اداب السفير والدبلوماسية في التاريخ الإسلامي - د. صالح العطوان الحيالي ----------------------------------------------------------------------- نشأت الدبلوماسية بين الأمم والدول منذ القديم كوسيلة للتفاهم والاتصال؛ وذلك نظرا لحاجة المجتمعات إليها، باعتبارها مفتاح العلاقات الدولية التي تتداخل فيها المصالح، ولا يستغني فيها أحد عن غيره مفهوم الدبلوماسية: ــــ الدبلوماسية: كلمة يونانية الأصل مشتقة من لفظة: " دبلو " ( diploo ). ومعناها: الطَوْيُ والثَنْيُ، ومنها جاء اسم تلك الوثيقة الرسمية التي كانت تُطوى وتُثنى، والتي عرفت بالدبلوما ( diploma ). وكان يَبعث بها الحكام بعضُهم إلى بعض في علاقاتهم الدولية الرسمية. وقد تطور النشاط الدبلوماسي نسبيا بممارسة الرومان له، ثم ممارسته من قبل العرب في الجاهلية والإسلام، وغيرهم من الدول والأمم الأوربية الحديثة كالفرنسيين والإنجليز... وصار من دلالاته الشائعة ممارسة الكياسة واللباقة والمهارة في التعامل. ثم غدا العمل الدبلوماسي مصطلحا على عِلْمٍ متكاملٍ له أسسه ونظرياته ومعالمه وامتيازا ته وأحكامه الدولية المتعارف عليها، والتي يقصد بها في النهاية: إتقان فن إدارة العلاقات بين الدول وتوثيقها وتنميتها نحو الأفضل في زمن السلم، وفض المنازعات ونحوها في زمن الحرب. الصفات التي راعاها المسلمون في اختيار الدبلوماسيين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1ـ الكفاءة الوظيفية: ويراد بها: معرفة أصول العلاقات الدولية في زمن الحرب وزمن السلم، ناهيك عن الاتصاف بسعة العلم والمعرفة، والثقافة العامة، والذكاء، والنباهة، واللباقة، والبصيرة الثاقبة، وشدة التيقظ للمفاجآت، واهتبال الفرص واغتنامها لتحقيق أهدافه. وقد تجلَّت تلك الأوصاف في جعفر بن أبي طالب حال مناظرته عمرو بن العاص ـ قبل إسلامه ـ لدى النجاشي ملك الحبشة، حيث أراد عمرو مبعوث قريش الإيقاع بجعفر، لكنَّ كفاءة جعفر وحنكته تصدت لكيد عمرو وأبطلت تحريضه على الإسلام والمسلمين في شأن عيسى بن مريم عليه السلام، وذلك حين طلب جعفر من النجاشي أن يستمع إليه ويعرف رأيه، فما وسعه إلا أن يفعل ذلك ويعترف بصدق وصواب ما جاء في القرآن الكريم عن بشرية عيسى عليه السلام وأنه عبد الله ورسوله حقا وصدقا. 2ـ صدق السريرة وحسن الخلق: من أوكد واجبات الدبلوماسي أن يؤمن إيمانا صادقا بنظام الدولة التي يمثلها وينتمي إليها، ويعرض مبادئه وأفكاره وقيمه من خلال تعامله الكريم وخلقه الحسن، بعيدا عن العبث والفظاظة والغطرسة، لا تؤثر فيه المغريات ولا تزعزعه الأوهام والأراجيف، وقد وُصف جعفر بن أبي طالب سفير المسلمين إلى الحبشة بأنه أشبهُ الناس بالنبي- صلى الله عليه وسلم - خَلْقا وخُلُقا، وكفى بهذا ثناء ومدحا. وحينما راودت قريش عثمان ـ مبعوث النبي- صلى الله عليه وسلم -في الحديبية ـ في أن يعتمر ويطوف حول الكعبة وحده، دون المسلمين الذين جاء يفاوض عنهم أبى ذلك؛ ولاء لقيادته، وانسجاما مع حسن سريرته التي عرف بها، ووفاء لإيمانه وقيمه، ورفض التي المغريات التي عرضتها قريش عليه... 3ـ حسن الصورة والهيئة: أولى المسلمون عناية لافتة بمظهر السفير الخارجي ولياقته ووسامته، لأن ذلك أول ما يقع عليه