يجهل الكثير من أبناء هذا الجيل تراثنا العربي الاسلامي ، ويجهل أيضا ما اتسمت به حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي من فكر وأدب .. وهي حقبة ذهبية بحق . وها أنا أتحدث عنها كشاهد عيان عاصرتها بكل تألقها وروعتها وحلاوتها . أجل كانت حقبة زاخرة بالعطاء الثقافي من لدن أدباء ومفكرين لهم طابعهم المميز في رسم بصمات تنبض بالحياة . كنا نسمع أحاديثهم أحيانا عبر الاذاعة وكنا نقرأ ما تجود به أقلامهم في الصحف والمجلات والكتب التي تفد الى العراق دون توقف ..وكانت هذه الكتب تلازمنا في حلنا وترحالنا نستمتع بقراءة سطورها وترتوي بها عقولنا . ترى أي كتب هذه ! وأي أدباء هم ! الواقع أنهم كثرة برزت على الساحة الأدبية في هذه الحقبة ساهمت فيها أقلام مصرية وسورية ولبنانية وعراقية . فأي رحلة هذه التي نتحدث عنها ونسافر معها الى دنيا مفعمة بجمال الكلمة وعذوبة الفكرة وجزالة الأسلوب . على أية حال لنبدأ رحلتنا مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي أثرى المكتبة العربية بنتاجه الفكري المتميز وأسلوبه الرصين المحكم .. فهذا كتابه الأيام بأجزائه الثلاثة يتحدث عن سيرته منذ طفولته حتى فترة متأخرة من حياته ، وهذا كتابه على هامش السيرة يتحدث فيه عن سيرة رسول الله ،وهذا كتابه الفتنة الكبرى يتحدث فيه عن أحداث الفتنة في أواخر الخلافة الراشدية والتي أودت الى صراع ما زلنا نكتوي بناره . أما المفكر عباس محمود العقاد فكان نسيجا لوحده بل موسوعة ثقافية رغم أنه لم ينل سوى الشهادة الابتدائية .. فهذه كتبه (العبقريات ) يتحدث فيها عن رسول الله أولا وعن أعلام الصحابة ثانيا بلغة فريدة وقعها على النفس شديد .. كما له مؤلفات عديدة زادت عن السبعين كتابا أما توفيق الحكيم فقد رسم بمسرحياته نموذجا من الأدب الرفيع متمثلا في كتبه ( أهل الكهف )و ( عصفور من الشرق ) و ( أحلام شهرزاد )علاوة على روايته ( يوميات نائب في الأرياف )وعشرات من المؤلفات الأخرى . وتستمر الرحلة في تألقها لنلتقي مع نجيب محفوظ الأديب الذي نال جائزة نوبل للآداب عام 1988 بناء على ما حققه في رواياته من تألق وشهرة عالمية لاسيما في ثلاثيته وأولاد حارتنا وزقاق المدق وخان الخليلي وعشرات غيرها من الروايات والقصص القصيرة . وقد لحق بهذا الركب الآنف الذكر في هذه الحقبة كل من يوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبدالله واحسان عبد القدوس ويحيى حقي ويوسف ادريس وغيرهم . واذا طوينا صفحة من أدباء مصر فانه ستأتينا صفحة مشرقة من أدباء سوريا ولبنان ، فهذا نزار قباني بشعره الحر الموسوم بأناقة كلماته التي تنساب الى المتلقي كأنها الموسيقى العذبة بنغماتها ... وهذا مطاع صفدي برواياته الفلسفية التي يبدو فيها متأثرا بالوجودية الفرنسية سيما في روايته جيل القدر .. وهذه غادة السمان برواياتها وقصصها القصيرة التي تحاول فيها ابراز شخصية المرأة والدفاع عن حقوقها . فاذا انتقلنا الى العراق وجدنا في هذه الحقبة بروز أدباء نالوا الحظوة في ابداعاتهم وكان منهم بدر شاكر السياب الذي يعتبر من رواد الشعر الحر هو والشاعرة نازك الملائكة .. أما الجواهري فهو علامة فارقة في الشعر العمودي . وفي الرواية برز غائب طعمة فرمان الذي أجاد في وصف الطبقة الشعبية المسحوقة في روايته الشهيرة ( النخلة والجيران ) أعود للقول بأن كل ما ذكرته في هذه الرحلة الأدبية هو غيض من فيض وانه ليس أكثر من خلاصة في اعطاء الصورة الحقيقية للثقافة الأدبية التي سادت في تلك الحقبة الذهبية والتي قيض لنا أن ننعم بسحرها .. وأنه برحيل هؤلاء الكبار من الأدباء عن الحياة كأنما توقفت عقارب الساعة عن الدوران .
ناجح صالح