انْطِفـَــــاءٌ بقلم: المنجي حسين بنخليفة – تونس - هي هكذا بلاد الغرب تنسينا ملامحنا، إذا طال المكوث بها تنسينا عادات كنا نسلكها، وأفكارا كنّا نحملها، وأصحابا لهم في تجاويف القلب مكان ليس ينزعه سواهم، يصيرون بعد مرور العمر أسماء نردّدها، إذا طالت سنين العمر ننسى الغربة فيها، فتعجبنا نسائمها، تغرينا شوارعها إذا مرّت الخطى فيها، ترى الناس يمرّون بلا خوف، ولا الأحزان تَلْبَسَهم من الفقر، وشرطي إذا أوقفك حيّاك وسيّدك، فلا كرباج يحمله، ولا ألفاظ يرميها سهامًا تشقّ القلب ، والروح. ظننت الروح قد نسيت حنين الحي، والدار، هزّني شوق يجرفني إلى ذكرى مازالت لها في القلب آثار، تذكّرت طفولتي، شقاوتي، وكيف ألهو مع الأصحاب بلا كلل، إذا أمي نادتني خوفا من لهيب الشمس، أركض أختبئ منها، وحلوى العيد أسرقها، وآكلها بعيدا عن عيون اخوتي الصغار، وأترابي إذا ما لعبنا لعبة "الغُمَيْضة" أخاصمهم لأنهم غشّوا في اللعب، ولكن في الغد نلهوا وننسى كل ما كان. رجعت وقلبي يسبقني بأميال، لكنّ شيئا في الروح يخدش جمال الصورة فيّ، ينقص من حنيني كلّما ازددتُ قربا من مراتع الطفولة، والشباب. بحثت في داخلي عن سرّ اضطرابي، لعلّه ذلك الشرطيّ حين رآني مبتسما رمقني بنظرة تتطاير شررا، كأنّه يحمل ثأرا، شعرتُ بالخوف، لعلّ صورتي تشبه صورة ارهابيّ مطلوب لديهم. شعرت بالاشمئزاز من عون الجمارك حين طلب رشوةً كي أمرّ. شعرتُ بالضّيق من سائق "التاكسي" حين طلب منّي ضعف العدّاد، أو أكثر، شعرتُ بالصداع من مذياع سيّارته، ومن الأغاني الهابطة التي تثير الغثيان... قرأتُ الفاتحة على قبر والدي، لم تدمع العين، فنار الحنين لم يبق منها إلاّ بعض الجمرات. وصاحبي حين احتضنته قال لي: ـ أراك تأثرتَ بحياة الكفّار، إنّهم العدو فاحذرهم. ـ هل نحن في حرب معهم؟ ـ نعم، هي حرب الكفر مع الإيمان. اعتذرتُ منه، فررت قبل أن يكفّرني. رأيت مَن خَطَوْتُ في هواها أوّل الخطوات، ضاع أريج صباها بصغار نسيتْ نفسها معهم، تصدّعتْ في الذاكرة صورة كانت تفرحني، وتنشيني. آه مابال ناري أصابها وابلٌ فانطفأتْ؟ وصورتي طول سنين الغربة أرسمها، مرّة أضفي لها لونا، ومرّة عطرا، وأصواتا، وألحانا. تآكلتْ أجزاؤها، اللون والأصوات والرائحة كلّما ازددت قربا لبلادي، تزداد في القرب تلاشيًا. ما بقائي في بلاد أطفأتْ نار حنيني، وأشواقي، مزّقتْ لوحتي، وكسّرتْ فرشاتي؟ دمعتْ عيني، وأيقنتُ أنّه لم يبق لي في هذه الأرض إلاّ صديقان: حقيبتي، وجوازي. 2016-09-18