top of page
صورة الكاتبAdmin

قراءة في ديوان " قبس من مرايا الحنين" للشاعر التونسي خليل الشامي - بقلم الاستاذة فاطمة سعد


يسعدني ويشرفني أن أقدم نقد وتقديم الأستاذة الأديبة الفاضلة فاطمة سعد الله التي شرفتني بالتقديم لديواني " قبس من مرايا الحنين"

أنرككم مع ما كتبته الأستاذة القديرة.

"قبس مرايا الحنين" للشاعر خليل الشامي

مقدمة وتحليل

بقلم : فاطمة سعدالله

1 ـــ تمهيد : نظري

الشعر عملية إبداعية تعدّدت فيها الرؤى واختلفت .

كان ومازال تربة يخصّبها الحب بل هو الوجه الآخر له وما الإنسان إلا نتاجهما الشعر/الحب ..تكلّم شعرا قبل أن يكتبه وزنا وقافية وتنفّّسته الروح أنغاما قبل أن ترقص على إيقاعاته وتفعيلاته .هو إذًا يعيش في تفاصيل الحياة كلّها .

كان ومازال معاناة لا تقلّ وجعا عن عمليّة الولادة بمفارقتها – الألم/الفرح وتصديقا لذلك قال نزار قباني :"أعرق ..أغرق ..أتمزّق وتخرج القصيدة من جسدي كما يخرج السّهم الناري وكما تخرج الرّصاصة من ماسورة المسدّس ".كما أن أبا القاسم الشّابّي أكد ذلك عندما شبّه حالة الإبداع بتجربة المخاض فالولادة.

لذلك يمكن القول بأن الشعر هو ولادة الحياة بما يصاحبها من وجع وألم وما يتلوها من فرحة بالخلق والإبداع .

والشعر لصيق بالوجدان والوجود فهو عصارة قلب ونبضات حياة و دفْقات دافئة تعشّب الأوردة فيورق الحرف داخلها طرابين ياسمين ونعناع يسافر عطره عبر الذات وما حولها من كائنات .وهولمْسة رقيقة ترسمها ريشة ساحرة تتغذى من الوجدان وتتوق إلى تصوير الجمال في أرقى درجاته وتبليغه إلى المتلقّي بكل أمانة نابضا بالحياة كي يحدث لديه حالة من التجلّي والانفعال ..إنه "هزّة " الحياة الجميلة تقذف من صدر واحد/الباثّ لترجّ صدورا متعدّدة /المتلقّين.

والمتتبّع لمسيرة الشعر العربي يجدْه قد مرّ بمراحل متعدّدة سأكتفي بالإشارة إلى بعضها وأبدأ بالقصيدة العمودية العصماء – القصيدة النموذج-التي تلتزم ببنية محددة رسمها امرؤ القيْس منذ العهد الجاهلي وضبط ملامحها ابن قتيْبة في كتابه "الشعر والشعراء" عندما قال ما يلي "إنّ مقصّد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فشكا وبكى وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها ...ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الشوق وألم الوجد والفراق وفرط الصبابة ليميل نحوه القلوب ...فإذا علم أنه استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقّب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره وشكا النّصب والسّهر وسُرى الليل ...فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حقّ الرّجاء ..بدأ بالمديح ...فالشاعر المُجيد هو من سلك هذه الأساليب وعدل بين الأقسام ولم يطل ولم يملّ السامعين ولم يقطع وبالنّفوس ظمأ إلى المزيد ..."

ابن قتيبة {213/276 هجري}

تحقيق مصطفى السقا:مصر/ المكتبة التجارية الكبرى ط 1932 ص 14-15

إنها القصيدة الملتزمة بوحدة الموضوع والبحر والقافية والبيت وبنية محددة صارت من القوالب الموسيقية والتعبيرية الكلاسيكية المقدّسة .

