ما اشبه اليوم بالبارحة" حالة الأمة الإسلامية وقت ظهور التتار " قصة التتار عجيبة حقًّا، عجيبة بكل المقاييس، ولولا أنها موثقة في كل المصادر، وبصورة تكاد تكون متطابقة في كثير من الأحيان لقلنا إنها خيال، أو أغرب من الخيال. القصة عجيبة لأن التغيير فيها من ضعف إلى قوة، أو من قوة إلى ضعف لم يأخذ إلا وقتًا يسيرًا جدًّا، فما هي إلا أعوام قليلة جدًّا حتى يعز الله دولة ويذل أخرى، ثم تمر أعوام أخرى قليلة فيذل الله U الأولى ويعز الأخرى!! {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]. والقصة عجيبة أيضًا للمبالغة الشديدة في الأحداث؛ المبالغة في الأرقام في كل حدث، المبالغة في أعداد القتلى، وفي أعداد الجيوش، وفي أعداد المدن المنهارة، وفي مساحات البلاد المحتلة، وفي أعداد الخيانات وأسلوبها. كما أن القصة عجيبة لشدة التطابق بينها وبين واقعنا الآن. وقد أراد الله تعالى أن يوضح لنا حقيقة ثبات السنن, وتكرار التاريخ, فجعل الأحداث التي تمر بها أمتنا في وقتنا هذا تكاد تكون متطابقة مع الأحداث التي جرت على سطح الأرض في القرن السابع الهجري, ولو بحثنا في التاريخ فسنجد تطابقًا مع أحداث أخرى كثيرة. ظهرت قوة التتار في أوائل القرن السابع الهجري، وحتى نفهم الظروف التي نشأت فيها هذه القوة لا بد من إلقاء نظرة على واقع الأرض في ذلك الزمان، وسنجد أن القوى الموجودة كانت متمثلة في فئتين رئيسيتين: عند تحليل كل قوة من المسلمين وقوة التتار نجد أن مساحة أمة الإسلام في ذلك الوقت تقترب من نصف مساحة الدنيا، فحدود البلاد الإسلامية كانت تبدأ من غرب الصين، وتمتد عبر آسيا وأفريقيا لتصل إلى غرب أوروبا وبلاد الأندلس، فقد كانت مساحتها شاسعة للغاية، ولكن للأسف الشديد كان وضع العالم الإسلامي في ذلك الوقت مؤسفاً جداً، فمع المساحات الواسعة من الأرض، والأعداد الهائلة من البشر، والإمكانيات العظيمة جداً من المال والمواد والسلاح والعلوم إلا أن الفرقة كانت شديدة جداً في العالم الإسلامي، والحالة السياسية لمعظم الأقطار الإسلامية متدهورة تدهوراً كبيراً، والغريب أن هذا الوضع المؤسف كان بعد سنوات قليلة من أواخر القرن السادس الهجري ما بين (20) إلى (30) سنة حيث كانت أمة الإسلام قوية ومنتصرة ومتوحدة ورائدة، ولكن سنة الله الماضية، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]. وقد كان العالم الإسلامي في ذلك الوقت عبارة عن كيانات متفرقة: الكيان الأول ــــــــــــــــــــــ: كان كياناً كبيراً جداً، ولكنه للأسف الشديد كان ضعيفاً جداً في أوائل القرن السابع الهجري، وهذا الكيان هو الخلافة العباسية. والخلافة العباسية خلافة قديمة جداً، فقد نشأت بعد سقوط الدولة الأموية سنة (132هـ)، أي: أن عمرها إلى أوائل القرن السابع الهجري (500) سنة تقريباً، وكانت تتخذ من بغداد عاصمة لها، ثم ضعفت الخلافة العباسية جداً في أوائل القرن السابع الهجري، حتى أصبحت لا تسيطر حقيقة إلا على وسط العراق وجنوبه، وكان حول العراق عشرات الإمارات المستقلة استقلالاً حقيقياً عن دولة الخلافة، وإن كانت لا تعلن نفسها كخلافة منافسة للخلافة العباسية، وكانت