الاخلاص والولاء للوطن - د. صالح العطوان الحيالي
--------------------------------------------- الانتماء، هو حالة شعور الإنسان والشخص إلى الانضمام إلى مجموعة، وهو عبارة عن علاقةٍ شخصيةٍ حسيةٍ ايجابية، يبنيها الفرد مع أشخاصٍ آخرين أو مجموعةٍ ما، أما مفهوم الانتماء إلى الوطن فيعني تلك الحالة والشعور بالانضمام إلى الوطن، وتكوين علاقةٍ ايجابيةٍ مع الوطن، وتكوين علاقةٍ قويةٍ تربطنا بالوطن، والوصول إلى أعلى درجات الإخلاص للوطن. الولاء هو تأكيد الانتماء وتعميق الارتباط بكل ما يرمز إليه الوطن من قيم ومثل ومبادئ وخصوصيات ونظم وقوانين وأمجاد تاريخية، وهو أيضاً الإخلاص في خدمة الوطن غاية الإخلاص، والحرص بالغ الحرص على سلامته من كل الآفات والأضرار والمخاطر التي يمكن أن تمس به مادياً ومعنوياً. والولاء للوطن بهذا الاعتبار، هو السعي من أجل أن يكون الوطن في الذروة من المجد والسمو والتقدم والرقي والازدهار، وأن يكون الوطن أولاً في كل الأحوال وتحت جميع الظروف، وأن لا يكون ثمة شيء يسبق الوطن في القيمة والاعتبار، مهما تكن الدواعي والأسباب والمبررات والضرورات، لأن الوطن فوق كل الاعتبارات والمعايير والحسابات. والولاء للوطن بهذا المفهوم، هو الارتباط العقلي والوجداني بالوطن إلى أبعد الحدود، وأن يكون هذا الارتباط الحميمي الركيزة التي يقوم عليها الارتباط القانوني والدستوري؛ لأن الأوراق الثبوتية للمواطنة، ليست سوى صورة للانتماء الحقيقي وشكل من أشكال الولاء الكامل والمطلق للوطن النابع من الإيمان الذي يغمر القلب بالوطن، ومن الإخلاص في القول والعمل في خدمة المصالح العليا للوطن التي هي في جميع الأحوال، سلامة الوطن وصون سيادته وحماية استقلاله والحفاظ على كرامته. فالولاء للوطن إذن هو جماع الوطنية والمواطنة معاً، وهو جوهر الانتماء الذي يكسب المرء الشخصية والهوية الوطنيتين، فلا هوية وطنية بالمدلول الحضاري والمفهوم الثقافي والتاريخي، لمن لا ولاء له لوطنه الذي ينتمي إليه. وحتى إذا ثبتت الهوية القانونية، فإنها لا تكون ذات مدلول وقيمة حقيقية، إذا فقدت لدى الشخص المعني الهوية الثقافية والحضارية والتاريخية. وإذا كان التطرف من حيث هو مذموماً وممقوتاً ومرفوضاً رفضاً مطلقاً، فإن التطرف في الانتماء للوطن محمود ومقبول ومرغوب فيه، بشرط أن لا يترتب على هذا التطرف فعل أو قول ينطويان على أي شكل من أشكال الإساءة للوطن أو الإضرار بغير المواطن، على أي نحو من الأنحاء، لأن الولاء هو قبل كل شيء حبٌّ للوطن ولكل من وما ينتمي إليه. فإذا شحنت النفس بهذا الحب، فاض الولاء للوطن على جميع السلوكيات والتصرفات والمواقف والأفكار. ولست في حاجة إلى القول إن الغلوّ في الحب فضيلة وميزة ونعمة. وليس صحيحاً قولهم (إن من الحب ما قتل). وأعترف أن فضيلة حب الوطن والولاء له والإحساس بالانتماء إليه، قد تراجعت وضؤل شأنها وبهت لونها. كما تراجعت فضائل أخرى كثيرة كان المغاربة يتميزون بها ويعتزون ويفتخرون. وتلك إحدى الحقائق المرة التي ليس حسناً إخفاؤها أو التهرب من الاعتراف بها، إذا أردنا أن نصحح الوضع ونتجه اتجاهاً جديداً لتعزيز قيم المجتمع على القاعدة الراسخة من الثوابت والمبادئ والخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية. يمثل الإخلاص والولاء للوطن أسمى مقاصد الإنسان السوي أياً كان انتماؤه، فمن لا يجمعه بالأرض التي ترعرع على ثراها، والقيادة التي رسمت مستقبله من خلال إدارتها للمجتمع ولاء