يعرف علم الهندسة عند العلماء المسلمين بأنه العلم بقوانين تُعرف منه الأصول العارضة للكم من حيث هو كم. وجاء تعريفه في (مدينة العلوم) بأنه: علم يعرف منه أحوال المقادير ولواحقها، وأوضاع بعضها عند بعض، ونسبتها وخواص أشكالها، والطريق إلى عمل ما سبيله أن يعمل بها، واستخراج ما يحتاج إلى استخراجه بالبراهين اليقينية. وفي حفاوة بالغة عن علم الهندسة تحدث ابن خلدون في مقدمته بما يعكس نظرة إسلامية أصيلة لهذا الفرع من العلوم، فقال في تعريفه: هذا العلم هو النظر في المقادير، إما المتصلة: كالخط والسطح والجسم، وإما المنفصلة: كالأعداد وفيما يعرض لها من العوارض الذاتية، مثل: إن كل خطين متوازيين لا يلتقيان في وجه ولو خرجا إلى غير نهاية، ومثل: أن كل مثلث فزواياه مثل قائمتين، ومثل: أن كل خطين متقاطعين فالزاويتان المتقابلتان منهما متساويتان، ومثل: أن الأربعة المقادير المتناسبة ضرب الأول منها في الثالث كضرب الثاني في الرابع وأمثال ذلك. والهندسة معرب (أندازه) - التسمية الأجنبية لها - ووجه التسمية ظاهر، وموضوعه: المقادير المطلقة، أعني - كما يقول القونجي -: الخط والسطح والجسم التعليمي، ولواحق هذه من الزاوية والنقطة والشكل. أهمية علم الهندسة ـــــــــــــــــ تبرز أهمية علم الهندسة أو منفعته - كما يذكر القونجي - في الاطلاع على الأحوال المذكورة من الموجودات، وأن يكسب الذهن حدة ونفاذا، ويُروض بها الفكر رياضة قوية؛ لما اتفقوا على أن أقوى العلوم برهانا هي العلوم الهندسية. ومن جملة منافعها: العلاج عن الجهل المركب؛ لما أنها علوم يقينية لا مدخل فيها للوهم؛ فيعتاد الذهن على تسخير الوهم، والجهل المركب ليس إلا من غلبة الوهم على العقل" ...وفي ذلك أيضا يقول ابن خلدون: واعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله، واستقامة في فكره؛ لأن براهينها كلها بَيِّنَة الانتظام، جليّة الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها؛ لترتيبها وانتظامها؛ فيبعد الفكر بممارستها على الخطأ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهْيَع (أي: الطريق أو النسق). وقد زعموا - كما يذكر ابن خلدون - أنه كان مكتوبا على باب أفلاطون: "من لم يكن مهندسا فلا يدخل منزلنا". قال: وكان شيوخنا - رحمهم الله - يقولون: "ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينفيه من الأوصار والأردان"؛ وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه. فلا عجب - إذا - في حق الأمة التي ينظر علماؤها إلى الهندسة كنور للعقل، ومُطهِّر للفكر من أدران العشوائية والفوضى.. أن تبرع في شتى التطبيقات الهندسية المتنوعة، على نحو ما سنراه في هذا البحث وغيره. لم يكن غريبًا على العقل المسلم الذي ربَّاه دينه على إعلاء شأن التفكير والتدبُّر والقياس والتجريب العلمي... لم يكن غريبًا على ذلك العقل الذي تربَّى تلك التربية أن يُعلي شأن النظر إلى علوم الهندسة في عصور حضارته، وأن يبلغ بفروعها ومبادئها آفاقًا لم يُسبق إليها من