ابو عبيد البكري الجغرافي - د .صالح العطوان الحيالي
---------------------------------------------
ابو عبيد البكري الجغرافي العربي الاندلسي المسلم الذي خلدته وكالة ناسا على فوهة القمر في شهر شعبان لعام 1369هـ / 19499م أطلقت وكالة الفضاء الأميركية ناسا اسمه على فوهة من فوهات القمر؛ اعترافاً وتقديراً لما قدمه من إسهامات علمية وحضارية متميزة في حقل الجغرافيا. إنه أبو عبيد البكري الأندلسي، واحد من أعلام الثقافة الأندلسية، وأول جغرافي الأندلس والمغرب، وأكبرهم إنجازاً وإسهاماً. اسمه ونشأته: ــ هو أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد بن أيوب بن عمرو البكري، نسبه عربي يرجع إلى قبيلة بكر بن وائل أكبر قبائل ربيعة في شبه جزيرة العرب. ولد أبو عبيد البكري في ولبة قرب حاضرة الأندلس إشبيلية، ولا نعلم تاريخا لميلاده، حيث يذهب البعض إلى أنه ولد 432هـ/ 1040م، ولكن الأقرب للصواب أنه ولد بين عام 400هـ/ 1010م وعام 410هـ/ 1020م . نشأ أبو عبيد البكري في بيت إمارة وسيادة، حيث السراوة والشرف والرياسة، وأرباب النعم؛ استمدوا الشرف من صريح أنسابهم في بلاد الأندلس، كما استمدوه من ماضيهم الحربي في فتح الجزيرة، وشغل المناصب العالية في الدولة، فتحدثنا كتب التراجم أن جده أيوب بن عمرو تولى خطة الرد (أي رد المظالم) بقرطبة زمن الدولة الأموية، والقضاء ببلده لَبْلَةُ، والقضاء كان من المناصب التي يحتكرها علية الناس وسرواتهم في الأندلس. وكان لهم تأثير كبير في بلاط قرطبة وإشبيلية، حيث كانوا من أنصار المنصور بن أبي عامر ثم ببني عباد في إشبيلية. فلما انتثر عقد دولة الأمويين، تغلب ملوك الطوائف على ما بأيديهم من البلاد، واستقل البكريون بأَوْنَبَة (وَلْبَة) وشَلْطِيش وما بينهما من البلاد في كورة لبلة، على ساحل البحر المحيط، غربي إشبيلية، وقعدوا منها مقعد أكابر الأمراء، من الخروج عن الطاعة، والاستبداد عن الجماعة. ودامت إمرة البكريين في تلك الناحية نحو أربعين سنة حوالي (سنة 402هـ/10111م إلى سنة 443هـ/1051م)، انتهت تغلب المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية سنة 443هـ على ما جاوره من البلاد والإمارات الصغيرة، وكان آخر البكريين حكما بأونبة أبو مصعب عبد العزيز، والد أبى عبيد صاحب الترجمة، فخرج هو وآله منها. أبو عبيد البكري في قرطبة: ـــ انتقل أبو عبيد البكري مع أسرته مدة قصيرة إشبيلية، ولما شعر بتغير موقف المعتضد بن عباد انتقل إلى قرطبة، وكان ذلك في الثلاثينيات من عمره، ولا نعلم كم بقي أبو عبيد في قرطبة وهل تركها في حياة والده أم بعد وفاته؟!، والذي لا شك فيه هو أنه بقي بما فيه الكفاية كي يواصل ثقافته الأدبية والعلمية. أبو عبيد البكري في المرية: ــ ثم انتقل أبو عبيد البكري من بعد إلى المرية بدعوة من أميرها محمد بن معن الصمادحي، ولا شك أن سبب هذه الدعوة كانت شهرة الرجل بصفته أديبا، واستقبله حاكم المرية بترحاب وجعله من خلانه واصطفاه لصحبته، وآثر مجالسته والأنس به، ووسع راتبه. ولذلك كان يلقب بالوزير، جرى بذلك قلم ابن بسام في الذخيرة، بل لقبه