النظر، وبه يتأثر العامة والخاصة، قال ابن الفرَّاء: يُستَحسن في الرسول تمام القدِّ، وامتداد الطول، وصلابة الجسم وامتلاؤه، فلا يكون قصيرا أو نحيفا، لئلا تقتحمه العيون فتزدريه، وإن كان المرء بأصغريه قلبه ولسانه، لكن الصورة تسبق اللسان، والجسم يستر الجَنان... وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم -يراعي توفُّر حسن الصورة والهيئة في سفرائه، ومن هؤلاء دحية بن خليفة الكلبي مبعوثه إلى قيصر ملك الروم، فقد كان وسيما، متكامل الخلق، من أجمل الناس هيئة وصورة، وكان جبريل عليه السلام ينزل على النبي- صلى الله عليه وسلم -في صورته. كما كان جعفر بن أبي طالب ممثل المسلمين عند ملك الحبشة جميل الصورة حسن الشكل والهيئة، يشبه النبي- صلى الله عليه وسلم -خَلْقا وخُلُقا. 4ـ الفصاحة وحسن البيان: ينبغي أن يكون الدبلوماسي فصيح الكلام حسن البيان، متقنا لغة من أرسل إليهم؛ وذلك ليتمكن من إبلاغ ما يريد والتعبير عنه بيسر وسهولة، والقيام بمهمته ومعالجة الأمور دون تباطؤ أو عجز أو اضطراب أو تكلُّف. وسبق بيان ما قاله إمبراطور البيزنطيين في الشعبي سفير الخليفة الأموي مروان بن عبد الملك. 5ـ معرفة أحوال الدولة الموفد إليها: ينبغي أن تتوفر في الدبلوماسي المعرفة بالأحوال الاجتماعية والثقافية والسياسية والمعيشية... في الدولة الموفد إليها، فضلا عن إلمامه بعادات الناس ومناسباتهم وتقاليدهم؛ ليكون ذلك أقرب إلى التفاهم معهم وأجدى في تحقيق مهمته، وتنمية العلاقة بين دولته والدولة التي أوفد إليها. ويشهد لهذا: أن جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يعلم الأحوال السياسية والدينية في الحبشة، وأن ملكها يتصف بالعدل فلا يظلم عنده أحد، وأنه يؤمن ببشرية عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله، وأنه أقرب إلى المسلمين الموحِّدين منه إلى القرشيين الوثنيين... صور قديمة من الدبلوماسية: ـــ عرفت المجتمعات القديمة العمل الدبلوماسي منذ آلاف السنين، وعُرِف به الصينيون، والهنود القدماء، والفراعنة، وقد ذكر لنا القرآن الكريم بعض صور الدبلوماسية القديمة فيما حكاه عن النبي سليمان - عليه السلام - وبلقيس ملكة سبأ، وذلك عبر " الهدهد " الرسول السفير اللطيف السريع، الذي حمل رسالة فيها أوجز العبارات وأجزل المعاني، قال الله تعالى في حكاية ماجرى بين سليمان والهدهد وبلقيس: { اذهب بكتابي هذا فالقهْ إليهم ثم تولَّ عنهم فانظر بِمَ يرجع المرسلون. قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو عليَّ وأتوني مسلمين }. ثم قال عن الملكة بلقيس:{ وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بِمَ يرجع المرسلون... }. الآيات 28 ـ 35من سورة النمل. وعُمِل بالدبلوماسية أيضا في المجتمع الجاهلي قبل الإسلام، وكانت تسمى السِفارة، وكان يقال لصاحبها: السفير، والرسول، والمبعوث، وظلت وظيفة سفارة قريش في بني عدي ـ قوم عمر بن الخطاب ـ فترة طويلة، وكان عمر آخر سفرائها إلى القبائل الأخرى التي كانت تنازعها وتنافرها وتفاخرها... ثم قام عمرو بن العاص بمهمة سفير قريش إلى النجاشي ملك الحبشة ليطرد المسلمين الذين فروا إليه بدينهم من أذى قريش، لكنه فشل في إقناع