أيها الكتّاب - د.صالح العطوان الحيالي
-------------------------------
من روائع الرسائل "رسالة الجامعة إلى الكُتَّاب " كتب عبد الحميد الكاتب رسالة توجيهية الى الكتاب من اروع الرسائل التي قراتها جاء فيها : "أمَّا بعدُ، حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفَّقكم وأرشدكم، فإنَّ الله جعل الناسَ -بعدَ الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن بعدِ الملوك المكرمين- أصنافًا، وإن كانوا في الحقيقة سواءً، وصرَّفَهُم في صُنُوف الصناعات، وضُرُوب المحاوَلات، إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشرَ الكُتَّاب في أشرف الجهات أهلَ الأدب والمروءات، والعلم والرواية. بِكُمْ تنتظم للخلافة محاسنُها، وتستقيم أمورُها، وبنصحائكم يُصلحُ الله للخلق سلطانَهم وتَعْمُر بلدانهم. لا يستغني الملكُ عنكم، ولا يُوجَدُ كافٍ إلا منكم؛ فَمَوْقِعُكُمْ من الملوك مَوْقِعُ أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يُبْصِرون، وألسنتهم التي بها يَنْطِقون، وأيديهم التي بها يَبْطِشُون. فأمتعكم الله بما خصَّكم من فضل صناعتكم، ولا نَزَع عنكم ما أضفاه من النِّعمة عليكم. وليس أحدٌ من أهل الصناعات كلها أحوجَ إلى اجتماع خِلال الخير المحمودة، وخِصال الفَضْل المذكورة المعدودة - منكم. أيُّها الكُتَّاب، إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم، فإنَّ الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يَثِقُ به في مُهِمَّات أموره أنْ يكون حليمًا في موضع الحلم، فَهِيمًا في موضع الحُكْمِ، مِقْدَامًا في موضع الإقدام، مُحْجِمًا في موضع الإحجام، مُؤْثِرًا للعفاف والعدل والإنصاف، كَتُومًا للأسرار، وفيًّا عند الشدائد، عالمًا بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعَها، والطوارق في أماكنها، قد نظر في كلِّ فنٍّ من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يُحْكِمْهُ أخذ منه بمقدار ما يكتفي به، يَعْرِف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجرِبته ما يَرِدُ عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيُعِدُّ لكلِّ أمر عُدَّتَه وعَتَاده، ويُهَيِّئ لكلِّ وجه هيئته وعادته. فتنافسوا يا معشرَ الكُتَّاب في صُنُوف الآداب، وتفقَّهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله والفرائض، ثم العربيَّة فإنَّها ثِقَاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخطَّ فإنَّه حلية كتبكم، وارْوُوا الأشعار واعْرِفوا غريبها ومعانيها، وأيَّام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها؛ فإنَّ ذلك مُعِينٌ لكم على ما تَسْمُو إليه هِمَمُكم. وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سَنِيِّهَا ودَنِيِّهَا، وسَفْسَاف الأمور ومَحَاقرها؛ فإنَّها مَذَلَّة للرقاب، مَفْسَدَة للكُتَّاب. ونزِّهوا صِنَاعَتكم عن الدناءة، وارْبَئُوا بأنفسكم عن السِّعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات. وإيَّاكم والْكِبْرَ والصَّلَف والعظمة؛ فإنها عداوة مُجْتَلَبَة من غير إِحْنَة . وتحابُّوا في الله في صناعتكم، وتَوَاصَوْا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنُّبْل من سَلَفِكم. وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه، وواسُوه حتى يرجعَ إليه حالُه ويثوب إليه أمرُه، وإن أقعد أحدًا منكم الْكِبَرُ عن مكسبه ولقاء إخوانه فزُورُوه وعظِّموه وشاوِرُوه، واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته، وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أَحْفَظَ منه على ولده وأخيه؛ فإنْ عَرَضَتْ في الشغل مَحْمَدَة فلا يصرفها إلاَّ إلى صاحبه، وإن عرضت مَذَمَّة فليحملها هو من دونه. وليحذر السَّقْطة والزلَّة والملل عند تغيُّر الحال؛ فإنَّ العيب إليكم معشر الكُتَّاب أسرعُ منه إلى القرَّاء، وهو لكم أفسد منه لهم. فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه مَن يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقِّه، فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه، وشُكْرِه، واحتماله، وخيره، ونصيحته، وكتمان سره، وتدبير أمره ما هو جزاء لِحَقِّهِ، ويصدِّق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه، والاضطرار إلى ما لديه. فاستشعروا ذلك -وفَّقكم الله من أنفسكم- في حالة الرخاء والشدَّة، والحرمان والمواساة، والإحسان، والسراء والضراء، فنعمت الشيمة هذه لِمَن وُسِمَ بها من أهل هذه الصناعة الشريفة. وإذا وُلِّيَ الرجلُ منكم أو صُيِّرَ إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله ، وليُؤْثِرْ طاعته، وليكن مع الضعيف رفيقًا وللمظلوم منصفًا؛ فإن الخلق عيال الله، وأحبُّهم إليه أرفقهم بعياله. ثم ليكن بالعدل حاكمًا، وللأشراف مُكْرِمًا، وللفيء موفِّرًا، وللبلاد عامرًا، وللرعية متألِّفًا، وعن أذاهم متخلِّفًا، وليكن في مجلسه متواضعًا حليمًا، وفي سِجِلاَّت خَرَاجه واستقضاء حقوقه رفيقًا. وإذا صحب أحدكم رجلاً فليختبر خلائقه، فإذا عَرَفَ حَسَنَها وقبيحها أعانه على ما يُوَافقه من الحَسَنِ، واحتال على صرفه عمَّا يهواه من القُبْحِ بألطف حيلة وأجمل وسيلة، وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرًا بسياستها التمس معرفة أخلاقها؛ فإن كانت رَمُوحً لم يَهِجْهَا إذا ركبها، وإن كانت شَبُوبًا اتَّقاها من بين يديها، وإن خاف منها شرودًا توقَّاها من ناحية رأسها، وإن كانت حَرُونًا قَمَعَ برفق هواها في طرقها، فإن استمرَّت عَطَفَها يَسِيرًا فَيَسْلُسُ له قيادها، وفي هذا الوصف من السياسة دلائلُ لمن ساس الناسَ وعاملهم وجرَّبهم وداخلهم. والكاتب -لفضل أدبه، وشريف صنعته، ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يُجَاوِره من الناس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سَطْوَته- أَوْلَى بالرفق لصاحبه، ومداراته وتقويم أَوَدِه من سائس البهيمة التي لا تُحِير جوابًا، ولا تعرف صوابًا، ولا تفهم خطابًا، إلاَّ بقدر ما يُصَيِّرها إليه صاحبها الراكب عليها. ألاَ فأَمْعِنوا -رحمكم الله- في النظر، واعْمَلُوا ما أمكنكم فيه من الرَّوِيَّة والفِكْرِ، تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النَّبْوَةَ والاستثقالَ والجَفْوَة، ويُصَيَّر منكم إلى الموافقة، وتُصَيَّرُوا منه إلى المؤاخاة والشفقة، إن شاء الله ...