صلة الرحم شاطيء امان - د. صالح العطوان الحيالي
-------------------------------------------- الأرحام هم الأقارب الذين يُمثّلون الأصول والفروع، وصلة الرحم واجبة على كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ، وقطيعة الرحم تُعتبر ذنباً عظيماً، وهي معصية لله سبحانه وتعالى، ومخالفة لأوامره؛ إذ ورد في الحديث الشريف قوله عليه السلام : " من سرهُ أن يبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثرة فليصل رحمه"، فهذا دليلٌ على أنّ صلة الرحم تزيد في الرزق، وتطرح البركة في العمر، وتوجب نيل الأجر من الله تعالى. كي نكون واصلين لأرحامنا علينا أن نُحسن لأقاربنا، ونحاول إيصال الخير لهم أياً كانوا، ويجب التقرّب منهم، وتبادل الزيارات معهم، ودفع الشر عنهم، وتجنّب أذاهم خصوصاً الأم والأب، والجدود والجدات، والإخوة والأخوات، والخالات والعمات. قال عليه السلام أيضاً عن صلة الرحم : "الرحم معلّقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله". تُعدّ صلة الرحم من الواجبات الاجتماعية التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بالحفاظ عليها، وجعل أجر واصلها عظيماً عنده. وصف الله سبحانه وتعالى قاطع الرحم بصفاتٍ سلبيةٍ كثيرة؛ وذلك لأن صلة الرحم دليلٌ على إيمان الفرد، واتّباعه لسنة الرسول عليه الصلاة والسلام. صِلة الرحم لا تكون فقط بتبادل الزيارات، وطرق أبواب البيوت، وإنّما تكون باستضافة الأقارب في البيت أحسن استضافة، وتفقّد أحوالهم، والسؤال عن أخبارهم، ومهاتفتهم، ومنحهم من أموال الزكاة والصدقات، وتمييزهم عن الآخرين من الناس؛ لأنّ القريب أولى وأحق بالإحسان والصدقة من الغريب، وكذلك من الواجب احترام كبيرهم، والعطف على الصغير من الأقارب، ومعاملتهم بالرحمة والإحسان، وإعلاء شأنهم، ورفع قدرهم أمام الناس، ومشاركتهم الأفراح والأتراح، وزيارة مرضاهم، واتّباع جنازة من يتوفّى منهم، وتلبية دعواتهم في الفرح، وعدم الحقد عليهم، وإصلاح ذات بينهم، والدعاء لهم بالخير، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الحقّ والإيمان والهدى. من يَصل رحمه يصله الله تعالى، ويكون سبباً لدخول العبد الجنة، وغفران ذنوبه، ونيل أعلى الدرجات، وكذلك الرحم هو سببٌ لانتشار الحب في قلوب الأقارب، وتقوية الصلة بينهم؛ فيصبح المجتمع متواداً، ومتحاباً ومتصالحاً، وكأنه جسدٌ واحد، لا أحد فيه يكره الآخر، فيسود الأمن ويختفي الحسد والتباغض بين الأقارب؛ لأنّ صلة الرحم دليلٌ على إيمان العبد بربه، وقربه من الله تعالى، كما أنها دليلٌ على الإيمان باليوم الآخر قال سبحانه وتعالى ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ) (سورة الرعد آية 21). نتلمس من سياق الآية القبلي والبعدي أوصاف أولي الألباب المتمثلين في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل فئة مؤمنة من بعدهم، انبرت لنيل الإمامة في الدين والإصلاح، وذلك من خلال امتثالهم للأوامر والنواهي التعبدية والاجتماعية والسلوكية. من تلكم الأوصاف الرائعة الصلةُ بعمومها وشموليتها دون تفصيل، فهو غير مقصود، بل المقصود الاستقامة المطلقة التي لا انحراف فيها ولا التواء. والصلة صلات، صلة الفرد بربه صلاةً ودعاءً خوفًا ورجاءً، صومًا دومًا لا حومًا سومًا، وصلته بنبيه محبةً واقتداءً، وصلته بأمته تهممًا وجهادًا، وصلته بمجتمعه دعوةً وتعبئة، وصلته بإخوانه وقرابته الأحياء منهم والأموات محبةً وزيارةً، فلا تحبس الصلةَ برازخُ الموت، ثم صلته بنفسه مجاهدةً ومراقبة واستقامة. وأوكد هذه الصلات صلة الأرحام، واجبة على الجملة وقطيعتها كبيرة، ولا يقيدها الشرع الحكيم بدين ولا بغير ذي محرم، لذا جاءت الأحاديث النبوية تترا ترغيبا فيها وترهيبا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه” ، وعنه صلى الله عليه وسلم “الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله” . بل كان من عادة السلف الصالح أن يخرجوا قاطع الرحم من مجالس أدعيتهم مخافة أن يحول بينهم وبين استجابة الدعاء. ثم إن صلة الرحم، التي عرفها العيني رحمه الله بقوله “تشريك ذَوي الْقرَابَات فِي الْخيرَات” ، أدبٌ رفيعٌ من آداب السلوك، ولبنة أساس في بناء المجتمع الإنساني السَّوي أو بالأحرى العُمران الأَخوي، فإن “لفيفا من اللقطاء لا يسمى أمة، إذ لا جامع بين مخلوقات منفصمة الروابط. لهذا استحق اللعنة وحرمت عليه الجنة من استهان بحُرمة النسب، فطعن بذلك في ولاء القرابة، وتلصص على بر القرابة، وزوَّرَ صلات الأرحام” . حقيقة صلة الرحم نستشفها من فقه تبويب البخاري رحمه الله في صحيحه، حيث أفرد بابًا بعنوان “ليس الواصل بالمكافئ” وأورد فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها” وعند مسلم “قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ“، (الجهل هنا القبيح من القول) فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ (المل الرماد الحار أي كأنما تطعمهموه) وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ” الرحم التي توصل ثلاثة أنواع: 1- رحم عامة: وهم من تربطك بهم علاقة الإسلام وهؤلاء كما يقول الإمام القرطبي: يجب مواصلتهم بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم، والنصيحة لهم وترك مضارتهم. 2- رحم خاصة: وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه وتجب لهم من الحقوق ما للعامة، وزيادة كالنفقة، وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن أحوالهم، وتعاهدهم في أوقات ضروراتهم. 3- رحم القريب غير المسلم: فأجاز الإسلام صلتهم بالبر والإحسان إليهم وليس ذلك بمُحرّم ولا منهي عنه؛ لأن مجرد فعل المعروف معهم وصلتهم لا يستلزم المودة والتحابب المنهي عنه والدليل على ذلك قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. قال العلماء: وحقيقة الصلة العطف والرحمة، فصلة الله سبحانه وتعالى عبارة عن لطفه بهم ورحمته إياهم وعطفه بإحسانه ونعمه أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته. وقال القاضي عياض: "ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة وقطيعتها معصية كبيرة". وقال الإمام النووي: "واختلفوا في حد الرحم التي تجب صلتها فقيل: هو كل رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكراً أو أنثى حرمت مناكحتها، وقيل: هو عام في كل رحم من ذوي الأرحام في الميراث يستوي في ذلك المحرم وغيره وهو الصواب" (شرح صحيح مسلم، ج16، ص87). وقال الإمام النووي رحمه الله: "صلة الرحم هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول فتارة تكون بالمال وتارة بالخدمة وتارة بالزيادة والسلام وغير ذلك".