النجاشي بطردهم من بلاده. وأرسل مسيلمة الكذاب مبعوثًيْن إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -ليفاوضاه في إمكان مشاركة مسيلمة له في النبوة، فردهما النبي- صلى الله عليه وسلم -قائلا: " لو لا أن الرسل لا تُقْتَل لضربت أعناقكما". رواه أبو داوود والحاكم. إنَّ أول من استعان بالدبلوماسية في الإسلام كان الرسولَ الأعظمَ صلَّى الله عليه وسلَّم إذ بعث برسلٍ إلى بيزنطة وفارس، ومصر والحبشة وبلاد أخرى. ويروي مؤرِّخو السير وكتَّاب التاريخ الإسلامي أسماءَ الرسل الذين أوفدَهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهم: شجاع بن وهبٍ الأسَدي إلى شَمر بن الحارث ملِكِ الغساسنة بالشام، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقِس صاحب مصر، وعمرو بن العاص إلى جَيْفر وعبادٍ الأَسَديَّيْن في عمَّان، ودحية الكلبي إلى قيصرَ ملِك الروم، وعمرو بن أميَّة الضّمري إلى النجاشي في الحبشة، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوَى العبدي وأهل البحرين، والمهاجر بن أبي أميَّة المخزومي إلى الحارث بن عبد كلالٍ ملك اليمن، وعبدالله بن حذافة إلى كسرى ملِك الفرس. وزوَّدهم بكتب هي وثائقُ تؤيِّد صحة انتدابِهم كما توضِّح الغرض منه، كما بعث النبي الأمين المبعوثين السِّرِّيين الموثوق بهم إلى البلاد التي يهتمُّ بمعرفة أحوالها، فقد عيَّن عمه العباس مبعوثًا سريًّا في مكَّة، والمنذر بن عمرو بن خنيس الساعدي المكنى بالمعنق ليموت في نجد، وكانت مهمة المبعوثين السريين تزويدَ النبيِّ بالمعلومات عن أحوال وأحداث الجِهة التي بُعثوا إليها، هذا من الجهة الإسلامية، أمَّا من الجهة المقابلة، فقد عرَف الإسلام في بداية إشراقه وفي عهد الرَّسول الكريم نظامَ استقبال السُّفراء والرسل، وكان صلوات الله عليه يستقبلُهم في الجامع الكبير في المدينة. وجاء في سيرة ابن هشام ص 622 أنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم والصَّحابة رضوان الله عليهم كانوا يلبَسون أحسن الثِّياب عند استقبالهم الوفود والرسل، غيرَ أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يتقيَّد بهذا الأسلوب من الرسميَّات ومارس البساطة؛ حتى إنَّ سفير قيصرِ الروم لَمَّا أوفده وجده نائمًا تحت شجرة، وفي رأيي أنَّ الخليفة عمر قد أراد أن يُرِيَ سفير قيصر الروم الفرقَ الشاسع بين البساطة التي يعيشها خليفة المسلمين، وبين الأبَّهة والتَّرف اللذين يعيشُهما القيصر البيزنطي، ويُضرب بهما الأمثال، واللذان لا تزالُ تعاني الدُّبلوماسية العالمية من تأثيرهما فيها. وكان صاحبُ الرسالة يستقبل الوفود باحتفالٍ وَفْق المراسيم والعادات العربية، وكان سفراءُ الدول الإسلامية يحترمون تقاليدَ الدول التي يُوفدون إليها ولا يخرجون عنها، إلا إذا تعارضت مع أحكام الدين، كعادة السُّجود للملوك التي كانت شائعةً في العهود القديمة. وكان المسلمون يعترفون للمبعوثِ الأجنبي بالحصانة دون حصولِه على وثيقة أمان، ولم يقصُرِ المسلمون صفةَ المفاوض الدُّبلوماسي على ممثِّلي الملوك والحكومات، بل كان التسامح الإسلامي يتَّسع إلى حد إضفاء صفةِ المفاوض على كلِّ من يجادل في موضوعٍ يخصُّ الدعوة الإسلامية، حتى