top of page
صورة الكاتبAdmin

النعمان بن مقرن وفتح نهاوند - د. صالح العطوان الحيالي


النعمان بن مقرن وفتح نهاوند - د. صالح العطوان الحيالي

----------------------------------------------------- الحديث عن (النعمان بن مقرن ) حديث عن صحابي جليل عاش قريبًا من قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان له تأثيره على إخوته العشرة، فأصبح البيت كله بيت إيمان. وهو ( ابن مقرن )، ويقال لأبيه عائذ أبي عمرو المزني. وقد شهد النعمان بن مقرن غزوة الأحزاب، وبيعة الرضوان فكان من الذين بايعوا تحت الشجرة، ورضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانت له جهوده الرائعة في حروب الردّة، كما كان النعمان من أبطال معركة القادسية مع سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنهما). وكان مع النعمان لواء (مزينة) في فتح مكة، وكانوا ألفًا وثلاثمائة مزيني مجاهد. وكان النعمان من رؤساء مزينة، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - على رأس أربعمائة فارس من مزينة، وكان صاحب لواء مزينة في غزوة فتح مكة، وكان موضع ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وموضع ثقة خلفائه من بعده حتى استشهد في نهاوند سنة إحدى وعشرين للهجرة (652م)، وقبره هناك بموضع يقال له (أسفيذبان، وهي قرية من قرى أصبهان)؛ [انظر معجم البلدان 1/231]. ولقد كان النعمان مؤمنًا حقًّا، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة أحاديث، وقد ثبت على إسلامه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان ثباته هذا من العوامل المؤثرة على مزينة في ثباتها على الإسلام، ومقاومتها المرتدين حتى عاد العرب إلى الإسلام. وكان محبًّا للناس محبوبًا منهم، دمث الأخلاق، حسن السيرة، كريمًا وفيًّا، سكن البصرة، ثم تحول إلى الكوفة. النعمان سفير سعد في القادسية: كان مع سعد بن أبي وقاص في القادسية، وقد رأى أن يرسله على رأس وفد إلى كسرى (يزدجرد)، وأمرهم أن يدعوه إلى الإسلام، فإن أبى فالجزية، وإلا فالمناجزة. وبلغ الوفد (المدائن) عاصمة كسرى، فسألهم الملك: "ما جاء بكم وما دعاكم لغزونا والولوغ ببلادنا؟‍ أمن أجل أننا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟". وقد أجابه (النعمان) ذاكرًا له كيف بعث الله رسوله، وما جاء به من عند الله من خير، ودعاه إلى الإسلام قائلاً: "ثم أمرنا - أي الرسول صلى الله عليه وسلم - أن نبدأ بمن يلينا من الأمم، فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حَسَّنَ الحسن، وقبَّح القبيح كلـه، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه: الجزاء (أي الجزية)‍، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، وإن اتقيتمونا بالجزاء (الجزية)، قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم".• كبُر على كسرى أن يسمع مثل هذا الكلام، فأجاب الوفد جوابًا يغريهم بما عنده من مال وألبسة وطعام، وبعد أخذٍ وردٍّ، غضب كسرى غضبًا شديدًا، فخاطب الوفد قائلاً: "لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم...‍ لا شيء لكم عندي". ولقد ترك الوفد - لا سيما كلام (النعمان) - أثرًا معنويًّا سيئًا في نفس كسرى ورجاله، ولهذا قال كسرى بعد مغادرة الوفد يخاطب رستم قائد الفرس: "ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء،‍ ما أنتم بأحسن جوابًا منهم، ولقد صدقني القوم، لقد وعدوا أمرًا ليدركنه أو ليموتن عليه". • ولما نشَب القتال في القادسية، أبلى النعمان فيها بلاء الأبطال الصادقين، فلما نصر الله المسلمين على الفرس، أرسله سعد إلى عمر بن الخطاب بشيرًا بفتح القادسية. الطريق إلى نهاوند: بعد هزيمة كسرى في القادسية أقام كسرى (يزدجرد) بمدينة (مرو) بعد خروجه من (المدائن) وانتقاله من مدينة إلى أخرى، وكان يعمل على إثارة أهل فارس وجمع كلمتهم؛ للدفاع عن بلادهم، وإعادة ما خسروه من بلاد فارس أمام العرب. وأثمرت محاولاته في توحيد جهود الفرس وأهل الأهواز في سبيل صد عدوهم المشترك، وقد أخبر قادة المسلمين في منطقة الأهواز عمر بن الخطاب باجتماع كلمة أتباع كسرى على قتال المسلمين، فما كان من عمر إلا أن كتب إلى سعد بن أبي وقاص: "ابعث إلى الأهواز جندًا كثيفًا مع النعمان بن مقرن وعجِّل، فلينزلوا بإزاء الهرمزان، ويتحققوا أمره". وتحرك (النعمان) بأهل الكوفة إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، فلما وصلها بادر إلى مهاجمة جيش (الهرمزان) في (رام هرمز)، فهزم الفرس وفتح المدينة، ولجأ الهرمزان إلى مدينة (تستر)، فسار (النعمان) بقوات الكوفة إليه، وسارت قوات البصرة إلى (تستر) أيضًا. وكان (أبو سبرة بن أبي راهم) قائدًا عامًّا على الجميع، فاستولى عليها بعد حصار دام أكثر من شهر. وخرج (أبو سبرة) لمطاردة المنهزمين إلى مدينة (السوس)، ونزل عليها ومعه (النعمان بن مقرن)، وبقي (النعمان) محاصرًا (السوس)، ثم اقتحمها عَنوة، وجاء أمر عمر بالحركة إلى (نهاوند). وكان سعد بن أبي وقاص قد ولَّى النعمان على (كسكر) بين الكوفة والبصرة، فكره النعمان منصبه الإداري هذا، وكتب إلى عمر يسأله أن يعزله؛ لأنه لا يريد أن يكون موظفًا ولا (جابيًا)، بل يريد أن يعيش في سبيل الله (غازيًا)، فكتب إليه عمر: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبدالله عمر (أمير المؤمنين) إلى النعمان بن مقرن، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعدُ: فإنه قد بلغني أن جموعًا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة (نهاوند)، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرًا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلهم غيضة (الأجمة؛ وهي مغيض ماء يجتمع فيه الشجر) فإن رجلاً من المسلمين أحب إليِّ من مائة ألف دينار والسلام عليك". كما كتب عمر إلى والي الكوفة يأمره أن يرسل إلى النعمان ثلثي الناس، ويبقي ثلثهم، وكتب أيضاً إلى أبي موسى الأشعري: "أن سر بأهل البصرة" إلى النعمان بهذه القوة مدينة (ماه)، وكتب إلى كافة قادة القوات: "إذا التقيتم فأميركم النعمان بن مقرن المزني"؛ [محمود شيت خطاب: قادة فتح بلاد فارس، ص: 100 - 103 بتصرف، ط3 /1974- دار الفكر]. فتح نهاوند (فتح الفتوح): بعد الهزيمة المروعة في القادسية اجتمع أهل فارس من كل فج بأرض نهاوند، حتى زاد عددهم عن مائة ألف وخمسين، وعليهم الفيرزان، وكان طليحة بن خويلد الأسدي مرسلاً من النعمان لاستكشاف الأحوال، فرجع بالخبر بأنه لا أحد حتى موقع نهاوند. ثم جاء كتاب عبدالله بن عبدالله بن عتبان من الكوفة إلى عمر مع (قريب بن ظفر العبدي) بأنهم قد اجتمعوا في (نهاوند) للمعركة مع الإسلام وأهله، وأن المصلحة أن نعجّل ثم نقصدهم فنردهم عما عزموا عليه من المسير إلى بلادنا، فقال عمر لحامل الخطاب: "ما اسمك" قال: "قريب"، قال "ابن من؟"