top of page
صورة الكاتبAdmin

صناعة المجد في رمضان - د. صالح العطوان الحيالي


صناعة المجد في رمضان - د. صالح العطوان الحيالي -------------------------------------------------- إن للمجد رجالاً لا يُعرف إلا بهم، ولا يُصنع إلا بسواعدهم الراغبة في التأثير الإيجابي، فنعرف المجد بمعرفة صناعه، ونستدل على آثار المجد بأهله المتميّزين. وإنّ ممن صنعوا المجد الحقيقي، وحققه فيه مكاسب باهرة لم يبسبقهم إليها أحد: أنبياء الله تعالى ورسله على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم. ويبقى صاحب أمجد مشروع حضاري، وأقدس قانون إصلاحي، وأعظم حضارة دينية وإنسانية النبي المُصلح والرّسول الممجّد محمد صلى الله عليه وسلم؛ فمجد محمد صلى الله عليه وسلم خلّدته مآثره الزاكية الطيّبة، وآثاره الطّاهرة المُطيّبة، وشمائله اللدنية المتميّزة. مجد محمد صلى الله عليه وسلم ثابت بأفعاله وأقواله الباهرة، وأخبار سيرته الخالدة، ويكفينا مئنة على ذلك أن الله تعالى أيّده بقانونه الرباني الإلهي الزاكي (قانون الشريعة الإسلامية)، وضمّنه جلّ جلاله ما يحتاج إليه النبي صلى الله عليه وسلم من مُرتكزات صناعة المجد العالي، وميكانزمات الرّقي الحضاري. ويبقى الفرق البيّن بين ما اضطلع به النبي صلى الله عليه وسلم من صناعة المجد، وبين ما اضطلع بصناعته من سبقه من أنبياء ورسل؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليصنع مجد العالمين جميعهم قبائل وشعوباً وأسباطاً، عرباً وعجماً، بِيضاً وسُوداً، إنساً وجنًّا. إن تأييد النبي صلى الله عليه وسلم بقانونٍ يصنع للورى مجدهم العالمي، ويُقيم للعالمين معايشهم، ويُحقّق لأناسيّ الخلق وجنّهم صلاحهم الدنيوي وفلاحهم الأخروي، لا يخلُ من دلالة تُؤكد بوضوح أن صُناّع المجد من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مُؤَيَّدُون من عند ربهم جلّ في عُلاه، متميّزون في مشاريعهم الرّامية للتأثير الإيجابي. والعجيب أن المجد الذي صنعه النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان متميّزا عمّا سبقه ممّا قام به قبله الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وكان فريدا في مضامين قانونه (قانون المجد) الذي تأيّد به من لدن ربه جلّ جلاله، وكان مُتفرّداً في مشاهده وملامحه ومقاصده التي لا شبيه ولا نظير ولا مثيل ولاكفُؤ لها. ونحن إذ ننعم بمقدم شهر رمضان؛ شهر الرحمة وعلوّ الهمة، شهر الصبر والمصابرة، شهر صناعة المجد، شهر الثبات والجلد، نستذكر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الهمة في النهوض بالأمة؛ لما جعل من رمضان مبعثاً للكدّ والتشمير عن ساعد الجدّ، وضرب فيه مواقف رصينة لا يصل مبلغها إلا من تشبّع بنفحات رمضان، وخالطت روحانية لطائفه الإيمانية شغاف قلبه. لقد سجّل لنا التاريخ الإسلامي مشاهد خالدة من الغزوات والسرايا، وخطّ لنا بمداد المجد ملاحم بطولية تليدة من فتوح البلدان والأمصار، كان صانعها محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم، تعزّز فيها دين الله تعالى، وغلب على ما تواضع عليه البشر من قوانين وحِكَم، فكانت صناعة النبي صلى الله عليه وسلم سَنَنًا (طريقة) لكل من ينشد المجد، وكان فيه المسلمون أنموذجا تحتذي به الأمم والمجتمعات في صناعة مجدها، ودَرْكِ مَبْلَغِ الباز وما يصنعه من صهوات المجد العالي وهو يُعالج عَالِيًا هُبَابَ الرّيح بجناحيه الخافقين. إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد لأمته أن تستلهم من رمضان دروساً في الصبر الذي يُعد أحد أهم شرائط (شروط) صناعة المجد لكل فرد وجماعة، وأراد أن يُرسّخ مفهوم ذاتية المجد؛ أي صناعة المجد كمكمسب ذاتي قبل أن يتجاوزه ليكون مكسبا يعود بالنفع على الآخرين، فكل مسلم يتطلّع لصناعة مجد نفسه؛ معنيٌّ لزاما في البداية أن ينتصر على هوى نفسه، ويتغلّب على نزغات قلبه، وأن يُصلح من حاله ليكون قوله نافذا مسموعا إذا همّ بإصلاح غيره، وفعله مقبولا إذا أراد صنع مجد أمّته. لهذا رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجدّ ما يكون في شهر رمضان، فكان يُعامل الشهر بما هو أهل له، حتى ينال به رِفْعَةً ومجدا، كان يُعامل ليل رمضان بالقيام، ويُعامل نهاره بالصيام، ويستغرق في تلاوة القرآن ومراجعته ومعاهدته ومُعارضته في رمضان، كذلك كان يُطعم الطعام ويبذل الصدقة ويجود بالخير كالريح المرسلة به (أي بالخير)، ويخص عشره الأواخر بالاعتكاف وملازمة المسجد، ويشدّ فيها المئزر، ويوقظ أهله للصلاة والذكر، ويجدّ في هذه الليال ما