إنَّ هذا التسامح شمل بأمرٍ من النبيِّ صلواتُ الله عليه وسلامُه مبعوثي مسيلمةَ الكذَّابِ مع أنهما أساءا القول. وقد أجمعت كتب السِّيَر على ذكر رواية أبي رافعٍ الذي جاء إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم موفَدًا من قريشٍ، وبعد مُثوله بين يديه، آمَنَ وعزم على ألاَّ يرجع، فقال له النبيُّ: ارجعْ، فإن كان في قلبِك الذي فيه الآن، فارجعْ إلينا، وهذا الحادث يدلُّ على مدى تقدير الرَّسول الأعظمِ للأمانة التي يجبُ أن يتخلَّق بها السفير، وإلزامه بتأديتِها بإخلاص. ومن أهم المصادر عن تاريخ دبلوماسية الإسلام والدول الإسلامية، الكتاب الذي وضعه أبو عليٍّ الحسين بن محمد المعروفُ بابن الفرَّاء، واسمه: “رسُلُ الملوك ومن يصلح للرسالة والسِّفارة”، وهو يتناول بالتَّفصيل كيف رفع فقهاءُ المسلمين منزلةَ الرسول والسفير، واعتبروا أنها تستمدُّ حرمتها من مكانةِ الرُّسل الذين يبعث بهم الله عز وجل إلى عباده ليبلغوا رسالته، ناهيًا عن التعرُّض لمهمتهم والمساس بأشخاصِهم، قد استنبطوا من نواهي الدين وأوامره تجاه تعظيم الرسل أساسًا لمعاملة رسل الملوك والخلفاء معاملة كريمةً؛ مستشهدين بالآيات الكريمة العديدة التي يحتويها القرآن في هذا الصَّدد، منها: ما ورد في سورة المزمّل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15-16]، ومنها: ما ورد في سورة إبراهيم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، ويعلِّق ابن الفرَّاء على هذه الآية الكريمة مستنتجًا أن يكون السَّفير قادرًا على تفهُّم لغة مَنْ يرسل إليهم، وقد اعتبر الإسلام المفاوضة شرطًا أساسيًّا لا بد من توفُّره قبل اللجوء إلى الحرب؛ وذلك اتِّباعًا لِما جاء في قوله – تعالى – في سورة الإسراء: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى في سورة القصص: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: 59]، ويعلِّق ابنُ الفراء على هاتين الآيتين بقوله: وقد فضَّل الله سبحانه المرسَلين من أنبيائه على غير المرسلين؛ لتبليغ الرسالة، وتحمُّل ثقل الأمانة، والصبر على أذى الكافرين، وتكذيب الجاحدين، وأورد ابن الفراء ما أسماه بالحكمة التي تقول: (إنَّ الكتاب يدٌ، والرسول لسان)، وأنَّ الواجب على الملوك أن يقرنوا كتبَهم بالرُّسل؛ لِما في ذلك من اكتمال الفائدة ووجود الحجَّة، ولقطع الرسول الأمر؛ إذ كان مأمورًا من غير مراجعة، ولا احتياج لاستئذان مرسلِه. واستشهد بقول عبدالله بن جعفر بن أبي طالب: إِذَا كُنْتَ فِي حَاجَةٍ مُرْسِلاً فَأَرْسِلْ حَكِيمًا وَلاَ تُوصِهِ قد جاء في كتاب أخلاق الملوك للجاحظ المتوفى عام 255 هجرية تحت عنوان “آداب السَّفير” ما نصه: “ومن الحقِّ على الملك أن يكون رسولُه صحيح الفِطرة والمزاج، ذا بيانٍ وعبارة، بصيرًا بمخارج الكلام وأجوبتِه، مؤدِّيًا لألفاظ الملِك ومعانيها، صادق اللَّهجة، لا يميل إلى طمَعٍ أو طبْع، حافظًا لِما حمِّل، وعلى الملك أن يمتحنَ رسولَه محنةً طويلة قبل أن يجعلَه رسولاً”. وقد وضع الدُّكتور نجيب الأرمنازي رسالة دكتوراه في جامعة باريس موضوعها: “الشَّرع الدولي في الإسلام” عام 1930، وقد عالج فيها مواضيعَ تتعلَّق بالدبلوماسية الإسلامية، تبدأ بعدم جواز القتال ما لم تبلغ الدعوة، ويجرِ التفاوضُ من أجلها، ثم مبدأ التحكيم وما يقتضيه من مفاوضة، والمعاهدات التي عقدها المسلمون مع الرُّوم في العهدين الأموي والعباسي، عن طريق إيفاد مبعوثين يتولَّوْن مهمة دبلوماسية معيَّنة. ويُستنتج من ذلك أن المسلمين اتَّبعوا أسلوب الدبلوماسية المتقطِّعة لا الدائمة، كما تناوَل كيفية إرسال السُّفراء واستقبالهم، وما يواكب ذلك من مراسيمَ وأصولٍ، ثم المراسلات السِّياسية والتِّجارية، وكيف أنَّها كانت تُجرى بأساليبَ ورسومٍ متقنةِ الوضع، ونوَّه بما جاء في كتاب “الخراج” للإمام أبي يوسف، و”السير الكبير” للإمام محمد بن الحسن الشيباني، من إعفاء الدُّبلوماسيين من الضرائب، إلا إذا كان ما لديهم يستهدف التِّجارة فتؤخذ الرسوم عليه. ومما يسترعي الاهتمام اقتباسُ اللغات الأوروبية عن اللغة العربية كلمةَ تعريفة للرسوم الجمركية، كما اقتبس الغربيون كلمة: أميرال من التركيب العربي: أمير الماء. ومن المعلومات الطَّريفة حول النشاط الدبلوماسيِّ الإسلامي العربي في العصور الوسطى، ما اختاره الدكتور إبراهيم أحمد العدوي في كتابه: “السفارات الإسلامية إلى أوربا في العصور الوسطى”، وقد ضمَّنه معلوماتٍ تاريخيةً قيِّمة، بدأها بحقوق الجوار التي كانت تقوم على أساسها العَلاقاتُ بين الدولة الإسلامية وبيزنطة، وفيها مثَل طيِّب للتعايش السِّلمي الذي بدأ منذ قيام الدولة الأموية، واتِّخاذها دمشق عاصمةً لخلافتها، واستقرار حدودها عند سلسلتي جبال “طوروس”، التي غدَت حدًّا فاصلاً بين المسلمين والروم، ثم انتقل الدكتور العدوي إلى دبلوماسية التوازن الدولي الذي حدث نتيجة انفصالِ الأندلس عن الدولة الإسلامية عام 751م إِثْرَ قيام العبَّاسيين على عرض الخلافة، فأصبحت في العالم دولتانِ عربيَّتان مسلمتان تقابلُهما دولتانِ نصرانيتان، هما: إمبراطوريَّة الرُّوم البيزنطية، ودولة الفرنجة في أوربا، والتي بلغت أَوْجَ مجدِها في عهد شارلمان أو كارل الكبير كما يسميه الألمانُ عام 800م، وأصبحت منافسًا خطيرًا لأباطرة الرُّوم في ميدان الرعاية على العالم النصراني مستعينةً بدعم البابوية الروحي لها، وقد أدى ذلك إلى تدهور مركز إمبراطورية الروم الشَّرقية في العالم النصراني،حيث فقدت زعامتَها على نصارى غرب أوربا. إن هذا الوضع السياسي الجديد قد أدَّى إلى ازدياد في النشاط الدبلوماسي؛ ذلك أن الخلافة العباسية في بغدادَ لم تعُدْ ترسل سفاراتِها إلى القسطنطينية فحسب، وإنما بدأتْ تبعث إلى بلاط الفرنجة؛ لتجعل من تلك القوَّة الجديدة سندًا لها في منافستِها للأُمويِّين في الأندلس، وفي نفس الوقت لم يعُدِ الروم يرسلون سفاراتهم إلى بغداد فحسب، وإنما أخذوا يرسلونَها إلى قرطبة عاصمة الدولة الأموية، ليجعلوا منها عضدًا لهم، واقتبس المؤلِّف رسالةً وجَّهها إمبراطور الروم: تيوفيل 829م إلى الخليفة العبَّاسي المأمون بشأن تبادل الأسرى وإعادة الحياة الاقتصادية بين المسلمين والروم، وجاء في تلك الرسالة: “وقد كتبتُ إليك داعيًا إلى المسالمة، راغبًا في فضيلة المهادنة؛ لنضع أوزار الحرب عنَّا، ويكون كلُّ واحد لكل واحد وليًّا وحزبًا، مع اتصال المرافق، والفسح في المتاجر، وفك المستأسر، وأمن