معركة عين جالوت - د.صالح العطوان الحيالي
-----------------------------------------
عين جالوت المعركة التي اعادت الى الاسلام هيبته واثارها على الامة الاسلامية عاث جيش هولاكو او جيش التتار واتباعه في الأرض إفساداً عظيماً، والله - عز وجل - لا يصلح عمل المفسدين,وبرغم أن جيش هولاكو او جيش التتار جيش مُفسد إلا أنه سُلط على المسلمين فترة من الزمان(أربعين سنة تقريباً)، وهُزم أمامهم المسلمون في مئات المواقع الحربية, ثم دارت الأيام وتمت المعركة الهائلة عين جالوت، وانتصر المسلمون انتصاراً مبهراً. (وتلك الأيام نداولها بين الناس).وهناك سؤالان قد يخطران على بال المحلل للأحداث، والمتدبر في مجريات الأمور. وللسؤالين إجابة واحدة. السؤال الأول ـــ:كيف سُلّط جيش هولاكو او جيش التتار الفاسد المفسد على أمة الإسلام وهي خير منه مهما خالفت المنهج، ومهما قصّرت في واجباتها؟ السؤال الثاني ــــ:جيش هولاكو او جيش التتار الذي انتصر على المسلمين في كل المواقع السابقة هو نفس جيش التتار الذي هُزم في عين جالوت.. لماذا انتصر في السابق؟ وما الذي حدث حتى يهلك الجيش بكامله بهذه الصورة العجيبة؟ والإجابة على السؤالين نجدها في جزء من خطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكان قد أرسل خطاباً إلى سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - الذي كان يقود الجيوش الإسلامية المتجهة لحرب الفرس في موقعة القادسية. يقول امير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - يخاطب سعداً - رضي الله عنه -: "فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكون أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا نُنصرْ عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا, فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله، يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدّونا شر منا، فلن يُسلَّط علينا، فرب قوم سُلِّط عليهم مَن هو شر منهم، كما سُلّط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفارُ المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً". هذا جزء من رسالة الفاروق عمر - رضي الله عنه -، والتي تُعد من أنفس ما قال، ومن أعظم الرسائل على وجه الأرض, والرسالة طويلة, ودراستها في غاية الأهمية لبناء الأمة. في هذا الجزء الذي ذكرناه يتضح لنا أن الله - عز وجل - أحياناً يسلط الكفار والمفسدين على المسلمين إذا عمل المسلمون بمعاصي الله، فإذا التزم المسلمون بتقوى الله - عز وجل - وساروا على منهج ربهم ومنهج رسوله - صلى الله عليه وسلم - انتصروا على الجيوش التي طالما انتصرت عليهم. لم ينتصروا عليها لقوة جسد أو لكثرة عَدد أو لكفاءة عُدد، وإنما ينتصرون لارتباطهم بربهم، وبُعد أعدائهم عنه - سبحانه -.من هنا نفهم لماذا سُلّط التتار أربعين سنة على المسلمين في الأرض. ومن هنا نفهم لماذا انتصر المسلمون في عين جالوت على الجيش الذي دوّخ بلاد المسلمين عشرات الأعوام.ومن هنا أيضاً نفهم أحداثاً كثيرة في التاريخ، وأحداثاً كثيرة في الواقع. فإذا رأيتم ضعفاً وخوراً وجبناً واستكانة في جيوش المسلمين.وإذا رأيتم تبعية لغرب أحياناً، ولشرق أحياناً أخرى. وإذا رأيتم هواناً في الرأي، وسقوطاً للهيبة، وذلة في كل الأحوال.وإذا رأيتم موالاة لمن سفك دماء المسلمين، وتحالفاً مع من دمّر ديار المسلمين، وصداقة مع من شرّد ملايين المسلمين، واستعانةً بمن خرّب اقتصاد المسلمين.إذا رأيتم أن الأمة العظيمة الكبيرة الكثيرة قد أصبحت لا تساوي شيئاً في عيون أعدائها, فيتطاول عليها أخس أهل الأرض، من إخوان القردة والخنازير، ومن عبّاد البقر، ومن عبّاد البشر، ومن الملحدين.