لا يجدّ في غيرها؛ لذا أقسم الله تعالى بها في قوله من سورة الفجر: ﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾. في أحد أقوال العلماء من غير ترجيحه وبه قال ابن عباس. في رمضان سيّر النبي صلى الله عليه وسلم الجيوش والكتائب غازياً وفاتحاً وناصراً وصانعاً لمجد أمم غرقت في غياهب الجهل الآسن، فكانت البداية بغزوة بدر وما تحقق معها من أهداف مرحلية، ضعضعت العدو وكسرت فيه وَهْمَ الإنتصار الذي لا يخيب والفوز الذي لا يخسر. لم يتأثر النبي صلى الله عليه وسلم بصوم رمضان ولم يمنعه الجوع والعطش في حرّ بلاد العرب أن يَسْتَسِنَّ طريق المجد ويسير فيه بخطى ثابتة لا يتحرّف فيها عن مقصده وهدفه فتمّ له ما أراد بحول من الله تعالى وتوفيقه. فعن غزوة بدر "قال ابن اسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليالٍ مضت في شهر رمضان في أصحابه. قال ابن هشام: خرج لثمانِ ليالٍ خَلَوْنَ من شهر رمضان...". كذا فتح مكة كان في شهر رمضان سنة ثمان من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة - وقد كان فتحاً مُبينا وانتصاراً باهراً - خرج صائماً في يوم حرٍّ شديدٍ، وأنه لما بلغ كراع الغميم أفطر على شربة ماء؛ فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ - وهو موضع بين مكة والمدينة - فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ. فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ. فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ. فَقَالَ: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ" . يعني حتى وإن احتج بعض بُلهاء القوم على افتخارنا بما صنعه النبي عليه الصلاة والسلام من مجد مُشَرِّف يوم فتح مكة؛ بأنه صلى الله عليه وسلم أفطر ولم يُكمل يومه كان الجواب على ذلك من عدّة أوجه منها: • أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد الفطر رغبة فيه، وإنما رحمة بمن صحبه في مسيره وغزوته. فهنا إذن تجلّت معاني الرّحمة والرّأْفة في رئيس الدولة وراعي الأمة وقائد الغزوة. • أن النبي صلى الله عليه وسلم قدّر ما هو أصلح وأنفع لتحقيق الأهداف العسكرية المُسطّرة، وهو استرجاع الأملاك المسلوبة، وتأديب أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكسر شوكتهم، وأن هذا الهدف مع ما يحتاجه إلى قوة بدنية تُضاف إلى قوة العتاد والعُدّة، لا بد له أيضاً من الفطر ولا أقول حدّ الشّبِع والرّيّ. وفي هذا السياق ثبت حضّ النبي صلى الله عليه وسلم على الإفطار عند لقاء العدو عموما لما كان أدعى للصبر على قتاله وحربه والانتصار عليه، وهو من جملة ما أمر الله تعالى به في قوله: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ . وفي الحديث الصحيح عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ - يعني في فتح مكة - وَنَحْنُ صِيَامٌ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ". فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ، وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلا آخَرَ، فَقَالَ: "إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفْطِرُوا". وَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا . وعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النَّاسَ فِي سَفَرِهِ عَامَ الْفَتْحِ بِالْفِطْرِ، وَقَالَ: تَقَوَّوْا لِعَدُوِّكُمْ . وعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النَّاسَ فِي سَفَرِهِ عَامَ الْفَتْحِ بِالْفِطْرِ، وَقَالَ: تَقَوَّوْا لِعَدُوِّكُمْ • لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم ممّن شهد معه فتح مكة وأفطر لفطره؛ أنه أمعن في الإفطار وأطايب الطعام والشراب، أو أنه أفطر حتى شبع وتريَّا، إنّما هي شربة ماء التي تقوّى بها المسلمون على عدوّ الله تعالى وعدوّ نبيّهم صلى الله عليه وسلم وعدوّهم. ويبقى في غزوة بدر وفتح مكة وغيرهما من الأحداث المفصلية التي شهدها زمن النبي صلى الله عليه وسلم تحديداً، كذا شهدها زمن صحابته رضي الله عنهم وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ الدرس في الصبر لمن كان المجد مطلبه، فالعبد المسلم التقيّ النقيّ الصفيّ لا يمنعه طوى بطنه ويُبس حلقه من المُضيّ قُدما نحو بلوغ مبلغ المجد التليد، ومبتدأ ذلك كله سياسة النفس وتهذيبها على وفق مضامين قانون الله عزّ وجلّ وتعاليم نبيه صلى الله

---------------------------------------

د. صالح العطوان الحيالي 20.6.2017.


٨ مشاهدات٠ تعليق
bottom of page