمة يا عكا هزمتي الجيش الذي لا يقهر في عهد نابليون وما زالت عكا حتى اليوم شوكة في حلق الغزاة .....