لكننا نجد في المشهد الثقافي الحديث زخما من التجارب الشعرية المتنوعة والمتعدّدة تتزيّن برداء "الحداثة " وهو توجّه خاص في الأداء الشعري تبنّته مجموعة من الشعراء رأت أن الشعر التقليدي قد أدّى دوره واستنفذ طاقته لذا وجب تأسيس نمط آخر يؤمن بالانعتاق والتحرّر من كل القيود كالبحور ونظام البيت :صدر/عجز وقافية إلى غير ذلك .وكسروا نظام الجملة العربية ووضعوا أبجدية لغوية جديدة تجعل هذا النمط من الشعر ثورة على القديم ورغبة في التحرّر .ولكن ما إن استقرّ المجدّدون على تبنّي نظام التفعيلة في الشعر الحرّ حتى أغرقوا في الرفض وأوغلوا في التجريب فجاؤوا بما يعرف الآن ب"قصيدة النثر"وهي جنس أدبي بُنِيَ على التقارب بين جنسين كانا يعتبران مختلفين في حين أنهما يأتيان في تجربة رائدة تتأسس على ما يميّز الشعر من خصائص وجماليات تتمثل في الصورة والتخييل والرمز والرؤى المكثفة وتوهج اللفظ وشفافيته من ناحية وخصائص النثر الجمالية المتمثلة في التحرر من الوزن والانسيابية والتحرر اللفظي والتركيبي .مما أفسح المجال لشعراء قصيدة النثر أن يصيبوا من النثر ما أرادوا ومن الشعر ما شاؤوا دون إفراط ولاتفريط .

والمتأمل في هذا المشهد الشعري الجديد يمكنه تبويبه إلى اتجاهين :

يعرف أحدهما بشعر "الرؤيا" التي تتحد مع التجربة الذاتية وهي رغم ذاتيتها تتسع لتشمل البُعد الإنساني وممن يمثلونها الشاعر السوري الملقب ب "أدونيس" أما الاتجاه الثاني فهو الذي يربط بين القصيدة كنصّ وما يحيط بها من مرجعيات وتيارات فكرية فاعلة في المشهد الثقافي وتعرف خاصة بـــِ"القصيدة الملتزمة" وممن اعتنقوا هذا التيار نذكر الشاعر القدير عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وغيرهما . ويسعى شعراء الحداثة عموما إلى تحميل الشاعر مسؤولية اتخاذ القرار لا أنْ يكون بوق دعاية لأصحاب القرار .

على هذا الأساس أين يمكن لنا أن نضع تجربة خليل الشامي الشعرية من المشهد الثقافي العام ومن الحراك الشعري التونسي أساسا ؟

القسم التطبيقي2

أ- من هو خليل الشامي ؟

لقائل أن يقول من هو خليل الشامي ؟هل هو شاعر مبتدئ أم صاحب تاريخ أدبي في الحراك الثقافي التونسي ؟

الأستاذ خليل الشامي هو ابن الجنوب التونسي ..ابن واحات النخيل التي ظللته بفيئها وأرضعته شموخها ..ليس طارئا على الساحة الأدبية وإنما هو ربيب الشعر منذ سن الثانية عشرة من عمره ..بدأ ككل مبتدئ صغير " بمحاولات بسيطة حتى درستُ العروض في المعهد فبدأتُ أنظم العمودي " وهذا ما ورد على لسانه ..كان منذ صغره نشيطا فشارك في برامج أدبية منها برنامج الهواة بالإذاعة الوطنية بإشراف علمين سامقين من أعلام الأدب في تونس وهما أحمد اللغماني رحمه الله وهو شاعر ومتفقد التعليم بوزارة التربية وكذلك المرحوم المختار حشيشة وهو شاعر ومسرحي وإعلامي .

وحريّ بموهبة احتضنها مثل هذيْن العملاقيْن أن ترتوي من المورد الأصيل .بل منذ سنة 1965 كان له شرف المشاركة –كأصغر موهبة- في الملتقى الأول لهواة الأدب الذي نظمته الإذاعة الوطنية بمدينة بنزرت ..انقطع شاعرنا عن الكتابة فترة طويلة لأسباب شخصية ولم يتصالح مع القلم إلا بعد الثورة التونسية سنة 2011 فعاد واحة نخيل وارفة الظلال ممتدة الجذور تسّاقط القصائد من أعذاقها جنيّة بعدما اختمرت سنين في تربة الانتظار والتدبّر ...وهاهو ديوانه الأول "قبس من مرايا الحنين "يطل محملا بالمشاعر والأفكار والحكايا.

