السلطان المريني ابو عنان فارس - د. صالح العطوان الحيالي
--------------------------------------------------------
السلطان المريني ابو عنان فارس " الفارس الشاعر.. عالم الملوك وملك العلماء " نسبه ونشأته ــــ هو أبو عنان فارس المتوكل على الله بن أبي الحسن علي بن أبي سعيد عثمان المريني، من أشهر ملوك بني مرين بالمغرب الأقصى. ولد بمدينة فاس الجديد (الدار البيضاء) فِي الثَّانِي عشر من ربيع الأول سنة 729هـ. قال الناصري: "أمه أم ولد رُومِية اسْمهَا شمس الضُّحَى، وقبرها بشالة مَعْرُوف إِلَى الْآن، رَأَيْت مَكْتُوبًا عَلَيْهِ بالنقش أَنَّهَا توفيت لَيْلَة السبت رَابِع رَجَب الْفَرد سنة خمسين وَسَبْعمائة، ودفنت إِثْر صَلَاة الْجُمُعَة فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من الشَّهْر الْمَذْكُور، وَحضر لدفنها أَعْيَان الْمشرق وَالْمغْرب". صفته وهيئته ــــ قال الناصري: "كَانَ السلطان أَبُو عنان رَحمَه الله أَبيض اللَّوْن، تعلوه صفرَة، طَوِيل الْقَامَة، يشرف على النَّاس بِطُولِهِ، نحيف الْبدن، عالي الْأنف حسنه، أعين، أدعج، جَهورِي الصَّوْت، فِي كَلَامه عجلة حَتَّى لَا يكَاد السَّامع يفهم مَا يَقُول، عَظِيم اللِّحْيَة، تملأ صَدره أسودها، وَإِذا مرت بهَا الرّيح تَفَرَّقت نِصْفَيْنِ حَتَّى يستبين مَوضِع الذقن". * إمارته على تلمسان كَانَ أبو عنان فارس المريني محبوبًا فِي قومه وعشيرته، أثيرًا عِنْد وَالِده، متميزًا بذلك عَن سَائِر إخوته؛ لفضله وَعَمله وصيانته وعفافه واستظهار الْقُرْآن الْكَرِيم، وَغير ذَلِك من الْأَوْصَاف الْحَسَنَة. فولاه أبوه على تلمسان بعد أن استولى عليها سنة 737هـ. بيعته بالملك ــــ لما بلغ أبو عنان فارس خبر موت أبيه في ربيع الأول سنة 7499هـ، غادر أبو عنان مدينة تلمسان بعد أن تنازل عليها لآل زيان متجهًا إلى مدينة فاس حيث نصب نفسه ملكا خلفا لأبيه، وَقد استتب أمره، وتلقب بلقب "المتوكل على الله"، وأعلن نفسه أميرًا للمؤمنين. ولما تبين له أن أباه ما زال على قيد الحياة، لم يتنازل له على الحكم، بل ثار عليه وقاتله إلى أن أرغم أباه لأن يستسلم ويتنازل له على الملك، ولم يستب أمره إلا بعد وفاة والده سنة 752هـ / 1351م. اتساع ملكه ـــــ واجهت الملك الشاب أبو عنان فارس المريني -وهو لم يتجاوز يومذاك الخامسة والعشرين من عمره- ظروف قاسية. فبدأ بإخضاع بني عبد الواد (وكانوا أمراء زناتة بتلمسان) فقاتلوه فظفر بهم ودخل تلمسان. وانتظم له أمر المغرب الأوسط. وعصاه أخ له يدعى "أبا الفضل" فأرسل إليه من قاتله في جبل "السكسيوي" وجبال "المصامدة" من بلاد السوس، فاعتقل وحمل إليه فسجنه أياما ثم أمر بخنقه في محبسه سنة 754ه. وقصد إفريقية سنة 758هـ فانتزع قسنطينة وتونس من أيدي الحفصيين. وبدت له ريبة في إخلاص بعض قواده، فعاد إلى فاس، وقتلهم. محاولته توحيد المغرب كله ــــ واصل أبو عنان فارس حركة التوحيد لأقطار الشمال الأفريقي -التي بدأها أبوه أبو الحسن، فأزال دولة بني زيان سنة 753هـ /1352م وتابع سيره إلى إفريقية ودخل تونس في سنة 758هـ / 1357م، إلا أن انفجار الثورات على مستوى المغرب كله خصوصا في فاس وطمع بعض أقربائه في السلطة، جعله يعود إلى عاصمته، فوفاه الأجل في العام التالي. عالم الملوك وملك العلماء ــــ اشتهر السلطان أبو عنان فارس المريني بحب العلوم والآداب، وإثابة أهل العلم، ومناظرتهم. قال الناصري: "َكَانَ فَارِسًا شجاعا يقوم فِي الْحَرْب مقَام جنده، وَكَانَ فَقِيها يناظر الْعلمَاء الجلة، عَارِفًا بالْمَنْطق وأصول الدّين، وَله حَظّ صَالح من علمي الْعَرَبيَّة والحساب، وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ عَارِفًا بناسخه ومنسوخه، حَافِظًا للْحَدِيث عَارِفًا بِرِجَالِهِ، فصيح الْقَلَم، كَاتبا بليغا حسن التوقيع، شَاعِرًا". وللسلطان أبي عنان رَحمَه الله آثَار دينية من بِنَاء