أرباب الحضارات السابقة. فنلاحظ أن ابن خلدون – رحمه الله – قد تحدَّث بحفاوة بالغة عن علم الهندسة.. تلك الحفاوة التي إن صدرت عن عالم في وزنه فهي - ولا شكَّ – تعكس نظرة إسلامية أصيلة لهذا الفرع من العلوم.. لقد بدأ حديثه عن الهندسة (جريًا على العادة المنهجية الإسلامية) بتعريف لهذا العلم قائلاً: "هذا العلم هو النظر في المقادير، إما المتصلة: كالخط والسطح والجسم، وإما المنفصلة: كالأعداد... وفيما يعرض لها من العوارض الذاتية.."، وبعد أن يتحدَّث عن أنواعها المختلفة.. نراه يعلِّق – رحمه الله – على منزلة هذا العلم قائلاً: "واعلم أن الهندسة تُفيد صاحبها إضاءةً في عقله، واستقامة في فكره؛ لأن براهينها كلها بَيِّنَةُ الانْتِظَام، جَلِيَّةُ الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها؛ لترتيبها وانتظامها؛ فيبعد الفكر بممارستها على الخطأ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهْيَع (أي: الطريق أو النسق)..." إلى أن يقول: "وكان شيوخنا – رحمهم الله – يقولون: (ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينقِّيه من الأوضار والأدران)؛ وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه". فلا عجب – إذًا – في حق الأمة التي ينظر علماؤها إلى الهندسة كنورٍ للعقل، ومُطَهِّر للفكر من أدران العشوائية والفوضى.. أن تبرع في شتَّى التطبيقات الهندسية؛ فلا تقتصر تلك البراعة على ما رأيناه في المقال السابق من روعة علم الحيل النافعة (أو: الهندسة الميكانيكية)، بل تتعدَّى ذلك إلى سائر فروع الهندسة سواء منها ما يتعلَّق بالصناعة أو العمارة أو المياه والريِّ وغيرها... المسلمون وعلم الهندسة ـــــــــــــــــــــــ كرم الله الإنسان بصفته عاقلا، وجاء الإسلام ورفع من شأن العقل وأعلى من مكانته، وحث على تعلم العلم، وإجالة الخاطر والنظر والفكر وذلك في أكثر من موضع من المصدر الأول من التشريع، والذي كان منه على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: [أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ] ، وقوله تعالى: [إن في خلق السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] وغيرها الكثير من الآيات التي تنتهي بقوله تعالى: [لقوم يتفكرون] - [لعلكم تعقلون]. ومن هنا وإذا كان علم الهندسة من العلوم الرياضية العقلية التي تستدعي الفكر وإعمال العقل، فإن الإسلام يكون أول ما يدعو إليه ويحث عليه، خاصة وأن استعمال مثل ذلك مما يؤدي إلى الإقرار بالوحدانية والاعتراف بالإبداع الكوني الرباني المعجز. وقد تبلور علم الهندسة عند المسلمين وآتى ثماره عليهم وعلى غيرهم من الأمم والحضارات من خلال ما يلي... علم الهندسة والاستفادة من الحضارات السابقة ــــــــــــــــــــــــــــ من البديهيات المسلم بها أن الجوار من قنوات انتقال الحضارات، وأن الحضارة بساط نسجته وتنسجه أيدي أمم كثيرة، فالحضارة متواصلة العطاء، وقيمة كل أمة في ميزانها يساوي ما قدمته مطروحًا منه ما أخذته من الحضارات