إذا رأيتم كل ذلك, فاعلموا أن الأمة تعمل بمعاصي الله، وأن الأمة لا تتبع شرع الله, وأن الأمة سقطت من عين الله, وأن الله - عز وجل - بنفسه هو الذي يُسلّط عليها الفاسدين من اليهود والصليبيين والهندوس والشيوعيين وغيرهم. أهذا شيء يدعو إلى الإحباط واليأس؟ أبداً إنه يدعو إلى التفكر والتدبر والاستفادة من التاريخ والعمل.وعين جالوت بين أيدينا؛ وإلا فلماذا ندرس هذه الأحداث التاريخية التي مرّ عليها قرون وقرون؟ العودة إلى الله - عز وجل - ليست صعبة.مهما غرقت الأمة في معاصيها، ومهما ابتعدت عن كتاب ربها، ومهما ضلت طريقها، فإنها تعود إلى الله - عز وجل - في لحظة واحدة. هذا إذا أرادت أن تعود. هذا إذا أرادت أن تعيش. بل هذا إذا أرادت أن تسود وتقود وترفع رأسها وتُعزّ شأنها. مهما ابتعدنا عن الله فإنه يقبلنا إذا عدنا إليه, بل يفرح بنا - سبحانه وتعالى - إذا عدنا إليه.روى البخاري عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ)). فقط علينا أن نعود إلى الله, وسنرى عين جالوت, وألف عين جالوت. هذا وحده إذن هو التفسير للانتصار والهزيمة في الإسلام ينتصر المسلمون بارتباطهم بربهم، ويُهزمون ببُعدهم عن الشرع والله - عز وجل - لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون. تحرير دمشق ـــ نعود إلى قطز - رحمه الله - بعد الانتصار الرائع في عين جالوت. لم تنته مهمة الملك المظفر بعد, ما زال هناك تتار في بلاد الشام, ما زال هناك تتار في دمشق وحمص وحلب وغيرها من المدن الشامية, وما زال هناك تتار في العراق وتركيا وفارس وغيرها.وليس في حياة قطز - رحمه الله – راحة.مع كثرة الشهداء وكثرة الجراح والآلام, ومع الإرهاق الشديد الذي يعاني منه الجيش المناضل البطل,الذي عبر صحراء سيناء بكاملها في شهر يوليو، والذي حارب في غزة، ثم اجتاز فلسطين كلها من جنوبها إلى شمالها حتى وصل إلى عكا، والذي عاد بعد ذلك إلى عين جالوت، والذي خاض المعركة الهائلة مع أقوى جيوش الأرض. مع كل هذه المعاناة إلا أن الخطوة التالية مباشرة لقطز بعد انتصار عين جالوت المجيد أن يتجه إلى دمشق في الشمال. ودمشق هي أولى المحطات الإسلامية التي تقع تحت سيطرة التتار، وهي تقع على مسافة مائة وخمسين كيلومترًا تقريباً من عين جالوت إلى الشمال الشرقي منها. لابد من تطهير هذه المدينة الإسلامية العظيمة من دنس التتار, ولابد من استغلال فرصة الانكسار الرهيب في جيش التتار فتُحرر دمشق وغيرها قبل أن تأتي إمدادات التتار من فارس أو من أوروبا أو من الصين. وقطز - رحمه الله - القائد المحنك أراد أن يهيّئ الفرصة العظمى لجيشه في الانتصار على قوات التتار في دمشق، وهو يعلم أن جيش التتار قد قتل بكامله في عين جالوت، ولم ينقل أحد منهم الخبر إلى دمشق، فأراد هو أن ينقل خبر النصر العظيم إليهم، فيرفع بذلك من معنويات المسلمين، ويضع من معنويات الحامية التترية في دمشق؛ فيسهل عليه بذلك فتح تلك المدينة العظيمة. وبالفعل أرسل رسالة عظيمة تحمل بشريات النصر المجيد, وكان مما جاء في هذه الرسالة: "أما النصر الذي شهد الضرب بصحته، والطعن بنصيحته، فهو أن التتر خذلهم الله - تعالى –(ولاحظ أنه ينسب النصر إلى الله)، استطالوا على الأيام، وخاضوا بلاد الشام، واستنجدوا بقبائلهم على الإسلام". وهذه عساكر الإسلام مستوطنة في مواطنها، ما تزلزل لمؤمن قدم إلا وقدم إيمانه راسخة، ولا ثبتت لأحد حجة إلا وكانت الجمعة ناسخة، ولا عقدت برجمة ناقوس إلا وحلها الأذان، ولا نطق كتاب إلا وأخرسه القرآن. ولم تزل أخبار المسلمين تنتقل إلى الكفار، وأخبار الكفار تنتقل إلى المسلمين، إلى أن خلط الصباح فضته بذهب الأصيل، وصار اليوم كأمس ونُسخت آية الليل بسورة الشمس. إلى أن تراءت العين بالعين، واضطرمت نار الحرب بين الفريقين، فلم تر إلا ضرباً يجعل البرق نضواً، ويترك في بطن كل من المشركين شلواً، وقتل من المشركين كل جبار عنيد، ذلك بما قدمت أيديهم (وما ربك بظلام للعبيد). وصل الكتاب يحمل البشارة إلى أهل دمشق، وفي الغالب وصل