طليحة الأسدي - د. صالح العطوان الحيالي
-------------------------------------------
طليحة الأسدي " الكاهن ثم المبايع ثم المرتد ومدعي النبوة والتائب والمجاهد". طليحة بن خويلد بن نوفل الأسدي من قادة حروب الردة بعد وفاة النبي محمد (ص) سنة 11 هـ (632م) ،ادّعى النبوة في قومه بني أسد وتبعه بعض طيء وغطفان في أرض نجد ،إلا أنه هزم مع أتباعه على يد خالد بن الوليد في معركة بزاخة ودخل الإسلام على إثر ذلك. شارك طليحة في الفتوحات الإسلامية واستشهد في معركة نهاوند سنة 21 هـ - 642 م. نسبه طُلَيْحَة بن خُوَيْلد بن نَوْفَل بن نَضْلَةَ بن الأَشْتَر بن حَجْوان بن فَقْعَس بن طَريف بن عَمْرو بن قُعَين بن الحارث بن دُودَان بن أَسد بن خُزَيمة بن مدركة بن إِلياس بن مُضر، الأَسَدي الفَقْعَسِي إسلامه كان ممن شهد غزوة الخندق في صفوف المشركين ،أسلم سنة 9 هـ ،روى ابْنُ سَعْدٍ، من طرقٍ، عن ابن الكلبيّ وغيره أنّ وَفْدَ بني أسد قدموا على رسول الله فيهم حضرمي بن عامر، وضِرَار بن الأزور، ووابِصَة بن معبد، وقتادة بن القائف، وسلمة بن حُبيش، وطليحة بن خويلد، ونُقادة بن عبد الله بن خلف، فقال حَضْرمي بن عامر: أتيناك نتدرّع الليلَ البهيم في سنة شَهْبَاء، ولم تبعث إلينا بعثًا، فنزلت: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواسورة الحجرات:17 ارتداده وإدعاءه النبوة لما رجع وفد بني أسد تنبأَ طُلَيحة في حياة النبي بنجد ،فأَرسل إِليه النبي ضِرَار بن الأزور الأَسدي ليقاتله فيمن أَطاعه، ثم توفي رسول الله ،فعظُم أَمر طليحة، وأَطاعه الحليفان أَسَد وغَطَفَان، وكان يزعم أَنه يأْتيه جبريل عليه السلام بالوحي، فأَرسل إِليه أبو بكر خالد بن الوليد، فقاتله بنواحي سَمِيراء وبُزَاخَة ، وكان خالد قد أَرسل ثابت بن أَقْرَم وعُكَّاشة بن مِحْصَن، فقتل طليحةُ أَحدَهما، وقتل أَخوه الآخر، وكان معه عيينة بن حصن، فلما كان وقت القتال أَتاهُ عُييْنَة بن حصن، فقال: «هل أَتاك جبريل؟ فقال: لا، فأَعاد إِليه مرتين، كل ذلك يقول: لا، فقال عيينة: لقد تركك أَحْوَجَ ما كنت إِليه! فقال طليحة: قاتلوا عن أَحسابكم، فأَما دين فلا دين » ،ثم انهزم على يد جيش خالد بن الوليد في معركة بزاخة، وتفرق جنده فهرب ولحق بآل جفنة "الغساسنة" بالشام. من أقواله أثناء إدعائه النبوة قد قال خالد بن الوليد لبعض أصحاب طليحة ممن أسلم وحسن إسلامه : أخبرنا عما كان يقول لكم طليحة من الوحي . فقال : إنه كان يقول : «والحمام واليمام ، والصرد الصوام ، قد صمن قبلكم بأعوام ، ليبلغن ملكنا العراق والشام.» إلى غير ذلك من الأقوال العجيبة . عودته للإسلام عاد طليحة بعد ذلك وأسلم وحسن إسلامه، ثم اتجه إلى مكة يريد العمرة في عهد أبي بكر الصديق واستحيا أن يواجهه مدة حياته،ثم خرج مرة آخري مُحْرِمًا في خلافة عمر بن الخطاب، فقال له عمر: أَنت قاتل الرجلين الصالحين، يعني ثابت بن أقرم وعكاشة؟ فقال طليحة :أَكرمهما الله بيدي، فقال: والله لا أُحبك أبدًا. قال: فمعاشرة جميلة يا أمير المؤمنين ،فإن النّاس يتعاشرون مع البَغْضاء ،وأَسلم طليحة إِسلامًا صحيحًا. شخصية جمعت من المتناقضات ما لم تجمعه شخصية إسلامية من قبل ولم يعرفه تاريخنا الإسلامي من قبل .. فهو الكاهن ثم المبايع ثم المرتد .. ومدعي النبوة الذي أوقف جزءا من حياته معارضا صاحب الرسالة الهادية صل الله عليه وسلم والمسلمين العداء السافر .. حتي وصل الذروة في عهد الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله تعالي عنه .. وهو أيضا الخطيب المفوه والشاعر الفارس .. والتائب والمجاهد في سبيل الله .. الذي أبي الترجل عن صهوة جواده حتي لقي الله تعالي شهيدا .... سار بجانب القوات الفارسية بعيدًا عنها يخوض في مستنقعات غير عميقة المياه .. ويتخير الأماكن التي لا يستطيع الجيش الفارسي أن يعسكر فيها .. وظل يمشي حتى تجاوز المقدمة كلها (الأربعين ألف مقاتلٍ) .. ووصل إلى المعسكر الذي يقيم فيه رستم قائد جيوش الفرس وهو قلب الجيش .. ثم تجاوز قلب الجيش بأكمله .. وخيمةُ رستم موجودة في آخر قلب الجيش .. وهي الخيمة الوحيدة البيضاء في المعسكر وبخارجها فرس مربوط لم يُرَ مثلُه قَطُّ في الجيش الفارسي .. فأدرك أن هذه خيمة رستم .. وأن هذا فرس رستم .. فانتظر في مكانه حتى الليل .. وعندما جَنَّ الليلُ ذهب إلى الخيمة .. فماذا فعل ؟ ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال .. هناك السؤال الأهم .. وهو من هذا الشخص الشجاع الذي دخل بمفرده وسط جيوش الأعداء ووصل إلي خيمة قائد جيوشهم ؟ لا تستعجبوا ولا تندهشوا إذا علمتم أن هذا الشخص ارتد عن الإسلام .. والأكثر من ذلك ادعي النبوة .. وحارب المسلمين وقتل منهم صحابة من صحابة رسول الله صل الله عليه وسلم الأجلاء .. هذا الشخص هو طليحة بن خويلد الأسدي .. فمن هو ؟ ومتي أسلم ؟ وكيف ارتد عن الإسلام ؟ وكيف ادعي النبوة ؟ وما موقف رسول الله صل الله عليه وسلم منه ؟ وما موقف الصحابة كذلك منه ؟ وماذا فعلوا معه ؟ وكيف عاد للإسلام مرة أخري ؟ وكيف استقبله صحابة رسول الله صل الله عليه وسلم ؟ وماذا قال له أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما لقيه ؟ وبماذا رد عليه ؟ ثم .. وماذا فعل ليكفر عما فعله في حق الإسلام والمسلمين ؟ هو طليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلة الفقعسي الأسدي .. من بني دودان بن أسد بن خزيمة .. كان مع المشركين في حرب الأحزاب .. وبعد معركة أحُد جمع هو وأخوه سلمة أنصاراً ليغزوا المدينة .. كما روى الواقدي وابن عساكر : قالوا نسير إلى محمد في عقر داره .. ونصيب من أطرافه .. فإن لهم سرحاً يرعى بجوانب المدينة .. ونخرج على متون الخيل فقد أربعنا خيلنا .. ونخرج على النجائب المجنونة .. فإن أصبنا نهباً لم نُدْرَك .. وإن لاقينا جمعهم كنا قد أخذنا للحرب عدتها .. معنا خيل ولاخيل معهم .. ومعنا نجائب - أمثال الخيل - .. والقوم منهزمون قد وقعت بهم قريش حديثاً .. فقام رجل منهم يقال له قيس بن الحارث بن عمير فقال : - يا قوم والله ما هذا برأي .. ما لنا قبلهم وتر .. وما هم نُهبةٌ لمنتهب .. إن دارنا لبعيدة من يثرب .. وما لنا جمع كجمع قريش .. مكثت قريش دهراً تسير في العرب تستنصرها ولهم وترٌ يطلبونه .. ثم ساروا حتى قد امتطوا الإبل وقادوا الخيل .. وحملوا السلاح .. مع العدد الكبير ثلاثة آلاف مقاتل سوى آبائهم .. وإنما جهدكم أن تخرجوا في ثلاث مائة رجل إن كملوا .. فتغررون بأنفسكم وتخرجون من بلدكم .. ولا آمن أن تكون الدائرة عليكم - فكاد ذلك أن يشككهم في المسير.. ومن جهة رسول الله صل الله عليه وسلم وكان ذلك في هلال المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً من الهجرة .. حيث دعا رسول الله صل الله