ب – العنوان

يتّفق أغلب النقاد في الدراسات التحليليّة على الوقوف على العنوان باعتباره البوّابة التي يتمّ من خلاله الولوج إلى العمل الإبداعي بمختلف أجناسه.إنه البوصلة التي توجّه القارئ إلى عمق المتن السرديّ أو الشعري المكثف ويفتح أمامه فضاءات التأويل والتحليل للتشبع من الدلالات والعلامات التي تسبق جسد النص كإشارات دالّة /مستفزّة .

"قبس من مرايا الحنين " مزاوجة بين عبارتيْن هما بمثابة أيقونة مشحونة حركة فكرية ونفسية ووجدانية. المرآة تعكس عادة الصورة في حاضرها في لحظة ممارستها الوجود المادي لكننا نجد أنفسنا هنا أمام مرايا تعكس الحنين ..المرآة تتجاوز الوجود الفيزيائي إلى الوجدان ..عنوان محفّز ..مستفز ..يحث على البحث عن تفاصيل التفاصيل والغوص في أدق ملامح الوجوه إلى أبعد خبايا الوجدان بل الوجود وأعمقها."قبس من مرايا الحنين"سيكون رحلة بين ثنايا النبض لاستبطان ما في الذاكرة من مخزون بكل تفاصيله وما في القلب من كدمات وما على الشفاه من بقايا بسمات .

ج – تحليل المتن

إن المتصفح لديوان "قبس من مرايا الحنين " للشاعر خليل الشامي سيقف على ميزة هامة تتمثل في وضوح رؤاه وتماسكها وثراء تجربته الوجدانية التي تزخر بالحياة سواء في إطار الذات الشاعرة أو بالحرف النابض بما ومن يحيط به .إنه يرسم تفاصيل حياته الشعورية الباطنية والعلنية ويتجاوزها إلى المدى الذي يتنفّس هواءه ومنه يغزل إبداعه وإلى الكائنات كلها ..تلك التي تشاركه الحياة وتضخه بالإحساس.

إن تجربة خليل الشامي الشعرية ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب إنها نبتة تتنفّس منذ عشرات السنين ولكنها –لأمرما- عادت إلى التربة لتنام لا لتموت لأنّ الحرف الأصيل يأبى الموت ولو بعد جيلٍ من الصمت .

وأول ما يلفت الانتباه استعمال الشاعر عبارة المرآة وهو ما يبرّر العنوان فهو ليس اعتباطيا ..انه ينساب شفافا بين القصائد بل يتكرر استعماله أحيانا في القصيد الواحد أكثر من مرة ..ففي قصيد أمام المرآة استخدمت العبارة أربع مرات باعتبار العنوان:

ورد على لسان أنثى فتقول :

ضحكت مرآتي مكرا

قالت هيا انطلقي

لا تتأخري

الحب في الانتظار

إن الشاعر يتوغل في خفايا النفس الإنسانية ..خفايا من ظن أن قطار الحب تجاوزه فيذكره بأن الحياة مستمرة والحب "في الانتظار" إيماءة أمل وترغيب في الحياة.

ولكن كأنما يردّ على الصوت الهامس في داخله متعجبا فيقول:

أغدا ألقاك؟

كلقاء الشمس بالقمر

كلقاء المشرق بالمغرب

كلقاء الجبل بالجبل

..وأنتِ السراب

كلما دنوتُ ..ابتعدتِ

كيف سيكون اللقاء ..

والحلم تسلّل من يدي

غاص في التراب؟

كأني به يرد على ذلك الحلم بلقاء الحب ذاك الذي ينتظر ..يذكر الذات بالمستحيل ..بل بالإحالة على الفناء وما التراب إلا رمز النهاية..الدفن والتلاشي ..

ولكن هذا لايعني أن لحظة مخاطبة الذات تأخذ الشاعر إلى اليأس أو تسكت خفقات قلبه ..فلنصغِ إليه يقول في :

ألامس الليل في ضفائرك

نحن أمام بوْح جميل وغزل فيه كثير من الإيجابية يرسم حالة انتشاء مجرّد ورغبة في إرساء مراكبه على مرفإ الجمال وشاطئ السحر "صلاة "يترجمها التهجد و"سحرا يشرق أيقونة حب أوْحد ..لوحة ملائكية ترسمها ريشة الطهر وابتهالات ترغب في التجدد والبعث من جديد .