الكتاب في يوم 27 أو 28 رمضان، واستقبل المسلمون الخبر بفرح لا يوصف؛ فقد يئس الكثير من إمكانية هزيمة التتار، فلما سمعوا بأخبار الانتصار المبهر ارتفعت هممهم إلى السماء، ورأوا عمالقة التتار أقزاماً، وقام الشعب في دمشق بثورة عارمة على جيش المغول، وأمسكوا بجنود التتار وفتكوا بهم، فما استطاعوا من قيام، وما كانوا منتصرين. لقد سقطت هيبة التتار، وتنفس المسلمون الصعداء بعد قهر وبطش استمر أكثر من ستة شهور. وانتهى المسلمون من أمر الحامية التترية بسرعة، فمنهم من قتل ومنهم من أسر، ومنهم من فرّ، واتجه المسلمون بعد ذلك للانتقام من النصارى الذين تطاولوا جداً على أهل الإسلام في أثناء سيطرة التتار على دمشق، وقد ذكرنا طرفاً من أعمال النصارى في دمشق قبل ذلك, وتجاوز بعض المسلمين الأمر إلى حرق الديار والكنائس، وإلى قتل البعض منهم، وكاد الأمر يخرج عن السيطرة، ونشط بعض الغوغائيين، وقرروا أيضاً الفتك باليهود الذين يعيشون في دمشق، لولا أن قام العلماء ينصحون بعدم الظلم؛ لأن اليهود لم يشتركوا مع النصارى في إيذاء المسلمين أيام حكم التتار، وتكهرب الجو في دمشق، وكادت الفتنة أن تعم في البلاد, وامتزجت في نفوس الناس مشاعر السرور والزهو بمشاعر الانتقام والتشفي, وتأزّم الموقف جداً. وبينما هم كذلك , وفي اليوم الثلاثين من رمضان سنة 658 هجرية ـ وصل البطل العظيم الملك المظفر قطز - رحمه الله - إلى دمشق, بعد خمسة أيام من يوم عين جالوت. واستقبله الناس استقبال الفاتحين، وعلقت الزينات في الشوارع، وخرج الرجال والنساء والأطفال يستقبلون البطل المظفر.هذه هي الفرحة الحقيقية.(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون). فرحة النصر لدين الله، والرفعة للإسلام والعزّة للمسلمين. لا تقارن هذه الفرحة بفرحة الطعام والشراب والمال والجاه والسلطان. العيد الحقيقي ــــ دخل الجيش المملوكي المسلم دمشق, واستتب الأمن الحقيقي بسرعة عجيبة, لم يحدث شيء مما يقع عند دخول المستعمرين البلاد فتعم الفوضى، ويُترك الحبل على الغارب، وتنتهك الحرمات أمام أعينهم وتنتهب المحلات والديار وهم يشاهدون. لم يحدث كل هذا, إنما استقر الوضع بسرعة، بل أمن النصارى واليهود على أرواحهم وأموالهم، وقام قطز - رحمه الله - بعزل ابن الزكي قاضي دمشق الذي عينه التتار، وكان موالياً لهم، وعيّن مكانه نجم الدين أبا بكر بن صدر الدين بن سني الدولة، وبدأ يفصل في القضايا، ويحكم في المخالفات التي تمت بين المسلمين والنصارى , حتى لا يُظلم نصراني في بلاد المسلمين, هذا مع كل ما فعله النصارى بالمسلمين أثناء احتلال التتار للمدينة. وفي اليوم التالي لدخول قطز - رحمه الله - إلى دمشق كان عيد الفطر. وهو أعظم عيد مرّ على المسلمين منذ أربعين سنة، لم يكن عيداً للفطر فقط، بل كان أيضاً عيدًا للنصر والتمكين. (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم). لم يضع قطز - رحمه الله - وقتاً بل أرسل مقدمة جيشه بقيادة بيبرس تتبع الفارين من التتار، وتُطهّر المدن الشامية الأخرى من الحاميات التترية، فوصلت القوات الإسلامية إلى حمص، واقتحمت على التتار معسكراتهم ففروا مذعورين، وأطلق المسلمون الأسرى المسلمين الذين كانوا في قبضة التتار، وانطلقوا خلف الحاميات التترية الهاربة، فقتلوا أكثرهم، وأسروا الباقين، ولم يفلت منهم إلا الشريد. وهكذا حررت حمص بسرعة، واتجهت القوات الإسلامية إلى حلب، ففر منها التتار كالفئران المذعورة، وانطلقوا يجرون أذيال خيبتهم، وسبحان مغيّر الأحوال. ما بين طرفة عين وانتباهتها يغيّر الله من حالٍ إلى حال. وطَهّر المسلمون بلاد الشام بكاملها في غضون بضعة أسابيع، وعادت من جديد أرض الشام إلى ملك الإسلام والمسلمين, نسأل الله لها ولسائر بلاد المسلمين دوام التحرر والعزة. وأعلن قطز - رحمه الله - توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته، بعد