عليه وسلم أبا سلمة وقال له : أخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها .. وعقد له لواء وقال له : سِرْ حتى ترد أرض بني أسد .. فأغر عليهم قبل أن تلاقى عليك جموعهم .. وأوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً .. فخرج في أصحابه وخرج معهم الطائي وسار بهم دليلاً ليلاً ونهاراً .. فسبقا الأخبار .. وانتهوا إلى أدنى قطن ماء من مياه بني أسد .. هو الذي كان عليه جمعهم فيجدون سرحاً .. فأغاروا على سرحهم فضموه .. وأخذوا رعاء – رعاة الغنم والماشية - لهم مماليك ثلاثة .. وأفلت سائرهم .. فجاءوا جمعهم وخبروهم بما حدث وحذروهم جمع أبي سلمة .. وكبروه عندهم .. فتفرق الجمع في كل وجه .. وورد أبو سلمة الماء فوجد الجمع قد تفرق .. فعسكر وفرق أصحابه في طلب النعم والشاء – الإبل والبقر - .. فجعلهم ثلاث فرق : فرقة أقامت معه وفرقتان أغارتا في ناحيتين شتى .. وأوعز إليهما أن لا يمعنوا في الطلب .. وأن لا يبيتوا إلا عنده إن سلموا .. وأمرهم أن لا يفترقوا .. واستعمل على كل فرقة عاملاً منهم .. فأتوا إليه جميعاً سالمين .. قد أصابوا إبلاً وشاءً ولم يلقوا أحداً .. فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة راجعاً .. و لم يعتبر طليحة بحملة أبي سلمة .. وعندما انتصر النبي صل الله عليه وسلم على قريش واليهود .. أخذت وفود العرب تأتيه فجاءه وفد بني أسد .. وفيهم طليحة .. ففي تاريخ دمشق : «قدم عشرة رهط من بني أسد بن خزيمة على رسول الله صل الله عليه وسلم في أول سنة تسع .. فيهم حضرمي من بني عامر وضرار بن الأزور ووابصة بن معبد وقتادة بن القائف وسلمة بن حبش وطليحة بن خويلد ونقادة بن عبد الله بن خلف .. فقال حضرمي بن عامر: أتيناك نتدرع الليل البهيم في سنة شهباء لم تبعث إلينا بعثاً .." فنزل فيهم قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الآيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاتَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " .. بعد أن أسلموا وعادوا إلي ديارهم وصلهم نبأ مرض رسول الله صل الله عليه وسلم .. ثم بلغهم أن مسيلمة قد غلب على اليمامة .. وأن الأسود قد غلب على اليمن .. ولم يلبث إلا قليلاً حتى ارتد طليحة وادعى النبوة وعسكر بسميراء .. واتبعه العَوَام وانتشر أمره .. ثم أرسل حِبَال ابن أخيه إلى النبي صل الله عليه وسلم يدعوه إلى الموادعة ويخبره خبره .. و يطلب منه عقد صلح معه .. ليكون ذلك اعترافاً به من النبي صل الله عليه وسلم .. وقال حِبَال إن الذي يأتيه ذو النون .. فقال : لقد سمى ملكاً .. فقال حِبَال: أنا ابن خويلد .. فقال النبي صل الله عليه وسلم قتلك الله وحرمك الشهادة .. فقاد حبال في الردة الهجوم على المدينة وقتل .. ووجه إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرار بن الأزور عاملا على بني أسد .. وأمرهم بالقيام على من ارتد .. فضعف أمر طليحة حتى لم يبق إلا أخذه .. فضربه بسيف .. فلم يصنع فيه شيئا .. فاستغل هذه الواقعة وظهر بين الناس أن السلاح لا يعمل فيه .. فكثر جمعه .. ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم على ذلك .. وكان طليحة يقول : إن جبرائيل يأتيني .. وسجع للناس الأكاذيب .. وكان يأمرهم بترك السجود في الصلاة ويقول : إن الله لا يصنع بتعفر وجوهكم وتقبح أدباركم شيئا .. اذكروا الله أعفة قياما .. إلى غير ذلك .. وتبعه كثير من العرب عصبية .. ولهذا كان أكثر أتباعه من أسد وغطفان وطيئ .. فسارت فزارة وغطفان إلى جنوب طيبة .. وأقامت طيئ على حدود أراضيهم وأسد بسميراء .. واجتمعت عبس وثعلبة بن سعد ومرة بالأبرق من الربذة .. واجتمع إليهم ناس من بني كنانة .. فلم تحملهم البلاد فافترقوا إلي فرقتين .. أقامت فرقة بالأبرق .. وسارت فرقة إلى ذي القصة .. وأمدهم طليحة بأخيه حبال ، فكان عليهم وعلى من معهم من الدئل وليث ومدلج – ثعلب وأسد وقنفذ - وأرسلوا إلى المدينة يبذلون الصلاة ويمنعون الزكاة .. فقال الخليفة أبو بكرالصديق رضي الله عنه : والله لو منعوني عقال بعير لجاهدتهم عليه .. وكان عقل الصدقة على أهل الصدقة وردهم .. فرجع وفدهم وأخبروهم بقلة من في المدينة وأطمعوهم فيها .. وجعل أبو بكر بعد مسيرة الوفد على أنقاب المدينة عليا وطلحة والزبير وابن مسعود .. وألزم أهل المدينة بحضور المسجد خوف الغارة من العدو لقربهم .. فما لبثوا إلا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل .. وخلفوا بعضهم بذي حسى - مكان - ليكونوا لهم حماية .. ومنعوهم بالفعل .. وأرسلوا إلى أبي بكر رضي الله عنه بالخبر .. فخرج إلى أهل المسجد للدفاع .. فردوا العدو واتبعوهم حتى بلغوا ذا حسى .. فخرج عليهم الردء - المعين والناصر - بأنحاء قد نفخوها وفيها الحبال .. ثم دهدهوها - دحرجوها - على الأرض .. فنفرت إبل المسلمين وهم عليها .. ورجعت بهم إلى المدينة .. ولم يصرع مسلم .. وظن الكفار بالمسلمين الوهن .. وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر .. فقدموا عليها .. وبات أبو بكر رضي الله عنه يجمع الناس .. وخرج يمشي وعلى ميمنته النعمان بن مقرن .. وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن وعلى أهل الساقة سويد بن مقرن .. فما طلع الفجر إلا وهم والعدو على صعيد واحد .. فما شعروا بالمسلمين حتى وضعوا فيهم السيوف .. وهزموهم وولوا الأدبار .. وغلبوهم على عامة ظهرهم .. وتبعهم أبو بكررضي الله عنه حتى نزل بذي القصة .. وكان أول الفتح .. ووضع بها النعمان بن مقرن في عدد .. ورجع إلى المدينة .. فذل له المشركون .. ووثب بنو عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم .. فحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة .. وازداد المسلمون قوة وثباتا .. ثم خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه فيمن كان معه .. فناشده المسلمون ليقيم .. فأبى وقال : لأواسينكم بنفسي .. وسار إلى ذي حسى وذي القصة حتى نزل بالأبرق .. فقاتل من به .. وهزم الله المشركين وأخذ الحطيئة أسيرا .. فطارت عبس وبنو بكر .. وأقام أبو بكر رضي الله عنه بالأبرق أياما .. وغلب على بني ذبيان وبلادهم .. وحماها لدواب المسلمين وصدقاتهم .. ولما انهزمت عبس وذبيان رجعوا إلى طليحة وهو ببزاخة .. التي رحل إليها وأقام بها .. ثم أرسل إلى جديلة والغوث من طيئ يأمرهم باللحاق به .. فتعجل إليه بعضهم .. وأمروا قومهم باللحاق بهم .. فقدموا على طليحة .. وعاد أبو بكر إلى المدينة .. وعقد الألوية .. فعقد أحد عشر لواء .. وعقد لواءا لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد .. وكان أبو بكر رضي الله عنه قد بعث بعدي بن حاتم قبل خالد إلى طيئ .. وأتبعه خالدا .. وأمره أن يبدأ بطيئ .. ومنهم يسير إلى