، قال: "ابن ظفر"، فتفاءل عمر بذلك وقال: "ظفر قريب"، فصعد عمر للناس على المنبر، فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا وإني قد هممت بأمر فاسمعوا وأجيبوا وأوجزوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، إني قد رأيت أن أسير بمن قبلي حتى أنزل منزلاً وسطًا بين هذين المصرين، فأستنفر الناس ثم أكون لهم ردءًا حتى يفتح الله عليهم. فقام عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف في رجال من أهل الرأي، فتكلم كل منهم بانفراد، فأحسن وأجاد، واتفق رأيهم على ألا يسير عمر من المدينة، ولكن يبعث البعوث ويحوطهم برأيه ودعائه، ثم تداولوا الرأي في من يقود معركة (نهاوند) الكبرى، إلى أن قال عمر: "والله لأولين رجلاً يكون أول الأسنة إذا لقيها غدًا". قالوا "من يا أمير المؤمنين؟". قال: "النعمان بن مقرن"، فقالوا: هو لها. ثم كتب عمر إلى النعمان بالبصرة أن يسير بمن هناك من الجنود إلى (نهاوند)، فإذا اجتمعوا فكل أمير على جيشه، والأمير على الناس كلهم (النعمان بن مقرن)، فكمل جيش المسلمين ثلاثين ألفًا من المقاتلة، منهم من أعلام الصحابة، ورؤوس العرب خلق كثير. فسار الناس نحو (نهاوند)، وقد سار النعمان، وعلى المجنبتين حذيفة وسويد بن مقرن، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود، حتى انتهوا إلى الفرس وعليهم الفيرزان ومعه من الجيش كل من غاب عن القادسية في تلك الأيام المتقدمة. فلما تراءى الجمعان، كبَّر النعمان وكبَّر المسلمون ثلاث تكبيرات، فزلزلت الأعاجم، ورعبوا من التكبير رعبًا شديدًا، ثم أمر النعمان بحط الأثقال وهو واقف، فحط الناس أثقالهم وتركوا رحالهم، وحين حطوا الأثقال أمر النعمان بالقتال، فاقتتلوا ذلك اليوم والذي بعده والحرب بين الطرفين سجال. وفي يوم الجمعة ثالث يوم من القتال تجمعوا في حصنهم وحاصرهم المسلمون، فأقاموا عليهم ما شاء الله. ثم جرت مفاوضات بين المسلمين والفرس لم تنته إلى نتيجة. فجمع النعمان بن المقرن أهل الرأي من الجيش وتشاوروا في ذلك، فتكلم عمرو بن معدي كرب، فقال: "ناهدهم (هادنهم)، وكاثرهم"، فردوا عليه وقالوا: "إنما تناطح الجدران، والجدران أعوان لهم". ثم أشار طليحة الأسدي برأي، فاستجاده الناس، فأمر النعمان القعقاع بن عمرو ومن معه أن يذهبوا إلى البلد، فيحاصروا الفرس وحدهم، ويهربوا من بين أيديهم إذا برزوا إليهم، ففعل القعقاع ذلك، فلما برزوا من حصونهم، نكص القعقاع بمن معه، فاغتنم الفرصة الأعاجم وفعلوا ما ظن طليحة أنهم فاعلوه، وقالوا: "هي هي"، فخرجوا بأجمعهم، ولم يبق بالبلد من المقاتلة إلا من يحفظ الأبواب حتى انتهوا إلى الجيش، والنعمان بن مقرن على تعبئته وذلك في صدر نهار يوم جمعة. • فلما حان الزوال صلى النعمان بالمسلمين، ثم ركب برذوْنًا، فجعل يقف على كل راية ويحثهم على الصبر ويأمرهم بالثبات، وأخبرهم أنه سيكبّر ثلاث تكبيرات: إذا