عشر سنوات من الفرقة، وذلك منذ وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب - رحمه الله - في سنة 648 هجرية, وخُطب لقطز - رحمه الله - على المنابر في كل المدن المصرية والفلسطينية والشامية، حتى خطب له في أعالى بلاد الشام والمدن حول نهر الفرات. وعاش المسلمون أياماً من أسعد أيامهم. وبدأ قطز - رحمه الله - يوزع الولايات الإسلامية على الأمراء المسلمين،وكان من حكمته - رحمه الله - أنه أرجع بعضاً من الأمراء الأيوبيين إلى مناصبهم؛ وذلك ليضمن عدم حدوث الفتنة في بلاد الشام، لأنه لا شك أن هؤلاء لهم أتباع من المسلمين، ولم يخش قطز - رحمه الله - من خيانتهم، وخاصة بعد أن تبين لهم أنه لا طاقة لهم بقطز - رحمه الله - وبجنوده الأبرار. أعطى قطز - رحمه الله - إمارة حمص للأشرف الأيوبى - الذى كان موالياً للتتار - بعد أن أظهر ندمه وتوبته، وأرسل إلى قطز قبل عين جالوت مع صارم الدين أيبك أنه سوف ينهزم عمداً بين يدى قطز، والله أعلم لو كان النصرُ حليف التتار ماذا كان فاعلاً، فهذا بينه وبين الله - عز وجل -، ولكن المهم الآن أنه اعترف بخطئه السابق الجسيم من موالاته للتتار، وقبل حكم حمص تحت رعاية قطز - رحمه الله -، وأعطى قطز - رحمه الله - إمارة حلب إلى علاء الدين بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل الذى مات منذ شهور قليلة، وأعطى إمارة حماة إلى صاحبها الأسبق الأمير المنصور، والذى كان يقاتل معه في القوات الإسلامية المشتركة في عين جالوت، وعين لأمير جمال الدين آقوش الشمسي على الساحل الفلسطينى وغزة، أما دمشق فقد عين عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبى. وهكذا استقرت الأوضاع تماماً في بلاد الشام وفلسطين، وقويت شوكة الإسلام، واختفي كلُ تهديد يمسّ أمن المسلمين ورعاياهم من النصارى واليهود. وفي اليوم السادس والعشرين من شهر شوال سنة 6588 هجرية بعد شهر كامل من يوم عين جالوت بدأ السلطان قطز - رحمه الله - رحلة عودته إلى عاصمته القاهرة, فكثير من الأوضاع السياسية هناك يحتاج إلى استقرار، وكثير من الأمور تحتاج إلى إدارة, وقد أصبحت دولة قطز - رحمه الله - تصل من الفرات إلى حدود ليبيا، ولابد من إعادة تنسيق كثيرٍ من الأوراق, ولا ننسى أن قطز - رحمه الله - لم يتول الحكم حتى ذلك اليوم إلا منذ أحد عشر شهراً فقط، فقد تولى الحكم في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 657 هجرية، وما زالت تنتظره الآلاف من الأعمال. هكذا تم النصر المبين على التتار، واستيقظ المسلمون من الكابوس المزعج الذى آلمهم في كل السنوات الماضية. آثار عين جالوت ـــــ سبحان الله, مع أن موقعة عين جالوت هذه كانت موقعة واحدة، وتمت في يوم واحد إلا أن آثارها كانت من القوة بحيث لا تتخيل، وكانت من الكثرة بحيث لا تحصى, آثار عين جالوت كانت في غاية الأهمية، ولا نستطيع في هذه العجالة أن نمرّ عليها كلها، ولكن سنمرّ على طرفٍ منها, وعلى الدارسين والمحللين أن يبحثوا في هذه الآثار بمزيد من التفصيل والدراسة. الأثر الأول: ــــ عاد المسلمون إلى الله - عز وجل - أثناء التحضير وأثناء الإعداد لهذا اللقاء، وأثناء المعركة ذاتها، وبعد المعركة، ولمدة طويلة من الزمان, لقد وضحت المعادلة جداً في أذهان الناس؛ فالمسلمون عندما ابتعدوا عن الله - عز وجل - تمكن التتار من رقابهم، ولما عادوا إلى الله حدث النصر الذى اعتبره كثير من المحللين معجزة, وواقع الأمر أنه ليس بمستغرب، فالنتيجة الطبيعية لعودة المسلمين إلى الله - عز وجل - أن يتم نصرُهم على أعدائهم.