الخلافة العباسية في ذلك الزمن مجرد صورة خلافة، وليست خلافة حقيقية. ولكي نفهم معنى خلافة عباسية في ذلك الوقت، فلننظر إلى واقع بريطانيا الآن، فالإنجليز الآن يبقون على ملكتهم كرمز تاريخي فقط، وإلا فهي ليس لها دور يذكر في الحكم، وكذلك أبقى المسلمون في ذلك الزمن على الخليفة العباسي كرمز للمسلمين، وللخلافة العباسية العريقة التي حكمت العالم الإسلامي (500) عام، مع أن الخليفة العباسي كان يحكم وسط وجنوب العراق فقط. وكان يتعاقب على الخلافة العباسية في العراق خلفاء من بني العباس حملوا هذا الاسم العظيم الجليل: (الخليفة)، ولكنهم في هذه الفترة ما اتصفوا أبداً بهذا الاسم، ولا حتى رغبوا في الاتصاف به، إذ لم يكن همهم إلا جمع المال وتوطيد أركان السلطان في هذه الرقعة المحدودة جداً من الأرض، ولم ينظروا نظرة صحيحة أبداً إلى وظيفتهم كحكام، ولم يدركوا أن من مسئولية الحاكم أن يوفر الأمان لدولته، ويقوي جيشها، ويرفع مستوى المعيشة لأفراد شعبه، ويحكم في المظالم، ويرد الحقوق لأصحابها، ويجير المظلومين، ويعاقب الظالمين، ويقيم حكم الله عز وجل في العباد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدافع عن كل ما يتعلق بالإسلام، ويوحد الصفوف والقلوب، فهم لم يدركوا أبداً هذه المهام الجليلة للحاكم المسلم، وكان كل ما يريدونه هو الاستمرار أطول فترة ممكنة في الحكم، ثم توريثه لأبنائهم، وتمكين أفراد عائلتهم من رقاب الناس، وكذلك كانوا يحرصون على جمع الأموال الكثيرة، والتحف النادرة، وإقامة الحفلات الساهرة، وسماع الأغاني والموسيقى واللهو والطرب، فحياة الحكام في هذه الفترة كانت حياة لا تصلح أن تكون حياة لفرد من عوام أمة الإسلام، فضلاً عن أن تكون حياة حاكم لأمة الإسلام، فقد ضاعت هيبة الخلافة، وتضاءلت طموحات الخليفة. هذه هي حالة الخلافة العباسية في أوائل القرن السابع الهجري، كانت تحكم نصف العراق أو ثلثه تقريباً. الكيان الثاني من العالم الإسلامي ــــــــــــــــــــــــــــ: كان متمثلاً في مصر والشام والحجاز واليمن، وقد كانت هذه الأقاليم في أوائل القرن السابع الهجري في أيدي الأيوبيين أحفاد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ولكن للأسف الشديد هؤلاء الحكام الذين حكموا هذه الأقاليم، لم يكونوا أبداً على شاكلة هذا الرجل العظيم رحمه الله، بل تنازعوا الحكم، وقسموا الدولة الأيوبية الموحدة -التي هزمت الصليبيين في حطين هزيمة منكرة وفتحت بيت المقدس- إلى ممالك صغيرة متناحرة، فقد استقلت الشام عن مصر، وكذلك اليمن والحجاز، بل وانقسمت الشام إلى إمارات متعددة متحاربة، فقد انفصلت حمص عن حلب ودمشق، وفلسطين عن الأردن، ثم ما لبثت الأراضي التي حررها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله من أيدي الصليبيين بعد جهد جهيد ودماء كثيرة أن تقع من جديد في أيدي الصليبيين، بعد هذه الفرقة الشنيعة بين المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الكيان الثالث ـــــــــــــــــ : بلاد المغرب والأندلس، وقد كانت هذه البلاد في تلك الآونة تحت إمرة دولة الموحدين، وكانت هذه الدولة