الرصافة.. لؤلؤة بادية الشام السورية - د. صالح العطوان الحيالي
--------------------------------------------------------------------- مدينة الرصافة شمالي بادية الشام السورية إلى الجنوب الغربي من الرقة، وتبعد عنها نحو خمسين كيلومتراً، كما تبعد نحو ثلاثين كيلومتراً عن مدينة الثورة الحديثة. وقد عرفت المدينة في العهد الروماني و البيزنطي باسم سيرجيوبوليس أي مدينة القديس سركيس. لهذه المدينة تاريخ موغل في القدم، ويحتمل أن تكون بدايتها في القرن التاسع قبل الميلاد، ويعتقد أنها هي نفسها (ر ص ف) أو (راصابا) التي ورد ذكرها في كتابات أشورية تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد كمركز آشوري، إلا أنه لا يوجد حتى الآن دلائل أثرية عن هذا الموقع في تلك الحقبة، ولم تقدم لنا الحفريات أي شيء نستند عليه حول هذا، وقد خضعت المدينة لاحقاً لسلطان تدمر. إلا أن أهمية الرصافة الاستراتيجية ابتدأت في العصر الروماني، كونها موقعاً حصيناً على حدود الإمبراطورية الرومانية لصد هجمات الفرس والبارثيين، حيث بنيت قلعة بسيطة وأقام الرومان فيها وحدة من الفرسان المحليين للتدخل السريع عند الضرورة. لكن تطوراً كبيراً حدث للمدينة منذ مطلع القرن الرابع الميلادي، بعد أن قتل فيها سركيس (سيرجيوس) الضابط العربي في الجيش الروماني، والذي قتله الرومان لرفضه التخلي عن ديانته المسيحية أثناء حقبة اضطهاد المسيحيين في روما. وعدّ سيرجيوس من القديسين الذين يمجدون في البادية و سورية وبلاد ما بين النهرين، وتحول قبره الذي دفن فيه خارج أسوار الرصافة إلى مزار يؤمه الزوار من كل منطقة البحر المتوسط، وقد اجتمع في المدينة خمسة عشر مطراناً وقرروا بناء كنيسة فيها على اسم القديس سيرجيوس ومالبث هذا الاسم أن أصبح اسم المدينة فصارت تعرف بـ “سيرجيوبوليس”، وأصبحت مركز أسقفية. خضعت بعد ذلك لنفوذ الغساسنة الذين شادوا فيها الكثير من المباني، وينسب إلى الملك الغساني (الحارث الثاني) فضل ترميم الأسوار، وتشييد الكاتدرائية الكبرى في الرصافة، وبنى ابنه المنذر بن الحارث خزانات المياه ودعم الأسوار. وبلغت المدينة في أواخر القرن الخامس وخلال القرن السادس الميلادي قمة الازدهار، وأدى غناها إلى طمع الفرس بغزوها، مما دعا القيصر البيزنطي جوستنيان لاتخاذ تدابير لحمايتها، فبنى عام 542م أسوارها الضخمة بعد أن كانت محاطة بسور من الطين. كما كرم كنيسة القديس الشهير سركيس، فأحاط المكان بسور منيع وبنى خزانات للمياه وشيد بيوتاً وقاعات استقبال وأبنية أخرى كما يروي كاتب بلاط القيصر جوستنيان. مع مقدم الفتح العربي الإسلامي بعد معركة اليرموك 636م، شهدت الرصافة مرحلة ازدهار ثانية، وقد اختار الخليفة هشام بن عبد الملك الرصافة وبناها وإليه تنسب فيقال “رصافة هشام” وبنى فيها قصرين اكتشف أحدهما مؤخراً، ومنها خرج عندما تولى الخلافة، وكانت وفاته بالرصافة وفيها قبره. وقد عاشت الرصافة في عهد الخليفة هشام (105-125هـ/724-7433م) آخر