الْمدَارِس والزوايا وَغير ذَلِك، ومدرسته العنانية بفاس مَشْهُورَة إِلَى الْآن، وَمن مدارسه الْمدرسَة العجيبة بحومة بَاب حُسَيْن من سلا وَقد صَارَت الْيَوْم فندقا يعرف بفندق أسكور، وَمِمَّا قَالَه أَبُو بكر بن جزي فِي بعض مَا أنشأه السُّلْطَان الْمَذْكُور من الزوايا قَوْله: هَـــــــــذَا مَحـــــــل الْفضل والإيثار ....... والرفق بالسكـــــــــــان وَالزُّوَّارِ دَار على الْإِحْسَـان شيدت والتقى ............... فجزاؤها الْحسنى وعقبى الدَّار هِـــــــــيَ ملْجأ للواردين ومورد ................ لِابْنِ السَّبِيل وكل ركب ساري آثَـــــــار مَوْلَانَا الْخَلِيفَة فَارس ...................... أكْرم بهَا فِي الْمجد من آثَار لـــــا زَالَ مَنْصُور اللِّوَاء مظفرا .................... ماضي العزائم سامي الْمِقْدَار بـــنيت على يَد عبدهم وخديم ......................... بابهم الْعلي مُحَمَّد بن حدار فِـي عَام أَرْبَعَة وَخمسين انْقَضتْ ................... من بعد سبعمئين فِي الْأَعْصَار وقال الأمير إسماعيل بن الأحمر: "هو الملك العالم بالمفروض والمندوب. الهمام الذي لم يزل لأذيال الشهامة سحوب. من أشرقت ببهائه، وظهر بظهور روائه، غياهب الظلم. ونجم بتدقيق ذكائه، وتحقيق آلائه، مأثور العلم والكرم. فلا جهة من جهات البر إلا عم علمه لديها، ولا ناحية من نواحي الفقر إلا غطى كرمه عليها. وكانت الملوك تبجله، ومقصده تعجله ولا تؤجله؛ لما كان أسدهم الهصور، وفارسهم المنصور". * ومن قوله في الحكمة: وإذا تعرَّض للرِّياسة خامل ........... جرت الأمور على الطريق الأعوج! وكنت يوما جالسا معه بمقعد ملكه من المدينة البيضاء من فاس فدخل عليه رجل من المنخرطين في سلك المتصلحين، فلما نظر إلى المتصلح قال بديهة: تراهم في ظواهرهم كرامًا ............ ويخفون المكيدة والخداعا! وَقد لخص لسان الدين بن الخطيب رحمه الله فِي رقم الْحلَل سيرة السلطان أبي عنان فارس، حيث لقَّبه "عالم الملوك، وملك العلماء"، فقال: وخلـــــــــــــــــــص الْأَمر لـــكف فَـــــارس ....... باني الزوايا الكثر والمدارس الْأسد المــــــــــــــــــــــــفترس الْمَصْنُوع لَهُ ....... من نَالَ من كل المساعي أمله وَاحِد آحَاد الْمُـــــــــــــــــــــــلُوك العظما ............... ومطلع النَّصْر إِذا مَا أقدما ومخجل الْغَيْــــث إِذا الْغَيْث هما ................................ الْملك وَملك العلما أوجب حــــــــــــق الشّعْر وَالْكِتَابَة........................... فَأَمْلَتْ أعلامها جنابه واستــــــــــــــــجلب الأماثل الكبارا .........................النبهاء الْعلية الأخيارا وفاة السلطان أبي عنان فارس ــــ عاد السلطان أبو عنان فارس إلى دار مملكته بفاس سنة 7599هـ، بعد أن ضم تونس إلى ملكه، حيث أدركه العيد الأكبر، حَتَّى إِذا قضى الصَّلَاة من يَوْم الْأَضْحَى أدْركهُ الْمَرَض بالمصلى وأعجله طائف الوجع عَن الْجُلُوس للنَّاس يَوْم الْعِيد على الْعَادة، فَدخل قصره وَلزِمَ فرَاشه. حيث توفّي السلطان أبو عنان قَتِيلا، خنقه وزيره الْحسن بن عمر الفودودي يَوْم السبت 28 من ذِي الْحجَّة 759هـ، وَسنه يَوْم توفّي ثَلَاثُونَ سنة. وبوفاة أبي عنان انتهت المحاولات المرينية من أجل توحيد الشمال الإفريقي، وتقلص النفوذ المريني في المغربيين الأوسط والأدنى ثم زال النفوذ المريني من جهة الشرق، فلم يحاول السلاطين الذين من بعده أن يقوموا بأية غزوة في الأقاليم. وبدأ التدهور في الدولة المرينية بعد وفاة أبي عنان فارس؛ بسبب تسلم أمرها سلاطين ضعاف ففقدوا المغربين الأدنى والأوسط، كما استولى البرتغاليون على مدينة سبتة سنة 818هـ / 1415م، فكان هذا بداية لانهيار دولة بني مرين، ثم استولى البرتغاليون على جزء كبير من ساحل المغرب واحتلوا طنجة سنة 869هـ / 1464م واقتصرت الدولة المرينية على فاس.