التي سبقتها، وبهذا فلا ينكر عاقل أن الحضارة العربية الإسلامية أخذت من حضارات سبقتها، ولكنه وإتماما لذلك - على نحو ما سنرى - فإنها واصلت العطاء، ووشّت بساط الحضارة الإنسانية بكل ما هو جميل وراق. إن ما قام به العرب المسلمون لهو عمل إنقاذي له مغزاه الكبير في تاريخ العالم، ولئن أشعل العرب سراجهم من زيت حضارات سبقت، فإنهم ما لبثوا أن أصبحوا شعلة وهّاجة بذاتها، استضاء بنورها أهل العصر الوسيط، وإن ما يُدْعي (المعجزة اليونانية) تنفيها الحقائق العلمية التاريخية وتنقضها، يقول السِّير هنري مين: "وإذا استثنينا قوى الطبيعة العمياء لم نجد شيئا يتحرك في هذا العالم إلا وهو يوناني في أصله" وتبنى فيليب حتّى هذا الادعاء، فجعل دور العرب المسلمين في مقام الوسيط ـ كساعي البريد ـ في أن نقلوا إلى أوربا خلال العصر الوسيط بضاعتهم اليونانية. والحقيقة التاريخية تنفي وجود (المعجزة اليونانية)؛ لأن الحضارة اليونانية امتداد لحضارة وادي الرافدين ووادي النيل وبلاد الشام واقتباس منها، فاليونانيون اقتبسوا من الحضارات السابقة في شرقي المتوسط ومصر الكثير من مختلف العلوم، وعاد إلينا على أنه علم وطب يونانيان، ونُسى الأصل أو تنوسي. يقول وُلْ ديورانت: فطاليس (536 ق.م) زار مصر عدة زيارات ونقل من العلوم الهندسية المتقدمة من مدارس الإسكندرية، وفيثاغورس (497 ق.م) زار مصر عدة مرات، ثم مكث ببابل مدة طويلة، وقد بات من المعروف أن نظرية: مربع الوتر في المثلث القائم يساوي مجموع مربع الضلعين الآخرين، أخذها فيثاغورس من بابل، ونسبها إليه دون عزو لمصدرها، أو نسبت إليه، إن لوحة (تل حرمل) الحجرية التي عُثِرَ عليها في ضواحي بغداد تدل يقينًا على أن البابليين سبقوا اليونانيين في حساب المثلثات القائمة والمتشابهة بمئات السنين. ومن هنا فمن السذاجة والخطأ الادعاء بأننا لم نأخذ ممن سبقنا؛ وذلك لأننا لم نبدأ من الصفر، ولو بدأت كل حضارة في مضمار العلوم من الصفر لما ازدهرت حضارة، ولما وصلت الحضارة اليوم إلى ما وصلت إليه من هذا التقدم العلمي المذهل، وعليه فإن المسلمين أخذوا أصول الهندسة عن اليونان، وقد ترجموا كتاب إقليدس في الهندسة وسموه الأصول، وذلك في عهد الخليفة المنصور النهضة الصناعية ـــــــــــــــــــــــــــــــ على صعيد النهضة الصناعية (والتي لا تخفى صلتها الوثيقة بالتقدُّم الهندسي) تطالعنا شهادات غربية منصفة.. منها ما يؤكده المستشرق الفرنسي "سيديليو" (1777- 1833م) في شأن روَّاد الحضارة الإسلامية من: "أنهم برعوا في جميع الفنون الصناعية، واشتهروا عند الأمم بأنهم دبَّاغون سباكون، جلاَّءون للأسلحة، نساجون أصناف الثياب، ماهرون في أشغال المنقاش والمقراض.. ويؤيد عُلُوَّ كَعْبِهِم في هذه الفنون سيوفُهُم الباترة، ودروعُهُم الخفيفة الصلبة، وبُسُطُهُم ذاتُ الوبر، ومنسوجاتهم من الصوف والحرير والكتان".. إن باحثًا غربيًّا آخر هو (رينو) يقول: "إن العرب لما أغاروا من الأندلس على جنوبي فرنسا، وافتتحوا بقيادة السمح الخولاني وعنبسة