وتبين المسلمون أيضاً بوضوح أن الحرب دينية في المقام الأول؛ فقد تحالف كثير من النصارى مع التتار، مع أن مصالحهم على المستوى البعيد كانت مع المسلمين وليست مع التتار؛ فالتتار لا عهد لهم بينما يحترم المسلمون العهود جداً, هذا في أصل دينهم، وهذا هو واقعهم في معظم فترات التاريخ، والمخالفات الإسلامية من ناحية إخلاف الوعود والعهود قليلة جداً، ويكون لها عادة مبررات قوية, ولذلك فقد استقرّ في نفس المسلمين بعد انتصار عين جالوت أن الحروب التى دارت بينهم وبين التتار والنصارى لم تكن حروب مصالح فقط كما يحب كثير من الغربيين والعلمانيين أن يصوروا، وكما يحب الماديون أن يصوروا؛ فيجعلون الاقتصاد هو المحرك الرئيسي للحروب, أو يجعلون الأغراض العسكرية والاستراتيجية هي الهدف الأساسي, بينما رأينا في هذه القصة التى مرت بنا أن الدين كان له أثر كبير في تحريك النصارى، وكان له أثر أكبر في تحريك المسلمين, والله - عز وجل - نبهنا إلى ذلك في كتابه حيث قال مثلاً: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)) فجعل الرضا عندهم مقرونا باتباع ملتهم وليس ببقاء مصالحهم.وكذلك قال: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).فوضح أن القتال سيستمر حتماً إلى أن يترك المسلمون دينهم، أما قبل ذلك فالحرب لن تتوقف، ولن تكفي سيطرة اليهود والنصارى والتتار والمشركين والهندوس على الأرض والديار والأموال والبترول والناس وغير ذلك, لن يكفي كلُّ ذلك, بل سيظل الهدف الأسمى لهؤلاء هو السيطرة على الدين الإسلامى, أو قل "محو الدين الإسلامى"، وما نراه من متابعة لكل الحركات الإسلامية والتوجهات الدينية، وما نراه من محاولات تغيير لمناهج المسلمين الدراسية، وما نراه من حرب في وسائل الإعلام المختلفة, كل هذا ما هو إلا صور للتعبير عن شدة الكراهية لوجود الدين وليس لوجود القوة أو الحدود.أي أن المعركة في أصلها هى معركة وجود أساساً، هم لا يقبلون بوجود الدين الإسلامي على وجه الأرض, لذلك فالحرب لن تنتهي أبداً, لأن دين الإسلام لن ينتهي أبداً بإذن الله, وهكذا لا يصلح أن يكون السلام اختياراً استراتيجياً مهما تغيرت الظروف, فأنت إن تنازلت عن كل شيء في مقابل السلام فهم لن يقبلوا إلا أن تتنازل عن الدين.لقد فقه المسلمون بعد موقعة (عين جالوت) أن الصراع ديني في المقام الأول، ومن ثَمَّ إذا أردت أن تنتصر في هذا الصراع الديني، فلابد أن تكون دينياً, بمعنى أن تكون متمسكاً تماماً بهذا الدين. كان هذا هو الأثر الأول لموقعة عين جالوت الخالدة. الأثر الثاني: ـــ قتل المسلمون في عين جالوت الهزيمة النفسية البشعة التي كانوا يعانون منها, خرج المسلمون من حالة الإحباط الشديد التي كان تسيطر عليهم، وعلموا أن الأمل في الله - عز وجل - لا ينقطع أبداً، وأنه مهما تعاظمت قوة الكافرين فإنها ولا شك إلى زوال. (لا يغرَّنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد).ظهر للمسلمين بوضوح بعد عين جالوت أن الله - عز وجل - قادر على كل شيء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهم وإن كانوا يعلمون ذلك علماً نظرياً قبل عين جالوت، فإن موقعة عين جالوت جاءت كالدرس العملي التطبيقي الذي لا يُبقي شكاً في قلب أحد.(وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله، يصيب به من يشاء من عباده، وهو الغفور الرحيم). الأثر الثالث: ــــ عادت الهيبة للأمة الإسلامية بعد غياب دام أكثر من ستين سنة، فبعد أن كانت الأمة الإسلامية في أواخر القرن السادس الهجري في درجة عظيمة جداً من درجات النصر والفخر والسيادة، وذلك بعد انتصارَيْ حطين في المشرق (في فلسطين)، والأرك في المغرب(في الأندلس)حدث انكسار شديد في حالة الأمة الإسلامية، ضاعت هيبتها، حتى بدأت الكلاب تنهش جسدها، والأفاعي تجول بأرضها.لكن عين جالوت ألقت الجلال والمهابة على الأمة الإسلامية، حتى إن هولاكو الذي كان يستقر في تبريز في فارس، ومعه عدد ضخم من القوات التترية لم يفكر في إعادة احتلال بلاد الشام مرة ثانية، وأقصى ما استطاع فعله هو إرسال حملة انتقامية أغارت على حلب، وسفكت دماء بعض أهلها كنوع من إثبات الوجود، لكن هيبة الأمة الإسلامية وقرت في صدره، فلم يشأ أن يلقي بجيشه في مهلكة جديدة.