بزاخة .. ثم يثلث بالبطاح .. ولا يبرح إذا فرغ من قوم حتى يأذن له .. وأظهر أبو بكر للناس أنه خارج إلى خيبر بجيش حتى يلاقي خالدا .. يرهب العدو بذلك .. وقدم عدي على طيئ فدعاهم وخوفهم .. فأجابوه وقالوا له : استقبل الجيش فأخره عنا حتى نستخرج من عند طليحة منا .. لئلا يقتلهم .. فاستقبل عدي خالدا وأخبره بالخبر .. فتأخر خالد .. وأرسلت طيئ إلى إخوانهم عند طليحة فلحقوا بهم .. فعادت طيئ إلى خالد بإسلامهم .. ولحق بالمسلمين ألف راكب منهم .. وكان خير مولود في أرض طيئ وأعظمه بركة عليهم .. وأرسل خالد بن الوليد عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم الأنصاري طليعة .. فلقيهما حبال أخو طليحة فقتلاه .. فبلغ خبره طليحة .. فخرج هو وأخوه سلمة .. فقتل طليحة عكاشة .. وقتل أخوه ثابتا ورجعا .. وأقبل خالد بالناس .. فرأوا عكاشة وثابتا قتيلين .. فجزع لذلك المسلمون .. وانصرف بهم خالد نحو طيئ .. فقالت له طيئ : نحن نكفيك قيسا .. فإن بني أسد حلفاؤنا .. فقال : أي الطائفتين شئتم .. فقال عدي بن حاتم : لو نزل هذا على الذين هم أسرتي الأدنى فالأدنى لجاهدتهم عليه .. والله لا أمتنع عن جهاد بني أسد لحلفهم .. فقال له خالد : إن جهاد الفريقين جهاد .. لا تخالف رأي أصحابك .. وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط .. ثم تعبى لقتالهم .. ثم سار حتى التقيا على بزاخة .. وبنو عامر قريبا يتربصون على من تكون الدائرة .. قال : فاقتتل الناس على بزاخة .. وكان عيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة .. فقاتلوا قتالا شديدا .. وطليحة متلفف في كسائه يتنبأ لهم .. فلما اشتدت الحرب كر عيينة على طليحة وقال له : هل جاءك جبرائيل بعد ؟ قال : لا .. ارجع فقاتل .. ثم كر على طليحة فقال له : لا أبا لك .. أجاءك جبرائيل ؟ قال : لا .. فقال عيينة : حتى متى ؟ قد والله بلغ منا .. ثم رجع فقاتل قتالا شديدا ثم كر على طليحة فقال : هل جاءك جبرائيل ؟ قال : نعم .. قال : فماذا قال لك ؟ قال : قال لي : إن لك رحا كرحاه .. وحديثا لا تنساه .. فقال عيينة : قد علم الله أنه سيكون حديثا لا تنساه .. انصرفوا يا بني فزارة فإنه كذاب .. فانصرفوا وانهزم الناس .. وكان طليحة قد أعد فرسه وراحلته لامرأته النوار .. فلما غشوه ركب فرسه وحمل امرأته .. ثم نجا بها وقال : يا معشر فزارة .. من استطاع أن يفعل هكذا وينجو بامرأته فليفعل .. وهكذا قرر الإنسحاب والفرار من المعركة بعد هزيمته فلحق بالشام .. و نزل على كلب .. ثم ندم وتاب وأخذ يعمل ليقبله الخليفة والمسلمون بعد أن أسلم مرة أخري حين بلغه أن أسدا وغطفان قد أسلموا .. ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر رضي الله عنه .. وبعد أن أسلم وعاد إلي المدينة ليبايع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. والتقي به وبايعه .. فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنت قاتل عكاشة وثابت ؟ والله لا أحبك أبدا .. فقال : يا أمير المؤمنين .. ما يهمك من رجلين أكرمهما الله بيدي .. ولم يهني بأيديهما .. فأعجب عمر كلامه .. وأوصى الأمراء أن يشاور ولا يولى من الأمر شيئاً .. وكذلك كانت وصية عمر إلى سعد بن أبي وقاص في القادسية .. وقبل عمر رضي الله عنه بيعته وقال له : ما بقي من كهانتك ؟ فقال .. نفخة أو نفختان بالكير .. ثم رجع إلى قومه فأقام عندهم حتى خرج إلى العراق .. فلما كان يوم أرماث قام طليحة في بني أسد يدفعهم إلى القتال وإلى الدفاع عن الإسلام والمسلمين قائلا : ابتدئوا الشدة .. وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة .. فإنما سميتم أسداً لتفعلوا فعلة الأسد .. ثم بارز كبار الفرس وقادتهم وعلى رأسهم الجالينوس فقتل منهم وأصاب .. وفي يوم عماس كان مقداماً لا يهاب الموت .. وهاجم الفرس وحده من خلفهم ثم كبر ثلاث تكبيرات ارتاع لها الفرس .. فظنوا أن جيش الإسلام جاءهم من ورائهم .. ولهذه الواقعة قصة ففي القادسية خرج هو وعمرو بن معد يكرب و(قيس بن المكشوح) للاستطلاع فأبى ان يرجع حتى يتم المهمة .. واتهمه البعض بالغدر وعايروه بقتله عكاشة وصاحبه .. لكنه أصر أن يكمل المهمة وحده دون عون منهم .. وخاض في الماء يريد الوصول إلى معسكر رستم قائد الفرس .. و سار طليحة بن خويلد الأسدي بجانب القوات الفارسية بعيدًا عنها يخوض في مستنقعات غير عميقة المياه .. ويتخير الأماكن التي لا يستطيع الجيش الفارسي أن يعسكر فيها .. وظل يمشي حتى تجاوز المقدمة كلها (الأربعين ألف مقاتلٍ) .. ووصل إلى المعسكر الذي يقيم فيه رستم وهو قلب الجيش .. ثم تجاوز قلب الجيش بأكمله .. وخيمةُ رستم موجودة في آخر قلب الجيش .. وهي الخيمة الوحيدة البيضاء في المعسكر وبخارجها فرس مربوط لم يُرَ مثلُه قَطُّ في الجيش الفارسي .. فأدرك أن هذه خيمة رستم .. وأن هذا فرس رستم .. فانتظر في مكانه حتى الليل .. وعندما جَنَّ الليلُ ذهب طليحة بن خويلد الأسدي إلى الخيمة .. وضرب بسيفه حبال الخيمة .. فوقعت على رستم ومن معه بداخله .. ثم قطع رباط الخيل وأخذ الخيل معه وجرى .. وكان طليحة يقصد من ذلك أن يُهين أهل فارس .. ويلقي الرعب في قلوبهم .. إذ كيف تُقطَع خيمةُ رستم ويُسرقُ فرسُه وكل الجيش من حوله ؟ وفي الوقت نفسه يودُّ أن يستدرج أحد الفرس لكي يقبض عليه .. ويأخذه لسيدنا سعد بن أبي وقاص .. وبعد أن وقعت الخيمة على رأس رستم صرخ ونادى الحرس من حوله .. فشاهدوا طليحة وهو يجري ومعه خيل رستم .. فقال رستم : اطلبوا هذا الرجل .. فخرج في إثره الفرسان .. ولم يدركه إلا ثلاثة منهم .. فرماه الفارس الأول برمح فتنحَّى طليحة بن خويلد الأسدي .. فطاش الرمح وأمسك طليحة رمحه وقذفه في قلب الرجل الفارسي فقتله .. وواصل الجري نحو المعسكر المسلم .. فتابعه الاثنان المتبقيان .. فوصل إليه أحدهما .. ففعل به مثلما فعل بالأول وقتله أيضًا .. ثم هرب تجاه الجيش المسلم .. فتبعه الثالث فرماه برمحه فتنحَّى أيضًا طليحة .. فطاش الرمح ثم أمسك طليحة برمحه وهدده أن يستسلم وإما أن يقتله .. فاستسلم هذا الرجل .. وأخذه طليحة من فوق فرسه وأنزله على الأرض .. وجعله يجري أمامه والرمح خلفه في ظهره .. فشاهد أهل فارس ذلك المشهد من على بُعْدٍ .. وعلموا أن طليحة على مقربة من معسكر المسلمين .. فعاد فرسان الفُرْسِ .. وتركوا هذا الرجل لمصيره .. وعندما دخل هذا الرجل الفارسي على سعد بن أبي وقاص قال له: أمِّنِّي على دمي .. وأصدقك القول .. فقال سيدنا سعد : الأمان لك .. ونحن قوم صدق (أي : نحن قوم إذا أعطيناك الأمان فأنت آمِنٌ .. ولكن بشرط ألا تكذب علينا ) .. فخَبِّرنا عن جيشكم .. فقال له الرجل : قبل أن أخبرك عن جيشي أُخبركم عن رجلكم (يقصد طليحة) .. فقال : إن هذا الرجل ما رأينا مثله قَطُّ .. لقد