الكلبي والحُرِّ الثقفي مدائن أربونة وقرقشونة وأفنيون وليون.. كانوا مُجَهَّزِين بأسلحةٍ لم يكن للإفرنج مثلها!!". لقد كان المهندسون والتقنيون في الحضارة الإسلامية يتَّبعون المنهج العلمي في كل أعمالهم، ويبدءون - في الحالات الصعبة - برسم مخططات، ثم يصنعون نموذجًا مصغرًا لما ينوون تنفيذه.. وقد أعاد الفنيون المحدثون بناء العديد من التركيبات والآلات تبعا للشروح التي قدمها التقنيون الإسلاميون في مؤلفاتهم. الهندسة المعمارية ـــــــــــــــــــــــــــ إذا نظرنا إلى جانب الهندسة المعمارية فسنجد أن المسلمين قد برعوا (إبان الفتوحات الإسلامية، وانتشار الإسلام في أرجاء المعمورة) في الاهتمام ببناء المدن الجديدة، وإعمار الأرض، وقد تجلى ذلك في النهضة المعمارية العظيمة التي شهدتها عدد من حواضر العالم الإسلامي، كما تجلى في العديد من المساجد والمباني والقصور والجسور والمستشفيات (البيمارستانات).. وتُحدِّثنا كتب التاريخ عن بدايات قديمة للنهضة المعمارية الإسلامية.. فها هو الإدريسي في (نزهة المشتاق) يتحدث عن عظمة "قنطرة قرطبة" التي بُنِيت في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله (بين عامي: 99هـ و 101هـ) أي في أواخر القرن الأول الهجري!! يقول الإدريسي: "ولقرطبة القنطرة التي علت القناطر فخراً في بنائها وإتقانها.. وعدد قِسِيِّها سبع عشرة قوساً.. بين القوس والقوس خمسون شبراً، وسعة القوس مثل ذلك: خمسون شبراً، وسعة ظهرها المعبور عليه: ثلاثون شبراً، ولها ستائر من كل جهة تستر القامة، وارتفاع القنطرة من موضع المشي إلى وجه الماء في أيام جفوف الماء وقلته ثلاثون ذراعاً..." هذا وقد أضافت العمارة الإسلامية تقنيات لم تكن معروفة من قبل في أنظمة المساجد والمدارس، كما ابتكرت تلك العمارة عناصر فنية كثيرة منها: أشكال العقود والتيجان والقباب والمحاريب والمنارات والمآذن وغيرها... ولا تكاد رقعة من تاريخ المسلمين أو ديارهم.. تخلو من آيات بينات تدل على تلك العظمة المعمارية.. ويكفينا هنا مثالان من حقبتين تاريخيتين مختلفتين: المثال الأول (جامع قرطبة) الذي بُني في العهد الأموي في الأندلس، والذي يُعَدُّ – عبر العصور – معجزة معمارية بامتياز.. حتى ليصفه صاحب الروض المعطار بقوله: "الجامع المشهور أمره الشائع ذكره من أجل مساجد الدنيا كِبَرَ مساحةٍ وإحكامَ صنعةٍ وجمالَ هيئةٍ وإتقانَ بنيةٍ..." أما المثال الثاني فهو (جامع السليمانية) بإسطنبول.. وهو ممثل صادق للإبداع المعماري العثماني الذي صبغ الحقبة العثمانية الزاهرة والمجهولة من تاريخ المسلمين، وقد كان من أبرز سمات ذلك الإبداع تلك القباب العالية البديعة.. وقد شُيِّد (جامع السليمانية) عام (964هـ / 1557م). ويدين علم الصوتيات المعمارية (إكوستيك) بالفضل لعلماء المسلمين في إنشائه وإرساء أصوله المنهجية العلمية؛ إذ أفادوا من تطبيقاته في مجالات حيوية مختلفة؛ فاستفادوا من معرفتهم بأن الصوت ينعكس عن السطوح المقعرة، ويتجمع في بؤرة محددة - كالضوء تمامًا - وأنه