يوميات عائشة ...... جلست عائشة تلعق صبرها على فقدان زوجها، فقد فارقها منذ أمد ليس ببعيد، و لكن الحسرة ترفض أن تغادر قلبها، فقد كان لها الماء و الهواء و النور، و ما تخيلت يوما أن تستيقظ صباحا لترى الدار و قد أقفرت منه، فلا صوته يهدهدها و لا يده تعبث بشعرها و لا عيناه تخترقان جسمها الأنثوي الصاخب. لا تزال أنوثتها طاغية، و لا يزال حبيب الأمس، عدو اليوم، يمني النفس بالظفر بها، بعد أن فرقت الأيام بينهما، و لا يزال ابنها حسن يذكرها بأن زوجها الحبيب ” مر من هنا ”. بالأمس زارها أبوها فقضى سحابة نهاره معها، و آنس وحشتها، و كافح جاهدا لنفض غبار اليأس عنها، و رغم عبث المحاولة إلا أنه حرك فيها كوامن الشعور بكلمات وداعه الأخير : يا ابنتي، تعلمي أن تأخذي قراراتك بهدوء و أن تنفذيها بحماس. كم هو حكيم هذا الأب الذي لا تجود به الأيام إلا لماما، فقد صنع منها تحفة بشرية بكل المقاييس و ادخرها لسيد الرجال، و كلما أنعمت النظر جيدا في ” حسن ” اندفعت تسأل نفسها : يا إلهي هل أنا التي أنجبت هذه الروعة البشرية الصغيرة البريئة الحالمة…ما أشهاك يا حسن لو كنت تؤكل لالتهمتك دفعة واحدة. كان زوجها الراحل يقول لها أن مفتاح الحكمة هو طرح الأسئلة الصحيحة، و لطالما جلست تؤانس القمر في الليالي الحالكات و تسأل نفسها.. أين أخطأت…. و تعود الأصداء مجيبة : سيستغرق الأمر أكثر من ليلة واحدة. نعم، لا بد من العرق و الجهد و التعب و النصب إذا أردنا أن نحيا، فما من شيء بالمجان. كل شيء فيها يبعث على الحسد، و مع ذلك لا تكف عن النظرة بحسد لكل النسوة اللائي أبقى الزمن على أزواجهن، و ما التفتت يوما إلى ما تملك من فردوس و نعيم مقيم. عاد حسن يوما من المدرسة منتفخا فقد قرأ العبارة على السبورة صحيحة دون خطإ، و دوَّنها في كراسته دون عثرات يقيلها معلم، و حفظها عن ظهر قلب بعد ترديدها أربع مرات لا غير. – هيا يا عمري أعد عليَّ ما قرأت و دونت اليوم. – حاضر ماما …استمعي : إن الحساد لا ينظرون إلى مكامن الأمور بل إلى قشورها و نتائجها، فمن يريد المجد فليحسد نابليون، و الذي كان بدوره يحسد القيصرـ، و الذي كان بدوره يحسد ألكسندر، و الذي بدوره حتما كان يحسد هرقل و هو شخص غير موجود من الأساس. – و لكنني أسأل ماما : هل فعلا هرقل لا وجود له ؟!. – برتراند راسل …..كم أحبك يا زوجي. – ماذا تقولين ماما …أنا لا أفهمك تماما. – العبارة هي لبرتراند راسل الذي كانت كتبه رسول الغرام بيني و بين أبيك أيام الجامعة…نعم عندما يقول ” مرسول الحب ” بيني و بين أبيك أنه لا وجود له فهو كذلك ….لا وجود له. تستغفر الأم و تبسمل و تحوقل و تسترجع، و تطبع قبلة حنان على جبين ابنها ثم تنصرف إلى الصلاة ومناجاة ربها : الرحمة يا إلهي، الرحمة يا ربي الذي في السماوات، ارحمني و اعف عني، فإني كما تعلم ضعيفة، يا إلهي الرحيم، إن يديَّ ترتعشان رهبة و خيفة، و قلبي و روحي يرتجفان من تصاريف و عصف هذا الزمن، و أنت وحدك يا إلهي الرحيم..لك المجد. حتى هذا الدعاء الكهنوتي حفظته عائشة عن ظهر قلب بعد أن قرأته 4 مرات في لفافة بالية عثرت عليها تحت ركام بيتهم القديم الذي تهدم …..إذن لستَ عبقريا يا حسن فأنت مجرد شبل من تلك اللبؤة…انتهى