دخلت حروبًا منذ نعومة أظفاري .. ولم أشاهد مثل هذا الرجل الذي تجاوز معسكرين لا يتجاوزهما جيوش (يقصد جيش الجالينوس وجيش رستم) .. ثم قطع خيمة القائد وأخذ فرسه .. وتبعه الفرسان منهم ثلاثة : قتل الأول ونعدله عندنا بألف فارس .. وقتل الثاني ونعدله بألف .. والاثنان أبناء عمي .. فتابعته وأنا في صدري الثأر للاثنين اللذين قُتِلا .. ولا أعلم أحدًا في فارس في قوتي .. فرأيتُ الموت فاستأسرت (أي طلبت الأسر) .. فإن كان مَنْ عندَكم مثله فلا هزيمة لكم .. ولكني أُنْبِئُُكَ عن جيش فارس .. فجيش فارس مائة وعشرون ألفًا من الجنود .. يتبعهم مائة وعشرون ألفًا من التُّبَّع .. على رأسهم رستم والتجهيزات كالآتي : الجالينوس على المقدمة .. والهرمزان على الميمنة .. ومهران على الميسرة .. ثم أعطاه تفاصيل الجيش فأَمَّنه سيدنا سعد بن أبي وقَّاص على دمه .. وقال له: إن شئت تَعُدْ إلى قومك .. وإن شئت تبقَ معنا .. فاختار أن يبقى معهم .. وبقي في الجيش المسلم يرى أحواله .. ويرى معاملة الأمير المسلم للجنود .. وهو قادم من فارس ويعرف كيف يعامل أهل فارس الفلاحين والجنود والأهالي .. فرأى من الصدق والأمانة .. ورأى من طاعة الجنود للأمير .. ومن حِلْمِ الأمير مع الجنود ما جعله يُسلمُ لله .. فذهب إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص .. وطلب منه أن يعلمه الإسلام فعلَّمه .. وأسلم الرجل .. فسماه سيدنا سعد "مُسْلِمًا" .. وكان من أهل البلاء في الجيش الإسلامي بعد ذلك .. وبداية من القادسية أصبح من المسلمين الذين يُوكَلُ إليهم المهمات الصعبة في الجيش الإسلامي .. فقد غيَّر الله من حياته : كان يقاتل في صَفِّ المشركين .. وكان يسعى وراء أحد المسلمين لقتله .. ولو وُفِّقَ في قتله لظلَّ كما هو في الشِّرْك .. ولكنَّ الله أراد له النجاة والإسلام وعلي يد من ؟ علي يد طليحة الأسدي .. وهكذا فقد أبلى بلاء حسناً في القادسية وقاد مشاة المسلمين في جالولاء وينسب الفضل في انتصار المسلمين في موقعة نهاوند إلى خطة الهجوم التي رسمها طليحة .. وكان عمر ابن الخطاب قد كتب إلى النعمان بن المقرن أن يستعين في حربه بطليحة وعمرو بن معدي كرب وأن يستشيرهما في الحرب .. وهناك رواية غالبة تقول إنه قُتل في هذه الوقعة في 21هـ ولكننا نجد له ذكراً سنة 24هـ فقد رُوي أنه كان واحداً من الخمسمئة رجل من المسلمين الذين عسكروا في قزوين وما يمكن أن نقوله عن هذه الشخصية أنها شخصية جمعت من المتناقضات ما لم تجمعه شخصية إسلامية من قبل ولم يعرفه تاريخنا الإسلامي من قبل .. فهو الكاهن ثم المبايع ثم المرتد .. ومدعي النبوة الذي أوقف جزءا من حياته معارضا صاحب الرسالة الهادية صل الله عليه وسلم والمسلمين العداء السافر .. حتي وصل الذروة في عهد الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله تعالي عنه .. وهو أيضا الخطيب المفوه والشاعر الفارس .. والتائب والمجاهد في سبيل الله .. الذي أبي الترجل عن صهوة جواده حتي لقي الله تعالي شهيدا .. وعلينا جميعا أن نتذكر ونعي جيدا أن باب التوبة مفتوح علي مصراعيه لكل من أراد أن يتوب لله العلي القدير التواب الرحيم مهما ارتكب من ذنوب شريطة أن تكون توبته نصوح .. ولكل عبد من عباد الله تعالي نقول إن باب التوبة لا يغلق إلا عند الغرغرة .. فمهما بعدت عن الله يمكنك الآن العودة فلا تترد قبل فوات الأوان