الضبي في البغية بذي الوزارتين، ويرى مصطفى السقا في تحقيقه لمعجم البكري أنه لقب بالوزير لأنه وزر لأبيه، أو لمصاحبته الملوك، وإن لم يكن وزيراً على الحقيقة، على ما جرى به العرف الأندلسي، والناس كانوا ولا يزالون يتوسعون في الألقاب بلا حساب، على أن أبا عبيد لم تكن منزلته في نفوس أهل عصره أقل محادة من منزلة الوزراء . الحياة العلمية لأبي عبيد البكري: ـــــــــــــــــ في قرطبة توسعت الثقافة الأدبية والعلمية لأبي عبيد البكري، حيث درس على كبار علمائها ومؤرخيها، فقد تابع دروس المؤرخ الكبير أبي مروان ابن حيان، وأبي بكر المُصْحفي، وأجاز له ابن عبد البر، حتى صار رأسا في التاريخ واللغة والأدب، وحدث عنه: محمد بن معمر المالقي، ومحمد بن عبد العزيز بن اللخمي، وطائفة. ولا يمكن أن نعرف أي تآليفه ألَّف مدة مقامه الأول في قرطبة؛ لأن تواريخ تآليفه غير معروفة، ولكن الكثير من القرائن تبين أنه لم يكن عديم الشغل، وأن الكثير من تآليفه قد تكون ظهرت في تلك الفترة. وفي ألمرية تحددت الوجهة الجغرافية لدراسات أبي عبيد البكري، حيث تابع فيها دروس أبي العباس أحمد بن عمر العذري (393هـ - 476هـ وقيل 478هـ)، ولا يستبعد أنه قد أثر العذري في الاتجاه الذي ستتخذه دراسة تلميذه البكري، فلقد كان العذري جغرافيا وقد يكون جلب أبا عبيدة نحو هذه الوجهة. فهل من الجرأة أن يُفترض أن تأليفه لكتبه الجغرافية: معجم ما استعجم وكتاب المسالك والممالك يرجع إلى هذه الفترة؟!، ويتأكد هذا الافتراض أكثر إذا ما علمنا انه انتهى من تأليف الكتاب الثاني حوالي سنة 460هـ/ 1058م، اعتماداً على الكثير من الملاحظات المتناثرة التي وردت فيه .. كتاب المسالك والممالك: يعتبر أبو عبيد البكري ألمع جغرافيي الأندلس، واتسم عمله بالموضوعية والانسيابية والمنهج العلمي الصارم، ومما لا شك فيه أن كتاب المسالك والممالك كانت له المساهمة الكبرى في شهرة البكري، فقد جمع البكري في كتابه المسالك والممالك بين الجغرافيا والتاريخ، من المسالك ووصف البلدان والشعوب والمدن وتمتزج بالملح والأساطير والاستطرادات التاريخية ويبقى انتباه القارئ دائم اليقظة. وزاد البكري على ما جاء في مؤلفات كتبها مؤرخون سابقون له، كما تطرق إلى التراث الشعبي الموروث لعدد من الشعوب في أرجاء العالم المعروف آنذاك، وأبرز العادات والتقاليد الغريبة، لكنه في نفس الوقت رفض أي شيء يتنافى مع العقل والمنطق في كتاباته. قدم البكري في كتابه هذا أول وصف مفصل لإمبراطورية غانا الإسلامية في غرب أفريقيا، ويعتبر من أهم المصادر التاريخية لتلك الحقبة في جنوب غرب أفريقيا وشمال غرب أفريقيا حيث دولة المرابطين، ونظراً لاستقائه الكثير من المعلومات من التجار والمسافرين، فقد قدم وصفاً دقيقاً لطرق التجارة في الصحراء الكبرى بأفريقيا، والتي تضاهي بأهميتها طريق الحرير التاريخي بين الصين وأوروبا. ذكر البكري بالتفصيل بداية دخول بلدات غرب أفريقيا في الإسلام أواخر القرن العاشر الميلادي، مثل غاو التي تقع اليوم في مالي، وعدد من البلدات والمدن المتناثرة على ضفتي نهر النيجر. إن لكتاب المسالك خصائص مميزة تجعل المعلومات الجغرافية دائمة الامتزاج بالمعلومات ذات الصبغة التاريخية، ويُسجل للبكري أنه استطاع تقديم مصادر جغرافية وتاريخية دقيقة ومهمة بدون أن يغادر بلاده الأندلس. كتاب معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع: أما كتابه الخالد الآخر فهو "معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع" وهو جهد توثيقي حاول الكاتب فيه توثيق أسماء الأماكن والبلدان بعد أن لاحظ تعدد التسميات نتيجة تنوع لهجات بني البشر، فأراد أن يكون هناك مصدر تاريخي موثوق يستطيع الباحثون الرجوع إليه للتوصل إلى الأسماء والألفاظ الصحيحة للأماكن. واعتمد البكري في تأليف معجمه الجغرافي والتاريخي على مصدرين: الأول: مصادر تاريخية مثل كتاب "صفة جزيرة العرب" للحسن بن أحمد الهمداني. والمصدر الثاني هو الرواة من المسافرين والتجار، حيث كان البكري يلتقيهم باستمرار لمعرفة أسماء البلدان والبلدات التي مرُّوا بها وأحوال الشعوب فيها. وأبو عبيد البكري يضبط الكلمات بالعبارة لا بالحركات، وهذه إحدى مزاياه، ولولا ذلك لاختل المعجم، وضاعت قيمته، ومن مزاياه أنه أول معجم كتب بالترتيب الألفبائي، ومن أهم مزاياه الضبط الدقيق للأسماء فإنه لهذا الغرض أُلِّف، وقد أبان هو عن ذلك في مقدمته، إذ رأى كثيراً من أسماء البلدان التي ترد في الأحاديث والأشعار والسير والتواريخ، قد دب إليها التصحيف والتحريف، وكان هذا التحريف داء قديما، لم يسلم من آفته حتى أئمة الرّواة وكبار العلماء، كالأصمعي من علماء اللغة، ويزيد بن هارون من المحدّثين، فراعه ذلك، وأوحى إليه بتأليف كتابه. لكن مما يعاب به أنه جعل ترتيب الكلمات في كل باب على ترتيب الحرفين الأول والثاني الأصليين من الكلمة، دون نظر إلى ترتيب ما بعدهما من الحروف، وعلى الرغم من هذا تلقى العلماء المسلمون قديماً وحديثا معجم البكري بالقبول ووثَّقوا صاحبه، ورفعوه مكاناً عليًّا، فوق اللغويين وأصحاب المعاجم. واعتمدوا عليه في تحقيق المشكلات، خصوصاً علماء المغاربة والأندلسيين، من المحدِّثين والأخباريين، ومن أشهرهم: القاضي عياض (ت: 544هـ) في مشارق الأنوار، والسهيلي (ت: 581هـ) في الروض الأنف، وأكثر من انتفع به من أصحاب المعاجم العربية وجعلوه أصلاً لهم: الفيروزابادي (ت: 817هـ) صاحب القاموس، والزبيدي (ت: 1205هـ) صاحب تاج العروس، وشيخه محمد بن الطيب الفاسي (ت: 1170هـ) صاحب الحاشية على القاموس، وكثير غير هؤلاء. فالمعجم يعتبر جهداً متميزاً وفريداً يعتبر إلى اليوم مرجعاً للدارسين في مجالات التاريخ والجغرافيا وعلم الإنسان . مؤلفات أبي عبيد البكري: لم يتخصص أبو عبيد البكري في أي فرع من فروع المعرفة الإنسانية شأنه في ذلك شأن جل العلماء المسلمين في وقته، لقد كان تكوين الرجل المثقف في تلك الفترة يشتمل دائماً على دعامة متينة من العلوم الدينية، فقه، علوم قرآنية، علم كلام، ثم يأتي الأدب واللغة والفلسفة ومواد أخرى حسب الإمكانيات والأذواق الشخصية، فلا غرابة إذن أن نجد ضمن تآليف البكري مصنفات تبحث في مواضيع مختلفة. فالبكري لغوي وأديب قبل كل شيء رغم أنه اشتهر بصفته جغرافيًّا في المشرق والمغرب، ويكفي للتفطن إلى ذلك أن يستعرض القارئ عناوين الكتب التي تنسب إليه، فالأدب له دور كبير في أكبر آثاره الجغرافية. 