آخر المرافئ مدخل ( أبدا ما كان من يصنع نعشا لوطني ....وطني أكبر من أن يحمل في نعش ....وطني لا يموت أبدا ) كان الحديث عنك عذبا عذوبة أحاديث الأطفال البريئة ، لكنه لم يعد عذبا بعد أن أصبحوا يتحدثون عنك وتلوكك ألسنتهم الطويلة في سياق ثرثرتهم . ادعوا أنهم يعرفونك جيدا فتماطلوا في الحديث عنك أكثر وجعلوك موضوع حديثهم في كل الأماكن ....على طاولات المقاهي وعلى الأرصفة الباردة...في الشوارع الكبيرة وفي الساحات العامة ....في الأزقة الضيقة والأحياء الشعبية وحتى في الطرق غير المعبدة...في المدن ...في القرى و في المداشر.. في الأكواخ البائسة تحدثوا عنك...في الفيلات الفخمة أيضا تحدثوا عنك ....صغارهم وكبارهم جميعهم تحدثوا عنك كل واحد تحدث عنك من موقعه وعلى طريقته و وفق هواه .... عفروا وجهك بخطاياهم وأثقلوا كاهلك بجرأتهم ...أيديهم مخضبة بدمائك و لم يكفوا عن اتهامك أنت المتهم وأنت الجاني في كل الحالات لأنك ما عدت تعنيهم ....هواءك ما عاد يناسب صدورهم ولا عاد يكفيهم.. وكنت تحترق في صمت صاخب رهيب بلهيب كلماتهم وتكاد تسقط كلما رأيت أصابع الاتهام مصوبة نحوك....الصداع يدوي رأسك المثقل بهمومهم ...ويدق قلبك الجريح أكثر خوفا عليهم فيزداد نزيفك ويشتد ألمك أكثر.. حملوا حقائبهم وفي غضب و مزقوا كل وثائقهم التي تدل عليك....مضوا...أسرعوا الخطو حتى لا تلحق بهم .... ووقفت أنت في انكسار تنظرهم بعيون أتعبها دمع استعطافك لهم....لكنهم رحلوا وتركوك وحيدا بمرفأ مهجور لا ترسوا عليه سوى بقايا سفن حملتها رياح الغضب وحملت معها رائحة بطش القراصنة والكثير عن يأس وضياع الذين رحلوا فالقراصنة مروا من هنا وهم أيضا مروا من هنا .... تحسست صدرك بيدك المرتعشة وقد تهاوت دموعك تغسل شحوب وجهك الكئيب فدوت بأعماقك نبضات قلبك الجريح تعزف أنينا رهيبا .... لفحت وجهك هبة ريح قوية محاولة انتشالك من وهمك : إنهم لن يعودوا فقد رحلوا في سفن حطمها القراصنة لكنك بقيت واجما ...رفعت رأسك شامخا تعاند الجميع : سوف يعودون ...سوف يعودون..... شعرت بالبرد في غيابهم لأنك ما ضممتهم تحت جناحيك....هم الآن يشعرون بالبرد... أتراهم يذكرونك ويذكرون أحضانك الدافئة ؟ أم تراهم نسوك ووجدوا من هو خير منك فأنساهم بأنك ما زلت حيا تنتظرهم.... استنشقت كل ما حولك من هواء علك تجد رائحتهم لكن زفرتك المحرقة كانت بلون اللهيب الذي أحرق أحشاءك ودلت على أنك ما شممت رائحتهم ..إنهم لن يعودوا أبدا لقد هربوا منك ليفتشوا عن غيرك كل شيء من حولك بدونهم بدا لك موحشا مقفرا...قمت من جلستك رافعا رأسك إلى السماء في شموخ لكن ملامح العذاب كانت بادية على تقاسيم وجهك ...تقدمت بخطى ثابتة نحو حافة المرفأ ...فتحت صدرك عاريا بمواجهة البحر وفجأة لمعت عيونك وازدادت نبضات قلبك ... استطالت رقبتك وأنت تحاول النظر بعيدا فلا ترى عيونك سوى البحر وموج البحر بمده وجزره ولا يلتقط سمعك سوى صخب أمواج غاضبة على حافة مرفأ مهجور لكنك بقيت مصرا على النظر بعيدا مدققا السمع أكثر ولاشيء غير صخب الموج وفجأة صرخت فينا – بعد أن طال وجومك - : إنهم عائدون ...عائدون ...الموج يحدثني عنهم ....إنهم قادمون ...الريح تحمل رائحتهم ...إنهم يقتربون ...يقتربون أكثر كدت تسقط من على حافة المرفأ لكنك تراجعت خطوة خطوة إلى الخلف ووقفت في ثبات وتحد ..كل ملامحك أوحت باستعادتك ثقتك التي كدت تفقدها في لحظة ما ...وتهللت أسارير وجهك وأنت ترى أولى السفن تشق الموج نحو المرفأ وفي لحظة بانت ألاف السفن ودوى ضجيجها في الأفق ...بدا لك أحلى ما عزف من سنفونيات .... ورست السفن ولا أحد نزل ...حركت رأسك و الابتسامة مرتسمة على وجهك المشرق ثم استنشقت ما استطعت من الهواء استعذبته لأنه كان معبقا برائحتهم ...لقد عادوا ....لكنهم خائفون مني .... شيء ما أوحى بالحركة داخل السفن ...إنهم ينزلون .... وغص المرفأ بهم وأنت تنظرهم في ابتهاج وجوههم كانت توحي بالتعب ..بالغضب...بالغربة وبأشياء كثيرة .... ارتموا في أحضانك في وهن واغتسل المرفأ بدموعهم وهم يبكون ....كم كنا واهمين ...كم كنا مخطئين عندما قررنا الرحيل معتقدين أن هواءك ما عاد يناسب صدورنا وأنك ما عدت تحبنا فرحلنا وامتطينا سفنا من تيه نبحث عن مرفأ آمن فكانت كل المرافئ مقفلة ومدججة بجيش من القراصنة ...كدنا نيأس وكدنا نتوه فإذا بنور قوي انبعث من بين ضلوعنا يضيء دروبنا وكان يحمينا ....لم نعد نحس بالبرد لترسو سفننا ها هنا بهذا المرفأ الأخير فإذا بعيونك مصدره ...فأنت النور يا وطننا ليس ككل الأوطان.