وهيبة الأمة لا تعود إلا بأيام كعين جالوت. ((إن الله ليزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن)). الأثر الرابع: ـــ فنيت قوة التتار العسكرية في منطقة الشام وتركيا وفلسطين, لم يُسمع عن التتار في هذه المنطقة لعشرات السنين بعد ذلك، اختفى القهر والظلم، واختفى البطش والتشريد، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأرضهم وأعراضهم, ولم يروع الناسَ أحدٌ في هذه المناطق إلا بعد عين جالوت بأكثر من مائةٍ وأربعين عاماً، عندما دخل التترى السفاح تيمورلنك بلاد الشام، فاجتاح حلب ودمشق سنة 804 هجرية بعد أن اجتاح بلاد العالم الإسلامي الشرقية. أحداث تيمورلنك سنتعرض لها إن شاء الله عند الحديث عن دولة المماليك، وأيضاً سنتناولها عند الحديث عن الخلافة العثمانية, لكن ما يهمنا في هذا المجال هو أن هذه الموقعة (عين جالوت) قد أمَّنت المسلمين مائة وست وأربعين سنة كاملة. الأثر الخامس: ـــــ تعتبر موقعة عين جالوت شهادة الميلاد الحقيقية لدولة المماليك العظيمة، التي حملت راية الإسلام لمدة تقترب من ثلاثة قرون(مائتين وسبعين سنة) نعم، كانت بداية حكم المماليك منذ سنة 648 هجرية عند ولاية شجرة الدرّ ثم زوجها الملك المعز عزّ الدين أيبك المملوكي، لكن (عين جالوت) هي التي أعطت الشرعية أمام جميع المسلمين لدولة المماليك, فقد حقق المماليك في غضون عشر سنوات انتصارين هائلين على أعداء الإسلام, أما الانتصار الأول فكان في المنصورة وفارسكور على جيوش فرنسا بقيادة الملك لويس التاسع، والانتصار الثانى هو عين جالوت، ولئن كانت القيادة العامة لجيش المسلمين في موقعة المنصورة ثم فارسكور قيادة أيوبية فإن الجيش كان معتمداً في الأساس على المماليك، أما في عين جالوت فالانتصار كان مملوكياً خالصاً، وبذلك شعر الجميع أن هؤلاء المماليك هم أقدر الناس على قيادة الأمة.وهكذا نشأت الدولة المملوكية التى حملت على عاتقها صدّ هجمات أعداء الله - عز وجل - من تتار أو صليبيين، وكانت دولة جهادية في معظم فتراتها.ومع أن دولة المماليك حاولت أن تضفي شرعية على وجودها بصورة أكبر حيث استضافت أبناء خلفاء بنى العباس في القاهرة ابتداءً من سنة 659 هجرية بعد عين جالوت مباشرة وفي عهد الظاهر بيبرس، إلا أن دولة المماليك لم تكن تمثل الخلافة الحقيقية للمسلمين لأنها لم تكن في أقصى اتساعها تسيطر إلا على أجزاء محدودة من العالم الإسلامي، فكانت تسيطر على مصر والشام والحجاز واليمن وأجزاء من العراق وأجزاء من ليبيا، أما بقية العالم الإسلامى فكان موزعاً بين طوائف شتى، ولم يجد المسلمون معنى الخلافة الحقيقية الجامعة لكل المسلمين تقريباً إلا بعد قيام الخلافة العثمانية العظيمة الذى أعادت جمع المسلمين بعد سنوات من التفرق. لكن على العموم , كانت دولة المماليك أقوى دول المسلمين في فترة وجودها، وأكثرها جدية، وأعظمها هيبة، ولذلك يطلق المؤرخون كثيرًا على العهد الذى عاش فيه المماليك "العهد المملوكي" متجاهلين بذلك كثيراً من الدول الصغيرة التى عاشت في تلك الفترة. الأثر السادس: ـــــ عادت الوحدة العظيمة بين مصر والشام، وكونا معًا التحالف الاستراتيجي الصُلب الذي يمثل حاجز صدّ رائع ضد الهجمات الأجنبية.. فمصر والشام - بما فيها فلسطين - يمثلان قلب العالم الإسلامي استراتيجيا وسياسياً وجغرافياً وثقافياً وتاريخياً, واتحاد مصر مع الشام يمثل عامل أمان كبير لكل المنطقة، كما أنه يقلل كثيراً من أطماع الطامعين في العالم الإسلامي، وخاصة أن معظم أعداء الإسلام كثيراً ما يركزون تفكيرهم على منطقة مصر والشام، وذلك لأسباب دينية واقتصادية وعسكرية, وبذلك يتضح أنه لا نجاة لهذه المنطقة إلا بوحدة شاملة بين كل الشام بما فيها سوريا وفلسطين والأردن ولبنان, وبين مصر. وهذا ما فعلته دولة المماليك الناشئة. الأثر