1- في اللغة والأدب: كتاب الإحصاء لطبقات الشعراء -كتاب اشتقاق الأسماء- التنبيه على أغلاط أبي علي في أماليه -شفاء عليل العربية- كتاب صلة المفصول في شرح أبيات الغريب المصنف (لأبي عبيد القاسم بن سلام) - فصل المقال في شرح كتاب الأمثال (لابن سلام أيضاً) اللآلي في شرح أمالي القالي. 2- الكتب الجغرافية: معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع - كتاب المسالك والممالك، وقد طبع منه البارون دي سلين قطعة باسم "كتاب المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب"، بالجزائر سنة 1857م. 3- موضوعات مختلفة: أعلام نبوة نبينا محمد عليه السلام -التدريب والتهذيب في دروب أحوال الحروب- كتاب النبات أو أعيان النبات والشجريات الأندلسية. وكان البكرىّ معنياً بكتبه، يكتبها بالخط الجيد، ويجلدها التجليد النفيس، وكان الملوك والرؤساء يتنافسون في اقتنائها، ويتهادونها في حياته . من أخلاقه وثناء العلماء عليه: يقول ابن بشكوال (ت: 5788هـ): "كان أبو عبيد البكري من أهل اللغة والآداب الواسعة والمعرفة بمعاني الأشعار والغريب والأنساب والأخبار متقناً لما قيده، ضابطاً لما كتبه، جميل الكتب متهيماً بها، كان يمسكها في سبابي الشرب وغيرها إكراماً لها وصيانة". وحلَّاه الفتح ابن خاقان (ت: 5355هـ) في قلائد العقيان، بقوله: "عالم الأوان ومصنَّفه، ومقرط البيان ومشنَّفه، بتواليف كأنها الخرائد، وتصانيف أبهى من القلائد، حلى بها من الزمان عاطلا، وأرسل بها غمام الإحسان هاطلاً، ووضعها فى فنون مختلفة وأنواع، وأقطعها ما شاء من إتقان وإبداع. وأما الآدب فهو كان منتهاه، ومحل سهاه، وقطب مداره، وفلك تمامه وإبداره، وكان كل ملك من ملوك الأندلس يتهاداه، تهادىّ المقل للكرى، والآذان للبشرى". ومن قول ابن بسام الشنترينى (ت: 5422هـ) في الذخيرة يصفه: "ومنهم الوزير أبو عبيد البكري، وكان بأفقنا آخر علماء الجزيرة بالزمان، وأولهم بالبراعة والإحسان، أبرعهم في العلوم طلقاً، وأنصعهم في المنظور والمنثور أنقاً، كأن العرب استخلفته على لسانها، والأيام ولته زمام حدثانها، ولولا تأخر ولادته، لأنسى ذكر كنيه المتقدم الأوان: ذرب لسان، وبراعة إتقان". وقال ياقوت الحموي (ت: 6266هـ): "وكان مقدماً من مشيخة أولي البيوتات وأرباب النعم بالأندلس...، وكان ملوك الأندلس تتهادى مصنفاته تهادي المقل للكرى، والآذان للقرى" . وفاة أبي عبيد البكري: تعمقت العلاقة كثيراً بين أبي عبيد البكري ومحمد بن معن صاحب ألمرية، فقد ذهب البكري سنة 4788هـ/ 1085- 1086م إلى اشبيلية موفداً من قبل محمد بن معن لدى المعتمد بن عباد، عندما ذهب إلى المغرب الأقصى يستنجد بعون المرابطين ضد التهديد النصراني. ثم استقر به الحال سنة (483هـ/1090- 10911م) في قرطبة التي أصبحت عاصمة الأندلس بعد دخول المرابطين لها، والراجح أنه قضى بها بقية حياته، وبها توفي في شوال 487هـ/ 1094م، ودفن بمقبرة أم سلمة