وتتواصل الاعترافات بالحب الذي يتمسك به حبلا يربطه بالحياة في دفئها ونبضها ..وهذا قصيد بعنوان "أحبك بكل الجنون" التي ترسم صورة لحب شبابي ثائر مسيطر على الحبيب بل متلبّس به :

بكل جنوني

أحبك في بتلات الياسمين

في حبّات الزيتون

أحبك

أكتبها على أمواج البحر

انه حب انتشر في كل مكان وفي كل التفاتة حالة عنفوان وجنون {10 مرات تكررت عبارة حب في هذا القصيد }

ويغرق في رسم ملامح الحب فيرسم صورة أخرى له ومغايرة تماما تحيل على تجربة الرجل الشرقي الواثق من امتلاك قلب حبيبته ..تلك الكتومة الخجولة التي تحب بصمت ويستغل الفرصة ليمرر لنا فلسفته في الحب :فكل الكائنات في نظره تحب ..

الأخرس يحبّ

الأصمّ يحبّ

وكل الكائنات تحبّ

والحبّ واحد

لكن له ألف بيان

..أحبيني بصمت

فهذا النوع من الحبّ

أعظم درجات

..لا عليك

فأنا أحب صمتك

في حبك

وأحب حبك

في صمتك.

ولكن المرأة في نظر الشامي ليست لها صورة واحدة .إنها المرأة المتعددة، المتنوعة، الصامتة حينا الصاخبة حينا آخر هاهي مغرية مستفزة تتحداه بكل ثقة وتراوغه بزئبقية ..تدعوه إلى الاقتراب منها كي يبحث عنها ويكتشفها:

قالت :أنا الكوكب الساري

ألبسك أحلامي

وألهمك أشعاري

فادْنُ مني

علّك تلامس قراري ..

باختصار إنها المرأة "الملهمة" الموحية رغم تحديها وثقتها المبالغ فيها ..

منذ أن نام القلب/القصيد

..كيف سكنتِ ضلوعي ..

وخفق لك القلب من جديد؟

على حفيف شعرك

استفاق القصيد.

هاجس يتكرر دائما ..انه استغراب الشاعر المحب من تسلل الحب إلى حصونه رغم غلقها بإحكام ..حصّن قلبه فكيف تم الاختراق؟لعل الجواب الذي يتبادر إلينا هنا هو لأن قلب الشاعر لا ينسى النبض وأن الحرف يظل خافقا بسرعة الشباب لايعرف شيخوخة ..

ولعلنا نلاحظ أن الخطاب الشعري عند خليل الشامي فيه كثير من الحب ..كثير من الألم ..كثير من الصدق والوضوح لا يجنح كثيرا إلى الرمز .إن تجربته مغرقة في الذاتية فالإحساس الصادق يحرّر الكلمة المحبوسة بين الأضلع والرغبات المكبوتة داخل قوقعة "الزمن" أو المحظورات ..الكلمة سلم نصعد بواسطته إلى سماء الحرية نتنفسها ونوقظ ما كان نائما فينا من أحاسيس تستوعب الجمال وتهفو إليه.

كما لا يخفى عن أحد فإن الغزل كان ومازال من الأغراض الشعرية التي يستسيغها الوجدان :باثا/متلقّيا لذلك تفنّن الشعراء فيه لما حققوه من قدرة على ملامسة الوجدان وسهولة التأثير وضمان إطراب المتلقّي وتفاعله ..والشاعر خليل الشامي شأنه شأن غيره من الشعراء ارتوى منه وروى فأغدق على قصائده من رقة المشاعر وصدقها ولعلّ ثراء تجربته بحكاياه مع المرأة بأبعادها المختلفة قد ساهم في جمال التصوير وتوهّجه إذ جعل عالم المرأة في شعره أيقونة مشعّة مضيئة ..عالما مبعوثا بعد موت و حقلا خصيبا بعد جدب .لأن المرأة في تجربته الشعرية تبدو ثلاثية الأبعاد :فهي صورة مخزّنة في الذاكرة طورا فيستمد صورتها من ذاك الماضي بعيدا كان أو قريبا وهي تجربة حية حاضرة دافئة ترتع أمامه غزالا يغريه بالرّكض ويعده بالارتواء حبا يقطفه نديّا وهي كذلك صورة "هلامية" يستشرف من خلالها المستقبل /البعث مستقبلا منشودا ترومه كل نفس وتتكسّر أمامه الحواجز ويتخطى بواسطتها حدود المكان وقيود الزمان /مراحل العمر .

