- الروايات الرومانسية –
الرواية الرومانسية هي تجسيد للعواطف الصادقة التي تنشأ بفعل الحب وضربات القلوب وخفقانها ، وما يترتب على ذلك من أحداث تجمع المحبين تارة وتفرقهم تارة أخرى . وقد شهدت فترة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي ظهور هذا النوع من الروايات التي تجذب القاريء انجذابا غريبا ليتفاعل مع هذه الأحداث ولتوقظ فيه تلك المشاعر الملتهبة ثم ليعيشها في كل خلجة من خلجاته . ان الحبكة في الأداء والتصوير تلعب دورها الحاسم في هذا التفاعل الشديد الوطأة بين الكاتب والقاريء . ونذكر فيما نذكر من هذه الروايات ( خان الخليلي ) و ( بداية ونهاية ) و(السراب ) لنجيب محفوظ . انها روايات رومانسية في الصميم رغم ما فيها من مسحات واقعية مستمدة من الحياة بمرارتها وحلاوتها ، وما تفرزه الوقائع على صعيد الأسرة والمجتمع . فالأسرة المصرية في تلك الفترة تعاني ما تعانيه من مشاكل كالفقر والبطالة والمرض مع كل ما يدور من صراعات . غير أن مسألة الحب تأخذ القسط الأكبر من الأحداث ، حب صعب المنال ، يقاسي فيه المحب من ويلاته وعذاباته ، لتنتهي هذه الروايات نهايتها الحزينة الموجعة أما بالموت أو الفراق . لذا يصاب القاريء بالصدمة وهو يتابع هذه النهاية ثم ليصاب بخيبة أمل تحز في نفسه ، انها الدراما المبكية على أية حال . أما الثلاثية التي تأتي في القمة فمع أن فيها لمسات رومانسية الا أنها عالجت مراحل زمنية حرجة من تاريخ مصر عبر ثلاثة أجيال متتالية ، والحديث عنها يطول ويطول . فاذا انتقلنا الى روايات محمد عبد الحليم عبد الله كغصن الزيتون وبعد الغروب وشجرة اللبلاب ، سنجد الأداء يختلف في رنينه وعذوبة موسيقاه بنهايات هي الأخرى مفجعة ينفطر لها القلب ، وبصفعة يتلقاها القاريء على غير انتظار . ومع أن هذه الروايات لا تخلو من اشارات في أثر البيئة على كل ما يخامر المرء من مشاعر بما في ذلك التربية التي يتلقاها منذ نعومة أظفاره ، الا أن صراع العواطف يبقى الغالب في الأحداث، تلك العواطف المتأججة التي تزيد النار اشتعالا ثم ليبقى الحب في دوامة . ولعله من الأنصاف أن نقول أن هذه الروايات نجحت في أداء وظيفتها بأسلوبها الساحر الجذاب لتجعل القاريء شديد الأنتباه من غير أن يفتر حماسه ليصل بعد ذلك الى النهاية غير المتوقعة . انه فن يلعب بأوتار القلوب ، فن الرواية القادر على ايصال هذا التفاعل بين طرفين ، وهو بالتالي يحقق نتائجه في اثراء القاريء بمفردات من اللغة وبديعها ومحاسنها وحتى بلاغتها هو أحوج ما يكون لها مع حبكة في الأسلوب ومتانته . أما احسان عبد القدوس فقد نحا منحى آخر يختلف تماما عن نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله . فرواياته ( لا أنام ) و ( لا تطفيء الشمس ) و ( الوسادة الخالية ) وغيرها من عشرات الروايات تلعب فيها عقدة الجنس وغرائز المراهقة حتى عند الكبار في الرجال والنساء ،تلعب فيها الدور الرئيس ، ومع أنها لا تخلو من الحب الرومانسي لكنها عموما محكوما عليها بشبق الغريزة وما تؤول اليه من مواقف عنيفة . ان الأبطال لهم أحلامهم وطموحاتهم .. بعضهم يعيش على هامش الحياة من غير أن يتفاعل معها والبعض الآخر له ثمة أهداف حتى وهو في غمرة عواطفه الحارة ، وبعضهم جعل من الحب الهدف الوحيد ولا هدف غيره ، يعيش