فترة ازدهار لها، ويحتمل أن تكون الحياة قد انطفأت في الرصافة بعد غزو المفول لسورية في القرن الثالث عشر الميلادي، حيث غادرها أهلها ولم يعودوا إليها بعد ذلك. يعود اكتشاف هذه المدينة إلى أواخر القرن السابع عشر الميلادي، فقد عثرت جماعة من التجار البريطانيين أثناء سفرهم من حلب إلى تدمر عام 1691م على أطلال واسعة بين الفرات وتدمر، ثم كتب أحد أفراد هذه الرحلة مقالاً عن الأطلال إلى إحدى المجلات الإنكليزية، ذكر فيه اسم الرصافة ثم انقضت فترة طويلة قبل أن يُثار الموضوع مرة أخرى في عام 1903م، ثم زارها عام 1907م المؤرخان سارّة وهرتزفيلد وكتبا عنها، يضاف إلى هذا ما كتبه عنها الرحالة موزيل . ابتدأت الحفريات الأثرية الجدية في الموقع عام 1952م على يد بعثة من معهد الآثار الألماني واستمرت التنقيبات حتى عام 1965م، وتم استئناف التنقيبات عام 1976م من قبل معهد البحوث الأثرية. تظهر على أرض هذه المدينة، داخل سورها، أطلال عديدة من العصرين البيزنطي والإسلامي، فقد وصل من عهد جوستنيان، خزانات الماء الواسعة المبنية بالآجر، وأسوارها الضخمة التي مازالت في وضع سليم، وتعد واحدة من أجمل العناصر المعمارية في المدينة. تحيط الأسوار بالمدينة بشكل مستطيل، ويبلغ عرض السور ثلاثة أمتار، وطول الجدار الشمالي 536.5 متراً والجدار الشرقي 350.35 متراً والجدار الجنوبي 549.40 متراً والجدار الغربي 411.20 متراً، ولهذه الأسوار أربع بوابات رئيسية، ويوجد فيها واحد وخمسون برجاً ذات أشكال مستطيلة أو مستديرة أو خماسية الأضلاع وتحتل الزوايا الأربع أبراج مستديرة. وتبلغ المساحة المحصورة بين هذه الأسوار إحدى وعشرين هكتاراً. وتدعم الأسوار من الداخل أعمدة ضخمة بنيت بحجارة كبيرة. وقد تم اكتشاف جزء من الشارع المستقيم الذي يصل بين البوابة الشمالية والجنوبية ويبلغ طوله 135 متراً ويراوح عرضه بين 2.10 متر و 2.80 متر ويقع على جانبيه رصيفان، وتحيط به الحوانيت التي لازالت بقاياها قائمة على ارتفاع متر واحد. وقد ظهر غنى المدينة في بنائها الذي يعتمد على الرخام الوردي المزين بالجص. كانت كنيسة المدينة قادرة على بناء الكنائس الكبيرة، فبني بين أواخر القرن الخامس الميلادي وبداية القرن السادس الميلادي ثلاث كنائس ضخمة وهي: الكنيسة التي بنيت في أواخر القرن الخامس الميلادي ولا تزال معظم جدرانها قائمة حتى اليوم، والكنيسة التي بنيت في السنوات الأولى من القرن السادس الميلادي وقد خربت بفعل الزلازل قبيل القرن التاسع الميلادي، والمبنى المركزي الذي بني في العقود الأولى من القرن السادس الميلادي، زمن الإمبراطور جوستنيان، وخربتها الهزة التي ضربت في القرن السادس الميلادي، لكن تخريبها لم يكن كلياً فجدرانها الخارجية لا تزال قائمة، عدا الزاوية الجنوبية الغربية، ولها مخطط مختلف عن بقية الكنائس. وهناك بناء من العصر الإسلامي ذو قباب ومسجد وحمام خاص وخان. .و الجدير بالذكر أن الموقع بحال جيدة ولم يتعرض لأعمال تخريب أو أضرار.