أما البحث عنها فقد كان متعدّد الفضاءات ..إنها امرأة استثنائية لها مع النجوم تربّع وفي الأعماق غوصٌ ..رحلة تطلبت منه العروج إلى السماء والغوص في البحار دون كلل أو يأس :

عرجتُ للسّماء

لعلّي ألقاك بين النجوم

..لكنكِ خلف آكام الضّباب

اختفيْتِ

..وسجّلتِ في دفاترك

موتي ..

..غصتُ في أعماق البحار

لعلّي أجدك في محارة

لكنّك اختفيْتِ

خلف خيوط المرجان..

ورغم هذه الرحلة الشاقّة ورغم الفشل في العثور على المرأة"النجمة" يتسلح بالإصرار والرجاء ولايفقد الأمل في العثور عليها:

لن أيأس من وصلك يا "زهرة نيسان"

كما أنه لا يتوقف عن مناجاتها فهي هاجس يسكنه ويسافر في دمه وجعا يتمنى اقتلاعها وانتزاعها كشوكة كانت تخزه "أشبعته وخزا..أنهكته" ولكنه متمسّك بها والحنين إليها يتنامى :

يا امرأة

طيفك يراودني

يتغلغل في عمقي

يسافر في دمي

..كيف أنتزعك مني؟؟

ويصرّ على أنها استثنائية يناجيها بكل صدق هي جميلة الجميلات وأكبر من كل الكلمات :

بين حنين القلب

وأنين الحرف

ترتعش ريشتي

على شفتي

لأكتب ..لك

قصيدتي ..

هي إذًا نبضات القلب وحرارة الدماء في أوردته وهي "الملهمة" منها ولها القصيدة .

غير أننا عندما نتابع تصفح ديوان "مرايا الحنين" نلاحظ أن الشاعر لم يقف حرفه على الغزل والمرأة بل وزّع اهتمامه على كل ما ومن حوله من كائنات وأحداث ومدن وغيرها

فهذه مدينة "مينا" المغربية ..جارة أم الربيع التي ألهمته وغمرته حنينا وعرفانا:

..يسافر بداخلي أمسي

ذكريات تتسوّر أعماقي

..تزمجر ..تعربد

..عاجز أنا عن لمّها

فراقكم جبل

يجثو على كل الكلام ..

هي "أميرة الوادي" تلك التي ينساب النهر تحت أقدامها غمرته دفئا وشوقا وحمل معه عند الفراق حنينا إليها بحجم الجبال ..

ولم يغفل أن يتدبّر أمر الوطن ويفكّر في الواقع والمصير ويتساءل "إلى أين الرحيل؟

السماء تحرقنا

البحر يغرقنا

والسفر إلى المجهول

يرافقنا

اختلط الملح بالملح

فاض الماء على الماء

وفي قلوبنا يكبر

جرح وطن ..

ما أصدقها صورة!رسم حالة الاختناق والحصار الجماعي في صورة طوفان يهدد الحياة في كل أشكالها ..صورة هلع من مستقبل وطن يهدد حاضره بالاجتياح ..

