الفنان والفيلسوف - ناجح صالح
- Admin
- 28 أغسطس 2016
- 3 دقائق قراءة

- الفنان والفيلسوف –
قال الفنان لصاحبه الفيلسوف متسائلا وهما يسيران جنبا الى جنب في أرض فضاء واسعة رحبة: - ماذا ترى في الطبيعة ؟ فقال الفيلسوف مبتسما : - الطبيعة هي الموطن الأول للحقيقة , نقية طاهرة . منها مولد الانسان وبدايته , أما ما عداها فمصطنع وملوث . فرد الفنان مستغربا : - ولكننا اعتدنا على حياة المدن اذ لا يمكن الاستغناء عن خدماتها وما توفره لنا من ضروريات . - لا .. لا أتفق معك , ان ترف المدن فساد للعقل , والارادة وحدها قادرة وحدها على تحدي المغريات , ومع ذلك فما يغريني نحو الطبيعة أسباب وأسباب منها صفاء النفس ونقائها بلا خداع ورياء ناهيك عن اللغة الجميلة في مناظرها الساحرة .. انها طمأنينة فحسب . - أنا معك من الناحية الجمالية , أرى في الطبيعة أيضا الاحساس الدافيء الذي يغذي القلب والروح معا , ان بضع ساعات أقضيها ها هنا تلهمني الكثير من المشاريع الفنية التي أريد انجازها , اضافة الى السكينة التي تردني الى دنيا الأحلام , فاذا ما نظرت الى السماء أحسست أنها قريبة مني تحادثني , وكذا الحال للطير والشجر وخضرة الأرض , تحف فنية لا تنتهي ولا تشبع النفس منها . - حسنا , نحن اذن نسير بخطى واحدة ومشاعر واحدة , ومع ذلك فأنا أرى أن العقل يعود الى رشده وسط هذا الجو الممتع بعيدا عن القيود وما يترتب عليها من مخاوف , وأرى أيضا أن الطبيعة ليست عزلة نهائية , ولكنها محطة استراحة لأبداننا وعقولنا , اذ لا غنى لنا أيضا عن الآخرين والحديث معهم والتخفيف عن معاناتهم . كلنا يدرك ذلك ولكننا بحاجة الى أن نشحذ عقولنا بين حين وحين حتى نسترد عافية الضمائر والنفوس .. والا فالاقامة في المدن طويلا تميت القلوب وتبعث على الكسل والملل . وخلاصة القول أن الطبيعة بحد ذاتها رياضة بمعناها الشمولي من حيث أنها تجديد لكل نشاط بدني وعقلي . - لقد وصفت فأحسنت الوصف ولم تتجاوز المعقول في كل ما قلت , غير أني أرى كفنان أن الريف بطبيعته الساحرة له محاسنه , وأن المدينة لها محاسنها أيضا اذ أن تقسيم الأعمال حافز مشترك لتوفير الخدمات وبالتالي اعطاء دفعة للعمران والتقدم مما لا يمكن أن نغفله اطلاقا . حقا ان الطبيعة بجمالها العذري تلهمني الكثير ولكني لا أستغني عن حياة المدينة اذ فيها نشأتي ورفاقي وذكرياتي وكل شيء آخر . فقال الفيلسوف بعد أن أصغى الى صاحبه طويلا : - لقد أعطتني تجربتي مع الناس حافزا لتكوين الأفكار غير أني بين أحضان الطبيعة أفرزت الغث من السمين لتخرج هذه الأفكار صافية منقاة , لذا فالفلسفة هي ومضة من ومضات النور لا تحقق جمالها وكمالها الا بالمناجاة الهادئة سواء في وضح النهار أو في سكون الليل , مع طلعة الشمس أو بزوغ القمر , أيا كان الأمر فان الحكمة هي الطريق الأمثل للمعرفة واتساع الأفق , والا فما معنى أن تكون حياتك خاوية مظلمة . تابعه الفنان بكل سمعه ثم عقب : - يا لها من رؤية أحسدك عليها ولكني أجزم أن الأفكار وليدة ساعتها بما يستجد من أحداث . ان في العقل طاقة جبارة اذا أستثمرت تصنع المستحيل , غير أني لا أكتم عليك بأني أشم رائحة الجمال من احساس داخلي عميق هو الذي يصور لي الأشياء أكبر من حجمها وأعذب من غيرها, احساس يلتصق بي ولا يفارقني حتى أتمكن من هضم العمل الذي جذبني اليه فأضفي عليه لمسات لم أكن أحسب حسابها من قبل . هل تدرك الآن معنى الفن وفي أي ظلال يلقيك ساعة التجلي ؟ وما مدى التألق في ساعة من ساعات الزمن تضفي على النفس البهجة والسرور ؟ رد عليه الفيلسوف : - أراك تحلق في دنيا غير دنيانا , وأن الأحلام تراودك في كل عمل تصنعه . - لا , ليست أحلاما بقدر ما هي رؤية , ان التخيلات تضفي على اللوحة طابعا سحريا والا ستكون الصورة باهتة . - في الفلسفة يكون الانسان بكل همومه وأوجاعه واقعا ملموسا نتحرى فيه الخلل الذي يمكن أن يصيبه لنضع له العلاج الذي يشفيه , وفي الفلسفة نضع الحاجز بين المعقول واللامعقول , ثم نرمي بكل ما يقلل من شأن الانسان وقيمته . - عذرا يا صاحبي اذا قلت لك أن العقبات كبيرة وأن أكثر الحلول غير صائبة . - ذلك لأننا نفتقد الصبر , ضاع منا الايمان وسط صراعات لا تنتهي , لقد أصبح عالمنا كوحش مفترس لا تنتهي أطماعه ولا رغباته , فقد ميزة الشبع ,انه جائع على الدوام , بينما الحكمة تقول أن غذاء الروح هو الأجدى نفعا . - صدقت يا صاحبي , فأنا حينما تستهويني اللوحة وأشعر بعشق نحوها أبقى الساعات الطويلة دون طعام , اذ يكفيني النظر الى لوحتي لأحس بالشبع , انه احساس غريب له مذاق خاص . - وكذا الحال في الفلسفة , اذ العقل يهيم بالحكمة ويبحث عنها في كل ركن سيما اذا كان منظر الطبيعة الساحر يوحي اليك بحقائق مذهلة . - حسنا يا صاحبي لقد انقضى النهار وبدأت الظلمة تتسلل الى الكون فلنعد أدراجنا الى موطننا في المدينة قبل أن تضل أقدامنا الطريق . - لنعد ولكن ليس على عجل , فساعة الغروب هي الأخرى جديرة بالتأمل