كبَّر الأولى تأهب الناس للحملة. وإذا كبَّر الثانية فلا يبقى لأحد أهبة. ثم الثالثة ومعها الحملة الصادقة، ثم رجع إلى موقعه. • بينما اصطف الفرس في المقابل صفوفًا هائلة في عَدد وعُدد لم ير مثله، وقد تغلغل كثير منهم بعضهم في بعض، وألقوا حسك الحديد وراء ظهورهم؛ حتى لا يمكنهم الهرب ولا الفرار ولا التحيز، ثم إن النعمان بن مقرن - رضي الله عنه - كبَّر الأولى وهز الراية، فتأهب الناس للحملة، ثم كبَّر الثانية، وهز الراية، فتأهبوا أيضًا. ثم كبَّر الثالثة وحمل الناس على المشركين، وجعلت راية النعمان تنقض على الفرس كانقضاض العقاب على الفريسة، حتى تصافحوا بالسيوف، فاقتتلوا قتالاً لم يعهد مثله ولا سمع السامعون بوقعة مثلها، فقد قتل من المشركين ما بين الزوال إلى الظلام ما طبق وجه الأرض دمًا. ووقع النعمان بن مقرن من على راحلته، وجاءه سهم في خاصرته فقتَله، ولم يشعر به إلا أخوه، فأخفى موته، ودفع الراية إلى حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - فأقام حذيفة أخاه نعيمًا مكانه، وأمر بكتم موته حتى لا ينهزم المسلمون. فلما أظلم الليل، انهزم المشركين مدبرين وتبعهم المسلمون، وكان الكفار قد قرنوا ثلاثين ألفًا بالسلاسل وحفروا حولهم خندقًا لئلا يفروا، فلما انهزموا وقعوا في الخندق وفي تلك الأودية، فهلك منهم بشر كثير نحو مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل في المعركة، وهرب قائدهم (الفيرزان)، واتبعه نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع بين يديه، فلحقه القعقاع عند ثنية همدان، فلم يستطع الفيرزان صعودها، فنزل، ومشي على رجليه وتعلق في الجبل، فاتبعه القعقاع حتى قتله. كان النعمان (كما يقول اللواء / محمود شيت خطاب): جنديًّا بمعنى الكلمة، يفضل دائمًا أن يكون (غازيًا) في الصفوف الأولى الأمامية في ساحات القتال، على أن يكون (واليًا) في المدن العامرة، متنعمًا في المنازل والقصور، كان يحب الجهاد لا يبالي أن يكون جنديًّا بسيطًا بين إخوانه المجاهدين، أو قائدًا من القادة، إذ كل ما كان يتمناه ويميل إليه هو مجابهة الأعداء ومصاولتهم لإعلاء كلمة الله في الأرض. وكان النعمان فارسًا مِقدامًا لا يعرف التردد والفرار، مكيثًا غير متسرع إلا لانتهاز فرصة سانحة. ومن الواضح من قصة حياته وسير أعماله أنه كان يقدر الموقف العسكري بكل دقة، ويعد كافة متطلبات المعركة قبل الإقدام على زج رجاله في المعركة. وكان دائمًا في الصفوف الأمامية بين جنوده ليضرب لهم مثالاً شخصيًّا يُحتذى به في الشجاعة والإقدام. وكان كثير الاستشارة لذوي الرأي من رجاله، فلا يقدم على عمل قبل أن يأخذ آراءهم، ويستمع إلى مناقشتهم؛ حتى يتوصل إلى الفكرة المعقولة، فيعمل بها.وكان - قبل ذلك وبعده، وهو القائد المحنك والجندي المخلص - إنسانًا يمتلئ حبًّا لكل الناس بعامة، ولقومه بخاصة. وعلى يديه أسلم قومه، فأنقذهم الله من النار. وكان هو وقومه يتكافلون ماديًّا ومعنويًّا. وهكذا كان دأب النعمان مع الناس جميعًا. وكان يحب أن يكون القدوة والمثل، فيضحِّي بنفسه في سبيل الله، ويرفض أن يكون في المؤخرة، كما يرفض حياة الدعة والمتْعة الدنيوية الزائلة، رضي الله عنه، وجزاه خير الجزاء.


٨ مشاهدات٠ تعليق
bottom of page