السابع: ــــ اختفى من على الساحة الإسلامية كل الأمراء الأيوبيين الذين كانوا أقزاماً في ذلك الزمن الذي لا يعيش فيه إلا العمالقة, لقد فرّط معظم هؤلاء الأمراء في الأمانة الثقيلة التي خلَّفها لهم جدُّهم العظيم صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله -، وما كان لهم من همٍّ إلا الصراع على السلطة، وجمع المال، وتوريث الأبناء, عاشوا حياتهم في مؤامرات ومكائد، وداسوا على كل الفضائل والمكارم في صراعاتهم، حتى انتشرت بينهم موالاة النصارى والاستعانة بهم في حرب إخوانهم من المسلمين، وأحيانا في حرب إخوانهم الأشقاء, وظلّ هؤلاء الأقزام يُذيقون شعوبهم الألم والظلم والقهر والخيانة، وظلوا يقاومون أيّ مشروع للوحدة تحت راية واحدة، لأنهم يختلفون فيمن يصعد إلى كرسي الحكم إذا حدثت الوحدة، وظلوا يقاومون الحكم المملوكي في مصر، ويتعاونون مع الصليبيين لإسقاطه إلى أن حدثت موقعة عين جالوت الخالدة, فكان من آثارها المباشرة سقوط هذه الزعامات الوهمية، وعرف كل منهم قدره، ورضي بما يناسب حجمه، وبذلك وَقَتْ موقعة عين جالوت الأمةَ شر أبنائها, كما وَقَتْهَا شر أعدائها. الأثر الثامن: ـــــ نتيجة الوحدة بين مصر والشام، ونتيجة اختفاء الأمراء الأقزام من على الساحة، ونتيجة ظهور دولة المماليك، ونتيجة الطبيعة الجهادية لدولة المماليك، ونتيجة النشأة الإسلامية والحميّة الدينية والفقه العالي الرفيع لهذه الدولة, نتيجة لكل هذا حدث أمر هائل عظيم. لقد أخذ المماليك على عاتقهم مهمة تحرير بلاد الشام وفلسطين من الإمارات الصليبية التي ظلّت تحكم هذه البلاد منذ سنة 491 هجرية. أي منذ أكثر من مائة وستين عاماً قبل عين جالوت, ومع أن عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي - رحمهم الله - جميعاً قد بذلوا جهوداً مضنية لتحرير هذه المناطق إلا أنهم لم يفلحوا في تحرير كثير منها، إلى جانب تفريط أبنائهم في بعض الولايات المُحرَّرة حين تنازلوا عنها من جديد للصليبيين، ولذلك فبعد (عين جالوت)، وبعد استقرار المماليك في الحكم بدءوا يوجهون جيوشهم الواحد تلو الآخر لتحرير هذه البلاد الإسلامية العظيمة فلسطين وسوريا والأردن ولبنان وتركيا, نسأل الله لها جميعًا دوام التحرر. فبدأ الظاهر بيبرس حملاته على هذه الإمارات ابتداءً من سنة 6599 هجرية بعد عين جالوت بشهور قليلة، وبعد جهاد مُضْنٍ بدأت الإمارات الصليبية في التساقط في أيدي المسلمين المجاهدين، فحرّر المسلمون في سنة 664 هجرية قيسارية وحيفا وحصن أرسوف جنوب قيسارية، وكل هذه المدن في فلسطين، ثم في سنة 665 هجرية حررت صفد في الشمال الشرقي لفلسطين، وبينما كان بيبرس يحرر هذه البلاد في فلسطين كان قائده سيف الدين قلاوون يحرر قليقية في تركيا وانتصر هناك على قوات الأرمن النصرانية بقيادة الملك هيثوم، وجمع غنائم لا تحصى، وأسر من الصليبيين ونصارى الأرمن أربعين ألفاً، وفي سنة 666 هجرية حرّر الظاهر بيبرس يافا، وفي سنة 667 هجرية حُررت أنطاكية إمارة الأمير بوهمند الذى كان متحالفاً مع التتار، وهي أول مملكة صليبية في بلاد المسلمين حيث احتلت في سنة 491 هجرية، وكانت أغنى الإمارات حتى إن غنائمها من الذهب والفضة كانت توزع على الفاتحين بالمكيال وليس بالعدد. ولم يبق عند وفاة الظاهر بيبرس - رحمه الله - من المدن الإسلامية المحتلة إلا عكا وكانت أقوى المدن المحتلة، إلى جانب صور وصيدا وطرابلس وبيروت وهي جميعاً في لبنان، وأيضاً طرطوس واللاذقية وهما من المدن السورية. وقد حُرّرت طرابلس في سنة 684 هجرية بعد عين جالوت بستة وعشرين عاماً على يد السلطان المملوكي المنصور قلاوون، ثم خلفه بعد ذلك ابنه السلطان العظيم الأشرف خليل بن قلاوون الذي أخذ على عاتقه تحرير كل المدن الإسلامية المحتلة من الصليبيين، فحُررت عكا الحصينة في سنة 690 هجرية بعد قرابة قرنين من الاحتلال الصليبي، وبعد