إذا أجري حساب دقيق لهندسة السطوح المقعرة فإنه يصبح بالإمكان تسليط الأمواج الصوتية المنعكسة، وتركيزها في اتجاهات معينة بحيث تزيد من وضوح الصوت وشِدَّته.. أما إذا لم تُرَاعَ تلك الحسابات الدقيقة فإن ذلك يؤدي إلى خلخلة في الصوت، وبلبلة في تلقِّيه لدي السامع. وقد استخدم التقنيون المسلمون خاصية تركيز الصوت في أغراض البناء والعمارة، وخاصةً في المساجد الكبيرة الجامعة؛ لنقل وتقوية صوت الخطيب والإمام أيام الجُمَعِ والأعياد، مثل ما نجده في مسجد "أصفهان" القديم، ومسجد "العادلية" في حلب، وبعض مساجد بغداد القديمة.. حيث كان سقفُ المسجد وجدرانُه تُصَمَّم جميعًا على شكل سطوح مقعرة موزعة في زوايا المسجد وأركانه بطريقة دقيقة، تضمن توزيع الصوت بانتظام على جميع الأرجاء. ولا شَكَّ أن هذه المآثر الإسلامية الباقية حتى اليوم لهي خير شاهد على ريادة علماء المسلمين في تقنية الصوتيات الهندسية المعمارية، وذلك قبل أن يبدأ العالم الأمريكي المعروف "والاس ك. سابين" في دراسة أسباب سوء الصِفَات الصوتية لقاعة المحاضرات بجامعة "هارفارد" الأمريكية في أوائل القرن العشرين. الهندسة الهيدروليكية!! ـــــــــــــــــــــــــــــــ ولم يقتصر إبداع المهندس المسلم على الجانب المعماري وحسب.. بل إن آيات الإبداع تتجلى في فروع هندسية أخرى كثيرة ومنها (الهندسة الهيدروليكية) التي تُعنى بأنظمة الري، وإمداد المياه.. ومع أن المهندسين المسلمين لم يكونوا أول من ابتكر علم الهندسة الهيدروليكية (فقد وجدت أنظمة الري حول الموارد المائية - والأنهار خاصة - منذ سكن الإنسان هذه المناطق) إلا أن التاريخ ودراسة الحضارة الإسلامية يؤكدان لنا أن قَدَمَ السَّبْقِ كان للمسلمين في اختراع العديد من الوسائل والطرق المختلفة للإمداد بالمياه، وقد ظهر ذلك جليًا في العديد من حواضر العالم الإسلامي لا سيَّما بغداد والكوفة، وغيرهما من المدن التي انتشرت من حولها الأنهار. بل إن بعض المصادر التاريخية تذكر أن نظم الري قد بلغت ذروة تطورها في الأراضي الشرقية للخلافة الإسلامية في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين (الرابع والخامس الهجريين)، وظهر وسط العراق واحد من أهم هذه الأنظمة، حيث سجل التاريخ تحولات رئيسية لمجرى كل من "دجلة" و"الفرات"، بالإضافة إلى تغييرات في منطقة المستنقعات والبحيرات الضحلة الواقعة شمالي غرب البصرة. وبالرغم من وضوح الاهتمام الكبير الذي أولتْهُ الهندسة الإسلامية لنظم الري وإمداد المياه؛ نظرًا لضرورات الزراعة والعمران المتجددة، والتي صاحبت النمو الكَمِّي والكيفي المُطَّرِد للمجتمع الإسلامي.. إلا أن إمداد المياه لأغراض غير زراعية كان أيضًا من القسمات المهمة للحياة الإسلامية؛ فإتاحة المياه لم تكن أمرًا مُسَلَّمًا به في مناطق عديدة من العالم الإسلامي، مقارنةً بوفرتها في مناطق المناخ الممطر.. إلى جانب ما كان للمسلمين من إحساس خاص (نابع من دينهم) بإلحاح الحاجة إلى الماء النظيف.. فضلاً عن الاحتياج الإنساني الفطري