وانتماء، فإنه يكون إنساناً منقوصاً تعتريه الكثير من التوجهات السلبية التي تحرمه من تمتعه بإنسانيته التي اقتضت روح الانتماء لديه. كثير منا يدعي الإخلاص والولاء للوطن، ولكن عندما توجه له سؤالاً بسيطاً حول الكيفية التي يكون بها تحقيق ذلك، فإنك تجده يتلعثم ولا يستطيع أن ينظم لك جواباً، حتى وإن أبدع في حسن التعبير لك بهذا الجواب فإنه قد لا يكون نابعاً في مضمونه من وجدانه وقناعته، وذلك إما لسوء في التصور لمفهوم المواطنة، وإما لقصور في الفهم، وإما لعدم إدراك لخلفيات المسائل المرتبطة بأبعاد المواطنة الإيجابية الحقة. إن الولاء للوطن كدلالة لها مفهوم يرتبط في تفاصيله في كثير من الأحيان بما ينشأ عليه الإنسان من ثقافة، وما يوجهه إليه والداه اللذان يفترض أن يكونا العنصر المؤثر الأبرز في تكوين وجدان الطفل وقناعاته وتوجهاته التي تتلخص في نظرته للحياة، فمتى كان الإدراك لدى الوالدين متكاملاً لمفهوم المواطنة والولاء للوطن، فإنهما سيزرعانه في قناعة الطفل وثقافته لينقلب سلوكاً مؤثراً في حياته، ومتى ما كانت المفاهيم مغلوطة لديهما فإنه لا محالة سيتأثر الطفل بهذا التوجه لدى والديه. إن الولاء للوطن والإخلاص له يرتسمان من خلال شعور وسلوك، وروح ومادة، ولا يمكن أن ينفصل أي من الأمرين عن الآخر، فمتى تولد في الإنسان حب الانتماء لهذه الأرض بقيادتها ومن يعيش عليها، فإنه سينعكس من خلال معطيات سلوكه تفاصيل تعكس هذا السلوك في الجملة والتفصيل في حياته، فمن يحب وطنه ويخلص في هذا الحب تجده يتفنن في بذله وعطائه لهذا الوطن الذي ينذر من أجله الغالي والنفيس. إن التفنن في حب الوطن والبذل والعطاء له أمر لا يتقنه كثير من الناس، ويستقر في قناعاتهم ضمن نطاق ضيق لا يتسع أفقه، ولا يرتفع مقامه، ويقع ضمن نطاق سفاسف الأمور، فحب الوطن والإخلاص له لم يكن مقتصراً في يوم من الأيام على قصيدة تغنى، أو شعر يلقى، أو كلمة خطابية... إن كل ذلك لا يتجاوز كونه تعبيرا عن الحب للوطن، وبعد أن يعبر المواطن بذلك عن حبه فإنه يبقى الأهم من ذلك بجهود صادقة لبناء وطنه، حيث يتحقق ذلك من خلال إثارة سؤال في وجدانه... كيف أكون لبنة صالحة في بناء الوطن الشامخ؟ لا ينبغي أن تفهم الأمور إلا ضمن إطارها، ولا أن تتحقق الأهداف بمعزل عن مقاصدها، وهناك الكثير من المعطيات التي تمثل ثوابت وطنية ينبغي أن تكون مستقرة في وجدان المواطن المخلص المثابر الذي يعتقد أن الإخلاص لا يكفي، وأن التعبير عن الحب لا يكفي، وأنه ينبغي أن يقترن الأمران بالعمل والسلوك والبذل، وأن تكون هناك أدلة ملموسة ومحسوسة يستشعرها المرء ليتلذذ بمواطنته التي يدعيها، حتى إذا رحل عن هذه الأرض التي دفن فيها، فإنها تحتضنه في باطنها كما كان يكافح لرفعتها ومكانتها من خلال أي منبر قد اعتلاه عندما كان حيا يرزق يمشي عليها. ثم إن البذل كل البذل، والعطاء كل العطاء للوطن بالإخلاص والولاء ينبغي أن يرتبط في مختلف المقامات والمقالات ببعد تعبدي، فالدين الإسلامي تكلم عن مفهوم المواطنة وراعى مشاعر الانتماء للوطن لدى الإنسان وحظ عليها، بل وشرع الجهاد في سبيل الله دفاعاً عن الأرض وصوناً لها وحماية لإقامة الدين والشرع فيها. لا يمكن قصر الوطنية والإخلاص للوطن والولاء ضمن نطاق التعبيرات اللفظية أياً كانت القوالب التي تنسكب فيها، فالمواطنة بالإضافة إلى ذلك ينبغي أن تقترن بشعور وسلوك يتحقق من خلاله النفع في سبيل رفعة الوطن من خلال جهود ملموسة ومؤثرة ونافعة للبلاد والعباد