الطَّريق”. وردَّ الخليفة المأمون مجيبًا طلب الإمبراطور البيزنطي؛ حتى تعود الحياة بين الطَّرفين إلى مجراها الطبيعي، وكان يسمح لحاملي تلك الرسائل بزيارة معسكراتِ اعتقال الأسرى؛ ليتأكدوا من حُسن معاملتهم، وليتعرفوا على كلٍّ منهم، وكان من أغراض الدبلوماسية الإسلامية محاولةُ معرفةِ قوَّة جيرانهم، ومدى بأسهم، والتأكُّد من صحة طلب الفريق الآخر للصُّلح، أو للمهادنة، أو تبادل الأسرى. وكان من مهمة السفراء أن يعلَموا حالة الطرُق والأمكنة التي توجد فيها المروج والأعشاب والحشائش للعلف، وكذلك قوَّة الجيش ومَؤونته في العَدَد والعتاد وفي الدِّفاع والهجوم، وأن يعرفوا كلَّ ما يتعلَّق بأمور البلاد الأجنبية من النواحي الشخصية والعامة، كما أنَّ الدُّبلوماسية الإسلامية في العهد العباسي كانت تتوخَّى من سفاراتِها أغراضًا علميَّة. ومن أمثلة ذلك: أنَّ الخليفة المأمونَ علِمَ أنَّ في القسطنطينية أستاذًا مشهورًا بالرِّياضيَّات، فأرسل إلى الإمبراطور البيزنطي: “تيوفيل” سفارةً خاصة تحمل رسالةً شخصيَّة تطلب منه أن يسمح للأستاذ “ليو” بالحضور إلى بغدادَ فترة قصيرة، وقال المأمون في رسالته: “إنه يعتبر ذلك عملاً وديًّا، ويعرض على الدولة البيزنطية صلحًا دائمًا، وألفَيْ قطعة ذهبية في مقابل ذلك”، غيرَ أن الإمبراطورَ البيزنطيَّ رفض هذا العرضَ السَّخيَّ؛ لأن بعض أبحاث العلماء كانت تُعتبر في ذلك العهد من أسرار الدولة، وقد قامت في العهد العباسيِّ بين العباسيِّين وروما ومملكة البلغار والهند والصين، بالإضافة إلى القسطنطينية والفرنجة – علاقاتٌ دبلوماسيَّة. ومن نشاطات الدبلوماسية العربية العلميَّة ما قام به الخليفة العباسي الواثق بالله 842 – 847؛ إذ أرسل وفدًا إلى الإمبراطور: “دقليديانوس” لزيارة الكهف الوارد ذكرُه في القرآن الكريم، وقد بحث المؤلِّف الدكتور العدوي موضوع تشكيلِ السفارة، وطرُقَ اختيار السفراء وصفاتِهم، وما يجب أن يتمتَّعوا به من مواهب ومميِّزات، وألَمَّ بالمراسيم الدبلوماسية، وتقديم أوراق الاعتماد، وجوازات السفر والحصانة، ومراسيم الاستقبال، والتعليمات التي كان يزوَّد بها السفراء، وتحدَّث عن السفارات الإسلامية المبكِّرة مع الروم؛ كسفارة عامر بين شَراحيل الشَّعْبي في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، وعرَض صورة رائعةً للدعايات الدبلوماسية التي كان يقوم بها السُّفراء العرب في تمثيل بلادهم، وعرَض وصفًا دقيقًا للاستعدادات التي كانت تقوم بها بغدادُ في عهد الخليفة المقتدر العباسي تجاه سفارات الإمبراطور “قسطنطين السابع”، وحفل تقديم أوراق الاعتماد، وبرامج الترفيه، وصورة رائعة أخرى لسفارة الخليفة “هارون الرشيد” للإمبراطور “شارلمان”، والهدايا التي حملتْها معها تلك السفارةُ من مراسيمَ وخطبٍ سياسيَّة أخَّاذة، ولعل أبهى لوحة رسمها المؤلِّف في كتابه هذا تلك التي اختصت بسفارة يحيى بن حكم الغزال إلى الجزر البريطانية موفَدًا من الدولة الأُموية في الأندلس، وكانت بريطانيا آنذاك يحكمها “النورمان”، وملكها اسمه “توركايوس”، وعاصمتُه في شمال أيرلندا، إنَّ هذه اللوحة جديرة بأن تُعرض على المسارح؛ لأنَّها تمثِّل علاقاتٍ تاريخيَّة نادرة في دبلوماسية القرون الوسطى.