هنــــاك... - صفية قام
-----------------------
... ذات يوم خريفيّ بارد، قادتني خطواتي إلى هناك ! قالت لي سميّتي: "ويحكِ، أترغبين عن " التور إيفال" و" نتر دام " ومتحف " اللّوفر " و"لارك دي تري يونف " و... وتأتين بي إلى هنا؟ ! أيّ حمق حلّ بكِ؟ !" ضجّت بداخلي قهقهات أفزعتْها فازورّتْ عنّي لائمةً غاضبةً ثمّ لم تلبث أمام إصراري أن سارت معي مكرهة ولسان حالها يردّد: " أيّ فأل، هذا الصّباح ! اللّهمّ ارحمنا وجنّبنا الجنون ! " ما عدتُ أسمع لي نبسة ولا لنفسي ضجيجها وأنا أمشي الهوينا بين مسارب الأجداث وأتملّى القبور الرخاميّة المكلّلة بمختلف الأزهار والنّقوش. احتواني المشهد الّذي بدا لي سرياليّا ممتعا حدّ التيه والدّهشة. صرتُ كمن يمشي بين أرض وسماء، بل كنتُ بين أرض وسماء ! ألم تقل جدّتي إنّ الجسد يظلّ تحت التّراب وإنّ الرّوح تصعد إلى السّماء؟ ! لقد كانت ـ رحمها الله ـ تشير بسبّابتها إلى أبعد مدى فوقنا مؤكّدة أنّ الله هناك وأنّ كلّ الأرواح تأتيه صاغرة مسترحمة. وكنّا، نحن الصّغار نسألها بإلحاح: " كيف يكون هناك ولا يتدحرج ولا يسقط من عليائه وكيف لهذه الأرواح أن تظلّ هناك؟ ! "وكانت تُخفي عنّا تلعثمها وتنهرنا مستعينة بمحرقة الربّ في السماوات العلا... وكنتُ آنذاك وإخوتي الصّغار لا ينقطع عنّا السّؤال إلّا إذا قايضت صمتنا ببعض الخرافات والأحجيات التّي نسافر معها وبها حتّى يأخذنا النّعاسُ... كانت القبور تحيط بي من الجهات الخمس وكانت رائحة الموت تأتيني معطّرة أنيقة فأتوغّل بروحي في عالم من السِّحْر لا عهد لي به ! كنتُ أخاف المقابر وأخشى أهلها وأستحضر كلّ الأرواح الشرّيرة الّتي حدّثت بها جدّتي؛ فما لي الآن أنعم بسكينة القبور وبطمأنينة لا مثيل لها؟ ! أنا الآن في مفترق المعنى وفي جوهر الكينونة. أنا بنبضي ووعيي التّامّ أرى الموت المعطّر يغشاني من كلّ الجهات وأبصر الزّهورَ تُصارع الذّبولَ وتأبى الفناء لأنّها ما وُضعَتْ إلّا لتقهر الموت ولتؤنس الأموات. إنّي أسمع حفيفها يهمس لهم: " ناموا مطمئنّين، فما زالت ذكراكم بالصّدور وما زالت فعالكم عبر الدّهور؛ ناموا، ناموا..." تراءى لي القبر منيرا وتراءى لي الموتُ سلطانا عادلا لطيفا لا يميّز بين غنيّ وفقير أو بين صبيّ وشيخ. وتراءت لي نفسي ممدّدة داخل سكني الأخير، فلم تنتبني قشعريرة ولا خوف ولا رهبة ! كنتُ أُصغي إلى هسيس الأشجار وحفيف الأوراق وشدو بعض العصافير ! خدر هذه السنفونيّة العجيب يسري في دمي حتّى خلتني قد صرتُ من أهل هذا المكان الآهل على أبعد من امتداد البصر... فجأة انتفضتُ كمن أفاق غرّةَ من سبات عميق ووجدتُ نفسي تبكيني بلوعة الثكلى، ثمّ صرختْ في وجهي: " لِمَ تستعجلين الرّحيل؟ ! أنا أحبّ الحياة... أنا أعشق الحياة... فلمَ أتيت بي إلى عالم الأموات؟ ! لمَ هذا الجنون؟ ! " رأيتُها تركض... تركض... تركض... رأيتها فرسا جامحا بلا كابح... استوقفتُها... توسّلتُ إليها أن انتظريني حتّى... حتّى ماذا؟ ! ماذا عليّ أن افعل؟؟؟ نسيتُ ! أنا الآن في منزلة استثنائيّة: أنا حيّة مائتة، والموتُ ما عاد يُخيفني ! أدركتُ اليوم أنّه امتداد للحياة وأن لا معنى للحياة بدونه، فهو الجوهر وهي العرض، فهل يقايض عاقل الجوهر بالعرض؟ ! نسيتُ حياة غارقة في الموت وغرقتُ في موت يتشبّث بالحياة ! لساني فقط ظلّ يلهج بدعاء لا أدري كيف صغته ولا متى تعلّمتُه كان الصوت غير صوتي ! هل هو صوتُ سميّتي أم صوتُ روحي التّي صعدت إلى السّماء، حيث تُشير جدّتي!؟ !غمرتني فرحة لذيذة: " سألتحق بجدّتي الحبيبة، وستموت ثانية فرحا بمقدمي ! " !حينها تذكّرتُ أنّني الآن بباريس وأنّ أحفادي في انتظاري لمرافقتهم إلى ملعب التينيس
--------------------------
مساكن، في 5 ديسمبر 2016