تذهب المحن ويبقى الإسلام كالطود الشامخ لقد قدر الله مقادير الخلائق وآجالهم، ونسخ آثارهم وأعمالهم، وقسم بينهم معايشهم وأموالهم، وخلق الموت والحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. والإيمان بقضاء الله وقدره ركن من أركان الإيمان، وما في الأرض من حركة أو سكون إلا بمشيئة الله وإرادته، وما في الكون كائن بتقدير الله وإيجاده. والدنيا طافحة بالأنكاد والأكدار، مطبوعة على المشاق والأهوال، والعوارضُ والمحنُ فيها هي كالحر والبرد لا بد للعبد منها، {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، والقواطع محن يتبين بها الصادق من الكاذب، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، والنفس لا تزكو إلا بالتمحيص، والبلايا تُظهر الرجال، يقول ابن الجوزي: "من أراد أن تدوم له السلامة والعافية من غير بلاء فما عرف التكليف ولا أدرك التسليم" ولا بد من حصول الألم لكل نفس، سواء آمنت أم كفرت، والحياة مبنية على المشاق وركوب الأخطار، ولا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم، والمرء يتقلب في زمانه في تحول من النعم واستقبال للمحن. آدم عليه السلام سجدت له الملائكة، ثم بعد بُرهة يُخرج من الجنة. وما الابتلاء إلا عكس المقاصد وخلاف الأماني، والكل حتم يُتجرّع مرارته، ولكن ما بين مقِلٍّ ومستكثر، يُبتلى المؤمن ليهذَّب لا ليعذَّب، فتن في السراء، ومحن في الضراء، {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، والمكروه قد يأتي بالمحبوب، والمرغوب قد يأتي بالمكروه، فلا تأمن أن توافيك المضرة من جانب المسرة، ولا تيأس أن تأتيك المسرة من جانب المضرة، قال عز وجل: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].فوطّن نفسك على المصائب قبل وقوعها، ليهن عليك وقعها، ولا تجزع بالمصائب، فللبلايا أمد محدود عند الله، ولا تسخط بالمقال، فرب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان، والمؤمن الحازم يثبت للعظائم، ولا يتغير فؤاده ولا ينطق بالشكوى لسانه، وخفف المصاب على نفسك بوعد الأجر وتسهيل الأمر، لتذهب المحن بلا شكوى، وما زال العقلاء يظهرون التجلد عند المصاب لئلا يتحملوا مع النوائب شماتة الأعداء، والمصيبة إن بدت لعدوّ سُرَّ واستبشر بها، وكتمان المصائب والأوجاع من شيم النبلاء، فصابر هجير البلاء، فما أسرع زواله، وغاية الأمر صبر أيام قلائل، وما هلك الهالكون إلا من نفاد الجَلَد، والصابرون مجزيون بخير الثواب، {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96]، وأجورهم مضاعفة، {أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 54]، بل وبغير حساب، والله معهم، والنصر والفرج معلق بصبرهم، وما منعك ربك ـ أيها المبتلى ـ إلا لتعطى، ولا ابتلاك إلا لتعافى، ولا امتحنك إلا لتصَفَّى، يبتلي بالنعم، وينعم بالبلاء، فلا تضيّع زمانك بهمّك بما ضمن لك من الرزق، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتيا، قال تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وإذا أغلق عليك بحكمته طريقاً من طرقه فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه. بالابتلاء يُرفع شأن الأخيار، ويعظم أجر الأبرار، يقول سعد بن أبي وقاص قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءٌ؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل؛ يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» [رواه الترمذي وهو حسن صحيح] ... لقد كانت فاجعة التتار، وهمجية المغول من أعظم ما بلي به المسلمون. ولعل الذين عاشوا محنتها كانوا يظنون فيها نهاية للإسلام والمسلمين. وعلى الرغم من هذه المحنة وما سبقها من محن أو تلاها فقد بقي الإسلام كالطود الشامخ؛ تحطمت على صخراته الصماء مكائد الماكرين، وظهرت معجزة الإسلام حين عاد بعثه من جديد في الأجيال اللاحقة من أبناء المسلمين، بل لقد دخل في الإسلام طائفة من هؤلاء بعد أن كانوا من الرعاع المتوحشين. لقد أحجم -في البداية- العلماء المعاصرون عن الكتابة عن محنة التتار لهول الفاجعة، فبقي ابن الأثير (ت 630هـ) عدة سنين معرضًا عن ذكرها استعظامًا لها، وهو القائل: "فيا ليت أمي لم تلدني، وياليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيًا منسيًا" . ويقول أيضا: "فلو قال قائل: إنَّ العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى أدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا، فإنَّ التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها" . وهي عنده أعظم من فـتنة الدجال ، بل لقد أقسم أنَّ من سيجئ بعدها سينكرها وحق له ذلك. هذا الوصف كله من ابن الأثير وهو لم يشهد فاجعتهم الكبرى بسقوط بغداد سنة (656هـ) وقتل الخليفة العباسي وسفك دماء المسلمين، وهي فاجعة تضاهي ما سبقها بل تـزيد. كما أنَّ ابن الأثير لم يشهد كذلك أحداث التتر في نهاية القرن السادس الهجري (699هـ) حين عبروا الفرات إلى بلاد الشام وما حولها، وما حدث للمسلمين في تلك الفترة من البلاء والمحن، حتى أذن الله بزوال المحنة، وكشف الله عن المسلمين الغمة. وهي فتنة بليت فيها السرائر وانقسم الناس فيها فرقًا شتى، وقد أجاد ابن تيمية –وهو شاهد عيان– في وصف الحدث وهوله، وموقف الناس بإزائه فقال: "فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يُجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين بإستيلاء الفجرة التتار. وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يُغيث اللهفان. ومّيز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقوامًا إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقوامًا إلى المنازل الهاوية، وكفَّر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى.فإنَّ الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيـد، كما يتفرقـون كذلك في اليوم الموعود، وفـرَّ الرجلُ فيها من أخيـه وأمـه وأبيـه، وكان لكل امـرئ منهم شأن يغنيه. وكـان من الناس من أقصـى همته النجـاة بنفسه؛ لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرضه، كما أنَّ منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال. وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع. وهم درجات عند الله في المنفعة الدفاع. ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى. وبليت فيها السرائر. وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر. وتبين أنَّ البهرج من الأقوال والأعمال بخون صاحبه أحوج ما كان إليه من المآل. و ذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا. كما حمد ربه من صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون، وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون. وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة؛ حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام.وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور. وكان هذا الامتحان تمييزًا من الله وتقسيمًا؛ {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:24] . كما كان دقيقًا في وصف أحوال المسلمين ومواقفهم حين غزى التتر بلاد الشام فقال: "وهكذا هذا العام جاء العدو من ناحيتي علو الشام وهو شمال الفرات وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغًا عظيمًا وبلغت القلوب الحناجر، لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بإنصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق. وظن الناس بالله الطنونا، هذا يظن أنه لا يقف أمامهم أحد من جند الشام حتى يصطلموا أهل الشام. وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر. وهذا يظن أنَّ أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام. وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف أمامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن، ونحوها. وهذا – إذا أحسن ظنه – قال: إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين. ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام؛ وهذا ظن خيارهم. وهذا يظن أن من أخبره به أهل الآثار النبوية؛ وأهل التحديث والبشارات أماني كاذبة، وخرافات لاغية. وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب؛ ليس له عقل يتفهم، ولا لسان يتكلم. وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلا بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية. فلذلك استولت الخيرة على من كان متسمًا بالإهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11] . أمـا المنافقون فلهم شأن آخر، ولهم موقف لا يختلف كثيرًا عن مواقف أسلافهم في غزوة الأحزاب حين ابتلي المؤمنون وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا . وكانوا شيعًا؛ فمنهم من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم فينبغي الدخول في دولة التتر، وقالت بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر، وقال بعضهم: بل المصلحة الإستسلام لهؤلاء كمـا قد استسلم لهم أهـل العراق والدخـول تحت حكمهم . وما المحن التي يمر بها العرب والمسلمون في عصرنا الحاضر الا هي امتداد للمحن الابتلاء الذي ابتلي بها الاسلام وما احداث البوسنة والهرسك وماينمار والدول العربية بعد ربيعها العربي المشئوم ولكن ماذا بعد؟ دائما وأبدًا تذهب المحن ويبقى الإسلام كالطود الشامخ ...