الاوقاف في الاسلام واشراقاتها الحضارية " اوقاف النساء " - د . صالح العطوان الحيالي
-------------------------------------------------------------------------- شجرة الأوقاف، شجرة ممتدة الجذور، زرعت بتشريع رباني، ونمت بتطبيق نبوي، وانتشرت بامتثال خيري، وتوسعت باجتهاد فقهي، فكان للنساء نصيب من الوقف كما كان للرجال، وأوقاف النساء على وجه الخصوص كثيرة وفيرة، تعود شجرة الإسهامات الوقفية النسائية الأولى إلى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فهن أول من أوقف من النساء، بل وتؤول أول إدارة نسائية للوقف إلى أم المؤمنين السيدة حفصة رضي الله عنها، التي عهد إليها الخليفة عمر بن الخطاب بمهمة الإشراف على أوقافه بعد وفاته. ومن أوقاف الصحابيات رضوان الله عليهم، والنساء من بعدهم، والتي وثقها التاريخ: * وقف عائشة رضي الله عنها، فقد اشترت داراً، وكتبت في شرائها: إني اشتريت داراً، وجعلتها لما اشتريتها له، فمنها مسكن .. ثم يرد بعد ذلك إلى آل أبي بكر. * ووقفت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دارها صدقة، حبس لا تباع ولا توهب ولا تورث. * ووقفت أم سلمة رضي الله عنها صدقة حبساً لا تباع ولا توهب. ووقفت أم حبيبة، وصفية رضي الله عنهن. * ثم توالت الأوقاف ففي العهد العباسي كان وقف عين زبيدة، أشهر الأوقاف؛ حيث أوقفت زبيدة بنت جعفر المنصور، زوجة هارون الرشيد، وسبلت الماء من بغداد إلى مكة، وحوى وقفها آبار وبرك ومنازل لاستراحة حجاج بيت الله الحرام، وتوفير الماء خلال مسيرهم، وما زالت آثار تلك الوقف ماثلة للعيان. * ووقفت (خاصكي سلطان) زوجة السلطان العثماني سليمان القانوني، في القدس بجوار المسجد الأقصى المبارك (تكية خاصكي سلطان)، لتقديم الوجبات المجانية للفقراء، وما زالت التكية تعمل وتقدم خدماتها للأسر الفقيرة إلى الآن. * وجامع القرويين في فاس من أقدم أوقاف نساء الغرب الإسلامي، بنته فاطمة بنت محمد عبد الله الفهري؛ أصبح فيما بعد جامعا وجامعة. * وأنشأت أختها مريم بنت محمد الفهري، جامع الأندلس بفاس، وكان له دور تاريخي كبير في نشر الدين والعلم والحفاظ على الهوية الإسلامية، الذي ما زال إلى الآن تراثاً ينظر. * وفي الجزائر العاصمة مسجد بنته سيدة محسنة، وأطلق عليه مسمى "مسجد السيدة" وكان أعظم جامع في الجزائر، في العهد العثماني. * ومسجد الخفافين في بغداد من إنشاء السيدة زمرد خاتون، زوجة الخليفة العباسي المستضيء في بغداد، الذي تعتبر منارته أقدم منارة معروفة في بغداد. * وأنشأت المدرسة العذراوية وأوقفتها الست العذراء بنت أخي صلاح الدين الأيوبي، ودرس بها كبار العلماء منهم وخرجت عشرات طلبة العلم والفقهاء, و المحدثين. وكان التنافس لعمل الخير بين النساء فاعلاً، ففي السجلات العثمانية أكثر من 25000 وثيقة وقف لنساء فاضلات. وسأسرد بعضاً من روائع الأوقاف في العهود الإسلامية، والتي أوقفت وخَصت النساء بمنافع تلك الأوقاف: * وقف تزويج الشباب والفتيات: ليصرف من ريعه لتزويج الشباب والفتيان العزَّاب ممَّن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج وتقديم المهور. * وقف إعارة الحلي: لإعارة الحُلي والزينة في الأعراس والأفراح، يستعير الفقراء منه ما يلزمهم في أفراحهم وأعراسهم، حتى يكتمل الشعور بالفرح، وتنجبر الخواطر المكسورة. * وقف الغاضبات: في مراكش مؤسسة اسمها – دار الدقة – وهو ملجأ تذهب إليه النساء اللاتي يقع نفور بينهن وبين بعولتهن، فلهن أن يقمن به، آكلات شاربات، إلى أن يزول ما بينهن وبين أزواجهن من النفور. * وقف الآنية: كان هذا الوقف جبراً لقلوب المملوكين والإماء الذين يتسببون بكسر الآنية، فيعطون بديلاً عنها ، ليتجنبوا الضرب أو النهر من سيدهم. * وقف متنزه الفقراء: عمره في ربوع الشام دمشق نور الدين محمود زنكي، فإنه لما رأى ذلك المتنزه مقصور على الأغنياء، عز عليه ألا يستمتع الفقراء مثلهم بالحياة، فعمر القصر ووقف عليه قرية (داريّا) وهي أعظم ضياع الغوطة وأغناها. * وقف الحليب للمرضعات: وهو وقف من مَبَرَّات صلاح الدين الذي جعل في أحد أبواب القلعة - الباقية حتى الآن في دمشق - ميزابًا يسيل منه الحليب، وميزابًا آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي الأمهات يومين في كلِّ أسبوع ليأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر. * وقف تعريس المكفوفين: وهو وقف في فاس يحمل اسم (دار الشيوخ)، وكانت معدة لتعريس المكفوفين الذين لا سكن لهم ، فكلما اقترن كفيف بنظيرته أقاما بهذه الدار مراسيم الزفاف ، وسوعد بالمصاريف. * وقف المرابطات: وهو وقف في القدس، خصص للنساء اللاتي شددن الرحال للمسجد الأقصى وتوفي من كان برفقتهن من محارمهن، فيبقين في الوقف إلى أن يأتي من محارمهن من يأخذهن لديارهن أو أن تعيش معززة مكرمة في دارٍ تأويها وتطعمها. * وقف تجهيز العروس: وهذا الوقف خصص لتوفير جهاز للعروس الفقيرة التي تريد الزواج، ولا تجد ما يجعلها كمثيلاتها من النساء، فتأخذ ما تريد من باب الإعارة من كساء ومجوهرات وأدوات للتزين. * وقف تدريب النساء على الحرف والعمل: لأن المساعدات بلا مقابل تأثر في النفوس السوية، فهذا الوقف يدرب النساء، ثم يساعدهن في امتهان صنعة وحرفة من الحرف، وتعمل في هذا المجال.