ولا يسعه أمام هذا الوضع المرعب ــ وضع كل الدول العربية/ الوطن الأكبر ـــ إلا الابتهال والاستنجاد :

يا نوحُ أدركنا بفلكك

إننا نغرق

يا يونسُ

أخبرنا عن بطن الحوت

هل فيه ترفّق ..؟

إلى أين نرحل ؟

ولا يتمالك نفسه فيثور على كل العملاء ..دون خوف أو تردد بل هاهو يصدح بنفس ساخر ثائر:

ردّدوا هذا الدعاء

..اجعل خالص أعمالنا

لسادتنا بني صهيون "الأبرياء"

..إننا كنا تحت حكم عصابة السفهاء ,,

لأن الزمن الذي يعيشه الشاعر يراه أغبر ..فوظف لرسمه الموروث الحضاري من خلال حكاية الجدة عن الغيلان والعنقاء وعن ابن السلطان والأميرة المسحورة ..لعله نوعا من التقية ..لكن الجدة لم تكن تتصوّر ما يحدث اليوم :

حكايات شيطان

من الإنس يقتل الأطفال ويسبي النساء

يذبح أخاه كما تذبح الخرفان ..

ويلتفت مرّة أخرى إلى الذين لم يتوقّفوا عن امتصاص دماء أبناء جلْدتهم وسرقة أوطانهم ..وبنفس السياسي المعارض يثور على ما كان يحدث قائلا:

ويسرقونك يا وطن

يسرقون ظلك الوارف

من مرايا الشمس

وعلى أبوابنا

رسموا

ثعلبا وغرابا

.. وبين المداخن

تلمّس جرعة هواء

سرقوها ذات مساء

من كفّ الشهداء.

كتب الشاعر للوطن ــ تونس ــ وللوطن العربي الأكبر فرسم أوجاعه كتب للبلد الشقيق المجاور/المغرب كتب لذاته وللمرأة ولم ينسَ والده ..ذاك الطود الشامخ فجثا بين يديْ ذكراه طفلا مشتاقا إلى حنانه ورؤياه :

بي شوق إلى رؤياك يا أبي

كما لوأني مازلت الصّبي ..

وأني الجزء منك وأنك الكل مني ..

مرّ الشاعر خليل الشامي بحالات متنوعة ..لحظات الصفاء والدفْ فرسمها حبا متوهّجا يستمدّ منه الفرح والقوّة :

لماذا ..حين تكونين معي سيدتي..

أشعر أني قويّ

وأن العالم ..كل العالم في يدي

وأن الأرضَ كلّ الأرض

زهرٌ نديّ؟؟

كما صور حالات الصراع بين الضعف والقوة والإصرار على التوازن ..فيناجي الجبل متكئا على ما يرمز إليه من ثبات وشموخ وصمود فيقول:

الكل يمرّ بك كما تمرّ بك السحب

وأنت الصامد لاترحل ..

وأنت أنت النجم الذي لايأفل

الخاتمة

وهكذا بعد هذه الرحلة بين سيمفونية الحروف التي عكستها "قبس من مرايا الحنين " يمكن لنا القولُ بأن قصائد خليل الشامي امتازت ببوح صادق ينزف ألما حينا ويرقص طربا حينا آخر وفي كلّ الأحوال يغرق الحروف بالمشاعر المتوهّجة المتوثّبة تأخذ بيد القارئ نحو العمق والتقصّي .

ومما يجب ألا يغيب عنا أن الشاعر خليل الشامي كان يحاول دائما أن يصنع المشهد من الأنقاض ومن الوجع فيدهش ويبهر ولعلّ تلك القيمة الطاغية على قصائده "الجدل بين الواقع وما فوق الواقع/ الخيال" هي التي لونت كونه الشعري بالرغبة في الحياة بل الانبعاث بعد الموت ..والوسيلة الوحيدة إلى ذلك هي الحبّ الذي يحرره من إرهاصات الواقع المكبلة للفعل الوجداني وبين أيْقونات المنشود الذي صاغه في صورة "المرأة / العنقاء تبعثه من جديد .ففي أغلب قصائده إن لم أقل كلها هناك حبيبة بين السطور حضورها "مشتهى" به تنبثق الحياة وغيابها حكم بالفناء..

وأخيرا لن أدّعي أنني وقفتُ على كل التفاصيل وإنما هي محاولة تمت من خلالها مداعبة الحروف واستنطاقها فجادت بالقليل واحتفظت بالكثير منتظرة ما سيبذله القراء والنقاد من مجهودات لاستخراج ما ضمه المحار من درر .

تونس في 26 04 2016


٤٤ مشاهدة٠ تعليق
bottom of page