فشل كل أمراء المسلمين السابقين على مدى قرنين كاملين في فتحها، وبفتح عكا سقطت أعظم معاقل الصليبيين في الشام، وبعدها بقليل حررت صيدا وصور وبيروت وجبيل وطرطوس واللاذقية، وبذلك انتهى الوجود الصليبي تماماً من الشام وذلك بعد اثنتين وثلاثين سنة فقط من عين جالوت، مما يجعل هذا التحرير من النتائج المباشرة لهذه الموقعة العملاقة. هناك بالطبع تفاصيل في غاية الأهمية والروعة في تحرير كل هذه المدن والإمارات، ولكننا نرجئ ذكرها إلى حين الحديث عن الحروب الصليبية إن شاء الله. الأثر التاسع: ــــ ارتفعت قيمة مدينة القاهرة المصرية ارتفاعًا بالغًا، بعد انتصار عين جالوت وقيام دولة المماليك، وخاصة بعد التدمير الذي لحق ببغداد سنة 656 هجرية على أيدي التتار، وبعد سقوط قرطبة سنة636 هجرية في أيدي الصليبيين الأسبان.أصبحت القاهرة قبلة العلماء والأدباء، ونشطت الحركة العلمية جداً، وعظم دور الأزهر، وأصبح - ولا يزال - من أعظم جامعات العالم الإسلامي، وحمل لواء الدفاع عن الدين، ونشر الدعوة، والجهر بالحق عند السلاطين، والمطالبة بالحقوق، وتزعم الحركات الجهادية ضد أعداء الأمة. وبذلك توارثت الأجيال في هذه المدينة العريقة (القاهرة) الدعوة إلى الله، والصحوة الإسلامية، وحمل هَمّ المسلمين، ليس في مصر وحدها بل في العالم أجمع. الأثر العاشر: ـــــ وهو من أعجب الآثار، وأعظم الآثار: فقد رأى كثير من التتار دين الإسلام عن قرب، وقرءوا عن أصوله وقواعده وقوانينه، وعلموا آدابه وفضائله، ورأوا أخلاقه ومبادئه, فأعجبوا به إعجاباً شديداً، وخاصة أنهم - كعامة البشر - يعانون من فراغ ديني هائل, فليس هناك تشريع يقترب أو يحاول الاقتراب من دين الإسلام, ومن اقترب منه وبحث فيه لابد أن يرتبط به، إن كان صادقاً في بحثه، وطالبًا للحقيقة فعلاً. لقد بدأ بعض التتار يؤمنون بدين الإسلام, ثم شاء الله - عز وجل - أن يدخل الإيمان في قلب أحد زعماء القبيلة الذهبية - أحد الفروع الكبيرة جداً في قبائل التتار -، وهذا الزعيم هو ابن عم (هولاكو) مباشرة، وهو أخو (باتو) القائد التتري المشهور، وتلقب هذا الزعيم باسم (بركة)، وكان إسلامه في سنة650 هجرية، ثم تولى (بركة) زعامة القبيلة الذهبية سنة 652 هجرية، وأصبح اسمه (بركة خان)، وكانت هذه القبيلة شبه مستقلة عن دولة التتار، وتحكم المنطقة التى تقع شمال بحر قزوين، والمعروفة في الكتب الإسلامية القديمة باسم "بلاد القبجاق" وهى تقع الآن في روسيا، وبإسلام هذا الزعيم دخلت أعداد كبيرة من قبيلته في الإسلام، وهذا أمر عجيب حقاً، لأن دخول كل هؤلاء في الإسلام كان قبل عين جالوت، وكان التتار يتحكمون في رقاب المسلمين، والمسلمون مهزومون في كل مواقعهم، وهى من المرات القليلة جداً في التاريخ التي يدخل فيها الغازي في دين من يغزو بلادهم، ويدخل القوي في دين الضعيف، ولكنه دين الإسلام الذي يخاطب الفطرة البشرية، وهذا يضع مسئولية كبيرة على عاتق الدعاة المسلمين، في أن يصلوا بهذا الدين إلى أهل الأرض جميعاً، فإن من وصل إليه الدين صحيحاً نقياً فإنه يُرجى إسلامه مهما كان معادياً للإسلام في بَدء حياته. ومن آثار موقعة عين جالوت العظيمة أن تزايد عدد المسلمين جداً في القبيلة الذهبية حتى أصبح كل أهلها تقريباً من المسلمين، وتحالفوا مع الظاهر بيبرس ضد هولاكو، ولهم مع هولاكو حروب متكررة نعرض إليها إن شاء الله عند الحديث عن تاريخ دولة المماليك.والجدير بالذكر أن بقايا القبيلة الذهبية ما زالت موجودة، ومكونة لبعض الإمارات الإسلامية مثل إمارة قازان وإمارة القرم وامارة استراخان وإمارة النوغاي وإمارة خوارزم وغيرها، وكل هذه الإمارات ما زال محتلاً إلى يومنا هذا من روسيا، وما استطاعت أن تتحرر بعد حتى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ونسأل الله لها ولسائر بلاد المسلمين التحرر الكامل والسيادة المطلقة على أراضيها.