انْتِخَـــــــــــــالٌ بقلم: المنجي حسين بنخليفة – تونس - حاولت ابعاد رجله عن وجهي، ولكن أين سأبعدها؟ لا مكان لها إلاّ هنا، تذكّرتُ رجلي المرميّة فوق بطن أحدهم، أراه قد تعب من ثقلها، يحاول رفعها، ثمّ يعيدها إليه، فلا مكان شاغر هنا، تكدّست الأبدان، تكوّمتْ، أتنفّس حرارة أنفاس غيري، الوجوه تلاصقت مع الوجوه، والمؤخرات تصادمتْ مع المؤخرات، وبالكاد تستطيع تغيير جنبك الذي تسرّب إليه التخدّر من شدّة التعب، الغازات البشرية التي تشكّلتْ روائحها، من رائحة عطنة يمكن احتمالها، إلى روائح تثير الغثيان، والاختناق، كلٌّ حسب ما حوى في جوفه، ولولا هذه النسمات التي تزيل الروائح، ما كنت أعرف كيف سننهي الرحلة. الليل دامس، والإضاءة خفيفة، وإن وقف أحدنا يتبوّل على الحافة فهي كفيلة بستره، وإن لم تستره فلا مهرب من هذا الفعل البشري، اتّسع المكان حولنا، وضاق المكان الذي احتوانا، آه لو كان أوسع قليلا، لكنت مددت رجلي من بعد طول الانكماش، ثم قلت في نفسي : لو كان أوسع لضيّقوه بالحشود المنتظرة دورها في الركوب، كما طال انتظاري. تذكّرتُ قول أمي وهي تحاول أن تثنيني عن رحلتي هذه: ـ يا بني اصبر، سيأتيك الفرج وأنت في هذه البلاد، أخاف عليك من هذه الرحلة. ـ يا أمي أخاف أن يأتي هذا الفرج وقد هرمتُ، فما قيمة الفرج إذا أتى وقد تساقطت أوراق العمر؟ يا أمي أنا لا أبحث عن الفرج في هذه البلاد، أنا أبحث عن نفسي، ضاعت مني مذ وعيت، كل أحلامي صرخت في وجهي: أغبيّ أنت، تقف في أرض بور وتنتظر موسم الحصاد؟ صرخ فينا من اعتلى المكان: إن طلبتم النجاة فلا تكثروا الحراك، البحر مضطرب، واللوح لا يحتمل. سألت من رماه الحشر فالتصق بي: ـ ماذا يقصد باللوح؟ ابتسم ابتسامة خفيفة، وقال لي: ـ أنت من بلد ليس فيها بحر؟ ـ فعلا أنا من الجنوب الغربي، علاقتنا بالبحر كعلاقتي بك، ننتصق به ولا نعرفه. ـ يقصد باللوح القارب الذي نمتطيه، ولو امتطانا ستنعم بصحبة أجدادك إلى الأبد. ـ صحبتهم خير من البقاء في هذه البلد. صار الموج يرتفع، كلّ موجة أقوى من أختها، صار الرذاذ يتطاير، ابتلت رؤوسنا، وملابسنا، صار البلل يتسرب إلى ملابسنا الداخلية، صار الواحد منا يحاول أن يحتمي بمن لاصقه، تذكرت شويهاتنا حين تبلّلهم المطر كيف يحتمون ببعضهم، في لحظة الفزع، أو الخوف من الموت يتساوى الانسان بالحيوان، هناك شيء يحركنا بلا إرادة، يدفعنا لفعل موحد إذا تشابهت الظروف، كتكدسنا في هذا القارب، توحد فعلنا حين توحدت كلّ الظروف السيئة التي دفعتنا لحافة الموت، وفي حافته تقلّ الخيارات، أمّا حياة ستصنعها هناك، هربا من حياة تلحفت بالسواد، تصنعك كما تريد، و أمّا ممات ينسيك كلّ فصول مسرحيتك الحزينة. صار القارب يمتلئ بالماء، طفت أدباشنا القليلة ، تسرّب منها السويق، ففقدنا أمل الزاد القليل، صرخ فينا من اعتلى المكان: ـ اخرجوا الماء من القارب وإلاّ غرقنا جميعا. انطلقنا جميعا نخرجه بما توفّر بين أيدينا، بحماس، ونشاط لم أعهده من قبل في عمل جماعي، فكأنّ من طبعنا ألاّ نعمل بجد إلاّ إذا اقترب حبل الهلاك من رقابنا، فلو كان من طبعنا هذا الحماس، لفاضت مطاميرنا بالحياة. كثر الصراخ، والهرج والمرج، فالمركب صار يسمعنا صوت أنين ألواحه ، كلّما لطمته موجة ارتعش، وارتخت مؤخرته حتى كادت تغرق. تسرّب في داخلي شيء غريب، كأنه الخوف، بل هو الفزع، أو الرعب، قلت في نفسي: إذا قذفني المركب من على ظهره كيف سأواجه هذه الأمواج العاتية، وأنا ما خبرت السباحة أبدا، بلا شك سأغدو لقمة سائغة لتلك الأسماك المطلة علينا من أول رحلتنا، كأنّها تنبأت بخاتمتنا، لِمَا مرّ عليها من "الحارقين" غدوْا وجبة في بطونها. أطلت علينا جزيرة "لامبيدوزا" بأضوائها، وصخورها، وكان مركبنا وفيّا بإيصالنا ولو على حساب تحطمه وتناثر ألواحه، تسلقنا الصخور بعد عناء، ارتمينا عليها بعد مشقة. تذكرت قول أمي: ـ يا بني اصبر، سيأتيك الفرج وأنت في هذه البلاد، أخاف عليك من هذه الرحلة. وكأنّ شيئًا في داخلي يقول: ـ والله يا أمي أكون وجبة في بطون الأسماك، خير من أن أنتظر فرج يأتي من فضلات حيتان بلادي التي لا تشبع. 13-09-2016