فيما سبق دولة قوية جداً، ومترامية الأطراف، فقد كانت تحكم من ليبيا شرقاً إلى المغرب غرباً، ومن الأندلس شمالاً إلى وسط إفريقيا جنوباً، ثم في أوائل القرن السابع الهجري بدأت في الاحتضار، وبالذات بعد موقعة العقاب الشهيرة في سنة (609هـ)، فقد كانت هذه الموقعة بمثابة الضربة القاضية لدولة الموحدين، فقد سقطت وانهارت هذه الدولة العملاقة بعدها. الكيان الرابع ـــــــــــــــــــ: كان عبارة عن دولة أخرى كبيرة وضخمة جداً، وكانت تسيطر تقريباً على كل شرق العالم الإسلامي، وهي دولة خوارزم، وكانت الدولة الخوارزمية دولة مترامية الأطراف، وتضم معظم البلاد في قارة آسيا، وكانت حدودها تمتد من غرب الصين شرقاً إلى أجزاء كبيرة من إيران غرباً، وكانت على خلاف طويل وعقيم مع الخلافة العباسية، وبينهما مكائد ومؤامرات متعددة، وكثرت فيها الفتن والانقلابات، وخاضت حروباً كثيرة جداً مع الخلافة العباسية والسلاجقة والغوريين والأتراك.. وغيرهم من المسلمين، فالدولة الخوارزمية قامت على مشاكل كثيرة جداً، ليس بينها وبين الدول المحيطة بها فقط، ولكن أيضاً في داخلها. الكيان الخامس ـــــــــــــــــــــــــــ من دول العالم الإسلامي في ذلك الوقت الهند وكانت الهند دولة إسلامية قديمة، وهي الآن تحت حكم الهندوس، وحكمت بالإسلام قروناً طويلة جداً، وكانت في ذلك الوقت تحت سلطان الغوريين، وكما ذكرنا منذ قليل كانت الحروب بينهم وبين دولة خوارزم كثيرة جداً ومتكررة، فكانت هذه المنطقة منطقة قلاقل حقيقية. الكيان السادس ـــــــــــــــــــ: كان يقطن منطقة شاسعة جداً في وسط آسيا في الجزء الغربي من منطقة فارس، وهي إيران الآن، الملاصق للخلافة العباسية وكانت لا تخضع لحكم الدولة العباسية الكيان السابع ـــــــــــــ: كان متمركزاً في منطقة الأناضول، التي هي تركيا الآن، وهذه المنطقة كان يحكمها السلاجقة، وكانت أصولهم ترجع إلى الأتراك، وكان لهم في السابق تاريخ عظيم جداً وجهاد كبير، وبالذات في أيام القائد المسلم الفذ ألب أرسلان رحمه الله، ولكن أحفاده الذين حكموا بعده هذه المنطقة الحساسة والخطيرة جداً، والملاصقة للإمبراطورية البيزنطية، كانوا على درجة شنيعة من الضعف، أدت بهم إلى مواقف مؤسفة جداً من الذلة والهوان. هذه أعداد الدول التي كانت موجودة في ذلك الوقت، وإن كان العالم الإسلامي يدخل اسماً تحت حكم الخلافة العباسية. ونلاحظ أن هذه الفترة انتشرت فيها الفتن والمؤامرات، وتعددت فيها الحروب بين المسلمين، وكثرت فيها المعاصي والذنوب، وعم الترف والركون إلى الدنيا، وقد علم يقيناً أن من كان هذا حاله فلا بد من استبداله، وأصبح العالم الإسلامي ينتظر كارثة تقضي على كل هؤلاء الضعفاء في كل هذه الأقطار، حتى يأتي بعد ذلك جيل من المسلمين يغير الوضع بإذن الله، ويعيد للإسلام هيبته، وللخلافة قوتها ومجدها.هذه القوة الأولى في الأرض في ذلك الزمن، قوة أمة الإسلام، فقد كانت قوة لها تاريخ طويل، ولكنها للأسف كانت مفككة ومشتتة. ولكي نجري مقارنة بسيطة بين تلك الفترة والان لانجد فرقا ابدا حيث ان الدول الاسلامية مجزاة فيما بينها وكثرت فيها الفتن والخلافات