في محرابه ويتأمل في سيرته غير عابيء بشيء آخر . غير أن ( في بيتنا رجل ) تعتبر انعطافا عن هذه القاعدة ، اذ أن بطلها يقارع السلطة الظالمة ليغتال أحد رموزها ،وهو بالتالي آثر حب الوطن على ما عداه ،انه البطل الحقيقي الذي تحلى بالوطنية الصادقة ، ومع كل ذلك يقع قلبه فريسة الحب في تلك الدار التي لجأ اليها بعد هروبه من السجن ،ولتبادله تلك الشابة المراهقة هذا الحب رغم المخاطر التي تحيط به . ومع ايضاح الفكرة لدى احسان عبد القدوس وتتابع الأحداث الشديدة في رواياته الا انه تنقصه حبكة الأسلوب وقوته وبلاغته مقارنة بالأديبين السابقين . وحينما نستعرض بعض روايات يوسف ادريس في خلاصة نجد أنه في ( العيب ) و (الحرام ) ذلك النهج الرومانسي الذي يترك تأثيره لدى القاريء من غير أن يغادر ذاكرته على مر الأيام ،ففي ( الحرام ) مثلا مأساة امرأة في أعماق الريف ، زوجها رجل مريض عاجز ، وهي التي تتكفل باعالته واعالة أطفالها معه لتقع ضحية الأغتصاب ، ثم لتحمل بطفل سفاح تتستر عليه ، ثم لتموت ميتة غريبة في أرض بعيدة بعد ساعات من ولادتها العسيرة ، لقد أعياها العمل وأعياها الحمل فماتت شهيدة بحق اذ لم ترتكب الخطأ بارادتها . دراما قد تكون واقعية الا أن لمساتها تبقى رومانسية أشبه بالحلم الذي يمر على الخاطر . أما يحيى حقي فمن بين رواياته وقصصه تتألق قصة ( قنديل أم هاشم ) ، لتكون رمزا على هذه الرومانسية المفرطة وسحرها الأخاذ ، فمع طلاسم الشعوذة والخرافات وسط تقاليد وعادات غريبة ، تضع الأسرة في عين فتاتها التي تشكو الضعف في الرؤية زيتا من قنديل أم هاشم ، من ذلك المزار للسيدة زينب التي يحج اليها عامة الناس في المواسم لتفقد هذه الفتاة بصرها ضحية الجهل ، بينما يجاهد الفتى لأكمال دراسته ثم يلتحق بكلية الطب خارج الوطن ليعود بعد ذلك طبيبا، وينجح آخر الأمر من اجراء عملية تعيد البصر للفتاة التي هي بحكم خطيبته ثم ليتزوجها فيما بعد . لقد نجح يحيى حقي في رسم معالم هذه القصة التي أتقن فيها صناعته باقتدار يحسد عليه . ونذكر فيما نذكر رواية الأطلال ليوسف السباعي التي جاءت تجسيدا صارخا للرومانسية المفرطة ، بهذا الحب الذي يدمي قلب الرجل والمرأة معا في علاقة حكم عليها بالفشل منذ البدء ، لكن الحب عنيد وملاقاة مأساته أكثر عنادا ، لتنهمر الدموع من القاريء الذي يتأجج عاطفة ويرى في الحب المرفأ الوحيد الذي لا شيء سواه . وقد صور يوسف السباعي الرومانسية بأعلى مراحلها كما في (نادية ) و (اني راحلة ) و( رد قلبي ) ،وهو في ذلك ينهج نهجا يمزج فيه الأحداث بعضها ببعض بين حياة يومية لا جديد فيها وبين عواطف حارة صادقة بأسلوب فيه متانة وسلاسة معا . ان هذه الروايات الرومانسية جميعا لقيت ترحيبا واسعا من القراء والنقاد معا في تلك الحقبة من الزمن ، وقد زاد من هذا التأثير تراكم الروايات العالمية المترجمة والتي تحمل الطابع الرومانسي بكل أبعاده كما في روايات أميل زولا ( صفحة حب ) و ( الفريسة ) و ( تيريزا ) ، وفي رواية البؤساء لفيكتور هيجو وآنا كارنينا لتولستوي والجريمة والعقاب لدستوفسكي وقصة مدينتين والآمال الكبيرة لديكنز وفي سائر روايات بلزاك ومسرحيات شكسبير . ألم نقع نحن القراء في ذلك العهد تحت تأثير هذه الرومانسية ؟ ألم تكن الرومانسية بالتالي جزءا من حياتنا ؟