top of page
صورة الكاتبAdmin

غزوة الخندق - د. صالح العطوان الحيالي


غزوة الخندق - د. صالح العطوان الحيالي

---------------------------------------

غزوة الخندق وفكرة حفر الخندق والاستفادة من خبرات الامم والشعوب أخذ المسلمين الأمر بمنتهى الجدية، وبدءوا يفكرون في الأزمة القادمة بإيجابية، وكان أول ما فعلوه تكوين (مجلس الشورى)، هكذا تكون البداية الصحيحة، وإذا راجعنا صفات الجيش المنصور التي ذكرناها في غزوة بدر، سنجدها تنطبق تمامًا على جيش الأحزاب؛ لأن هذه سنن وليست مصادفات. عقد مجلس الشورى، مجلس من المهاجرين القرشيين والأنصار الأوس والخزرج، وغيرهم من القبائل المختلفة، بل إن فيهم من ليس عربيًا أصلا مثل بلال الحبشي و سلمان الفارسي ، وهنا تتجلى عظمة الدين الإسلامي، ونلاحظ هنا كيف تتراكم الخبرات داخل الأمة الواحدة نتيجة تجميع كل العناصر والقبائل والأجناس والبلاد تحت راية واحدة. وسنرى كيف كان حل أزمة الأحزاب بيد رجل ليس من العرب أصلا، ولكنه من المسلمين، إنه سلمان الفارسي ، وهكذا يستفيد الجيش الإسلامي من خبرات الجيش الفارسي، ويستفيد من تجارب شعب كامل كشعب الفرس، وهذا سلمان الفارسي في أول مشاركة له مع صفوف المسلمين، لم يشعر أبدًا أنه غريب، هذه هي دولته، وهذه هي أمته، وهذا دينه. قال سلمان: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا. سمع رسول الله وصحابته الفكرة فأعجبتهم، وعلى الفور ظهر الحسم وعدم التردد، فأخذوا قرارهم مباشرة بالبدء بحفر الخندق. واقعية المنهج النبوي وهنا نتوقف عند واقعية المنهج النبوي، إذ قد يتساءل أحدهم: كيف يجبن المسلمون عن اللقاء فيحفروا الخندق، ولا يحاربون؟! والإجابة هنا أن الإسلام دين واقعي، فمع قناعتنا التامة أن الله معنا وسينصرنا إن نحن أخذنا بأسباب النصر ونصرناه، إلا أننا يجب أن نأخذ بكل الأسباب، فلقاء 10 آلاف مقاتل مشرك أمام 3 آلاف مقاتل مسلم هم كل رجال المدينة لقاء غير متكافئ، وخاصة أن هؤلاء العشرة قابلون للزيادة؛ إذ من المحتمل أن يضم إليهم يهود خيبر، أو تنضم إليهم قبائل مشركة أخرى غير قريش وغطفان وبني سليم، كل ذلك يجعل الرسول يتجنب اللقاء قدر المستطاع، فكانت فكرة الخندق فكرة متميزة فعلاً. لم نهرب من أرض الموقعة، لم نتنازل عن شيء، وسيوضع العدو في مأزق؛ لأنه لن يستطيع أن يعيش طويلا بعيدًا عن بلاده وطعامه وشرابه وتجارته، فسيصبح عامل الزمن في صالح المسلمين. وفعلاً كانت فكرة ممتازة، وعلى وجه السرعة أخذ رسول الله مجموعة من الصحابة، وتفقد أطراف المدينة، ليحدد المكان الملائم لحفر الخندق، آخذًا بكل الأسباب، ووجد أن لشرق المدينة المنورة وغربها حماية طبيعية، وهي مرتفعات الحرة الشرقية والغربية، وكذلك كان جنوب المدينة محميًّا بغابات طبيعية وأحراش، فلم يتبق إلا منطقة الشمال ومنطقة الجنوب الشرقي، وفي الأخيرة ديار بني قريظة، وهم إلى الآن على العهد مع رسول الله ، والعهد لا يقضي فقط بعدم معاونة قريش، بل يقضي أيضًا بالدفاع المشترك مع المسلمين عن المدينة المنورة، إذا دهمها عدو، أيًا كان هذا العدو؛ لذلك أرسل رسول الله لهم رسالة؛ ليؤكد العهد معهم، فأكدوا العهد، وتأكيدهم للعهد مهم جدًّا؛ لأن دخول جيوش المشركين من خلالهم قد ينتج عنه إنهاء الوجود الإسلامي تمامًا، واستئصال شعب المسلمين بكامله. تحديات حفر الخندق لم يتبق إذًا إلا منطقة الشمال مفتوحة، ولذلك أخذ رسول الله القرار بحفر الخندق في الشمال، ليغلق المنطقة ما بين الحرة الشرقية والغربية، وإذا كان القرار قد تم اتخاذه بسهولة ويسر، إلا أن تنفيذه يُعدُّ مما يقارِبُ المستحيل؛ فمشروع حفر الخندق مشروع لا يتخيله عقل أبدًا؛ ذلك أن عمق الخندق يبلغ خمسة أمتار، بينما يصل عرضه في أقل التقديرات إلى خمسة أمتار أيضًا (بعض التقديرات تذهب به إلى 10 و12 مترًا)، ويبلغ طوله اثني عشر كيلو مترًا. وهذه الأبعاد تدل على أن الأرض المفروض حفرها يبلغ حجمها 300 ألف متر مكعب!! ولكي نتصور هذا الجهد المبذول لحفر هذا الخندق العظيم قمت باستطلاع آراء العديد من المهندسين فأصابنا جميعًا الذهول! لأن أفضل عامل اليوم، لا تتعدى قدرته على الحفر في اليوم الواحد خمسة أمتار مكعبة، هذا إذا كانت الأرض التي يحفرها أرضًا رملية، وبعمق متر واحد فقط، وكلما زاد العمق قلَّت قدرة العامل على الحفر. إن عدد الصحابة في المدينة المنورة جميعًا ثلاثة آلاف، وليس من الممكن أن يشتغل جميعهم في الحفر، فهناك فرق للحراسة، وفرق للخدمة، كما يوجد كبار السن، ومرضى... ومع ذلك فلو افترضنا أنهم جميعًا يعملون في الحفر، فإنه يستحيل حفر الخندق في الزمن القياسي الذي استغرقه بالفعل, حيث استغرق أسبوعين فقط!! وإذا افترضنا أن كل صحابي سيعمل ست عشرة ساعة يوميًا، فإنه من الصعب جدًّا أن ينتهي الحفر في هذا الزمن، وهذا كله، مع افتراض أن الأرض رملية، وسهلة الحفر، فإذا علمنا أن الأرض التي تم فيها الحفر صخرية تحتاج في زماننا الآن إلى معدات خاصة جدًّا لحفرها، لأدركنا بيقين كم كانت هذه المهمة شاقة وعسيرة، وكم كان إنجازًا جبارًا بحق، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحفر كان لعمق خمسة أمتار، وليس مترًا واحدًا، وأن نقل كميات التراب المستخرج من الأرض إلى أماكن بعيدة عن الحفر هي أيضًا مهمة ثلاثة الآلاف من الصحابة، ولو أضفنا أن الخندق متسع في بعض الأماكن إلى أكثر من خمسة أمتار، ولو أضفنا نقص خبرة المسلمين بشكل عام في هذا العمل؛ إذ إنها المرة الأولى التي يحفرون فيها خندقًا، ولو أضفنا كثرة الأيدي العاملة، وتوزعها على اثني عشر كيلو مترًا، وكيف يمكن أن تُدار فِرَق بهذه الضخامة، وإذا أضفنا إلى كل ذلك أن هؤلاء يعملون في ظروف بالغة الصعوبة، من جوع وبرد وخوف من قدوم الأعداء في أي لحظة. لو تخيلنا كل ذلك لتيقنَّا أن هذه المهمة كانت مهمة مستحيلة فعلا، مستحيلة بكل المقاييس، إذ إن عملا كهذا لو تم في زمننا هذا في أسبوعين لاحتاج إلى أكثر من مائتي رافعة أثقال، وآلاف المعدات الإلكترونية، وعشرات سيارات النقل الكبيرة، كما يحتاج إلى إدارة هندسية كاملة، ومجموعة من الاستشاريين المتخصصين في الحفر، ولكي نعرف صعوبة هذا المشروع، من الممكن أن نقارنه مثلاً بمشروعات مترو الأنفاق في المدن الكبرى ومدى صعوبتها، واستغراقها لسنوات طويلة حتى تتم. وهكذا كان مشروع حفر الخندق خرافيًّا بحق. ولا يمكننا أبدًا توقع أو تصور حدوثه، وهكذا في العديد من وقائع التاريخ الإسلامي، هناك الكثير من الأمور يستحيل أن نفهمها إلا إذا كنا مؤمنين بالله حقًّا، ولنتذكر مثلا حديثنا عن غزوة بدر، وكيف تم نصر المسلمين فيها، ونتذكر جند البركة وكيف أن الله يضخم جهد المؤمنين البسيط؛ فتنتج عنه نتائج عجيبة. وهكذا فإن مشروعًا كحفر الخندق لا يمكن للبشر أبدًا أن يتموه، ولكن الله إذا أراد أعانهم على ذلك، وذلل لهم كل الصعاب، سواء بأيديهم أو بمدد من الملائكة، أو جنود لم يروها، ولكن هذا واقع نراه، ونشعر به إلى يوم القيامة، ما دام هناك أقوام يستحقون نصر الله ، آخذين بأسباب النصر ذاك. وهكذا تم حفر الخندق العملاق، تم هذا المشروع الجبار، وهنا يحق لنا أن نقف وقفة اجلال وكبار لهم .


٥١ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page