للماء العذب الذي تُعَدُّ مصادره ثروة لا تُقَدَّر بثمن في أي مجتمع. ولم تقتصر تطبيقات هندسة الإمداد بالمياه في الحضارة الإسلامية على جانب الاحتياجات الأساسية الملحَّة.. فقد برع مهندسو المياه المسلمون في توظيف الماء لخدمة مجالات حضارية غير الري والشرب.. لم يكن أغلبها معروفًا قبل الحضارة الإسلامية.. ومن أهم هذه المجالات: الحمامات العامة التي عرفتها المدن الإسلامية بكثافة استرعت انتباه الرحالة والتجار الغربيين الذين ما كانوا يألفون مثل ذلك الاحتفال بالنظافة في بلادهم!!.. بينما كانت أعداد الحمامات في الحواضر الإسلامية (التي كان سكانها يتقرَّبون إلى الله بالطهارة) تزيد أحيانًا على عشرة آلافٍ في المدينة الواحدة!!..وكانت الحمامات تُصَمَّم هندسيًّا بحيث تتيح للمستحم أن ينتقل تدريجيًّا من الجو الحار إلى الجو البارد حتى لا يصاب بأذى، وكان الحمَّام يُسَخَّن عن طريق إيقاد نار تحت أرضيته، كما كان يشتمل على أنابيب للماء الساخن والبارد داخل جدرانه!! وإذا كانت الحمَّامات منتشرة لغرض الطهارة المهم دينيًّا وفطريًّا فإن هذا لا يجعلنا ننسى الاستخدامات الجمالية لهندسة المياه (أو الهندسة الهيدروليكية).. فقد عرفت المنشآت المعماريَّة الإسلامية وجود النافورات المائية الجميلة وانتشارها بكثرة في أفنية القصور والمساجد الكبرى؛ لتضفي على المكان جمالاً وبهجة، إلى جانب استخدام بعضها (في المساجد خاصَّةً) لأغراض الوضوء.. كما كانت الهندسة الهيدروليكية تضع بصماتها في الجانب الشكلي والجمالي للحدائق والبساتين؛ فكان يُراعَى شقُّ الجداول والنهيرات الصغيرة.. لا لإنجاز مهمَّة الري وحسب.. بل لتُبهِج النفوس بجمال تدفُّقها.. في مشهد تربَّى الذوق الجمالي الإسلامي على التعلق به من تكرار الوصف القرآني لنعيم (جناتٍ تجري من تحتها الأنهار!). لا عجب – إذًا – وقد رأينا من تطبيقات الهندسة الهيدروليكية ما سبق.. أن نجد عند الجغرافيين المسلمين (في وصفهم لأي مدينة) اهتمامًا خاصًا ببيان مصادر إمداد المياه للسكان في هذه المدينة.. سواء أكانت ينابيع أو آبارًا أو أنهارًا.. وهنا يتبدى جهد المهندسين المسلمين في الاجتهاد لإمداد المدن بالمياه؛ حيث كانوا يحرصون على التوفيق بين شتى المصالح؛ حتى يتمكنوا من توصيل المياه لكل السكان...ها هي الحضارة الإسلامية – وكما عوَّدتنا في شتَّى المجالات – لم تدع فرعًا من العلوم إلا وأحسنت الإبداع في سبيل تطويره.. وقد وقفنا في هذه الرحلة الموجزة على أن علم الهندسة لم يتخلَّف في هذا السياق عن غيره من العلوم؛ فقد تناوله عباقرة المسلمين تناولهم الفذ الذي يبرع – كما رأينا – في الجمع بين متطلبات الضرورة وجمال الأداء.. هذا الجمع الذي طبع الحضارة الإسلامية عبر مسيرتها الخالدة بطابعها الإنساني الجميل. ولا بدَّ أن هذا السبق الحضاري الإسلامي (في ميدان الهندسة الذي نحن بصدده) لم ينشَأ من تلقاء نفسه.. بل دفعه إلى تلك الآفاق علماء أفذاذ.. نسأل الله أن يعيننا – في مقال قادم – على استشراف بعض معالم عظمتهم ...