top of page
صورة الكاتبAdmin

الفروسية في الاسلام " صلاح الدين الايوبي نموذج للفارس المسلم " -  د.صالح العطوان الحيالي


الفروسية في الاسلام " صلاح الدين الايوبي نموذج للفارس المسلم " - د.صالح العطوان الحيالي

------------------------------------------------------------------------------- د.صالح العطوان الحيالي ذكر صاحب النجوم الزاهرة في تعريف الفروسية: أنها نوع آخر غير الشجاعة والإقدام، فالشجاع هو الذي يلقى غريمه بقوة جنان، وفارس الخيل هو الرجل الذي يُحسن تسريح فرسه وسلاحه، وتدبير ذلك كله، بحيث إنه يسير في ذلك على القوانين المقررة المعروفة بين أرباب هذا الشأن. ويُذكر أيضًا أن الفروسية أو الفروسة أو الفراسة: هي الحذق بركوب الخيل وأمرها. هذا ويُقال أن أصل الفروسية هو الثبات على الفرس العُريّ - أي الفرس العاري الغير مُسرج. ويُذكر أيضًا أن أصل الفروسية وكمالها هو حفظ العنان، ونظر الفارس أمام فرسه وحيث يضع يديه، وتعهده لآلته من سرجه ولجامه، ويُقصِّر ما يحتاج إلى تقصير ويُضيِّق ما يحتاج إلى تضييقيه، ويطوِّل ما يحتاج إلى تطويله، كل ذلك يفعله بوزن. وكانت الفروسية في العصور الإسلامية هي مطمع أنظار الشباب إذ تستهوى قلوبهم لما فيها من ألوان الشجاعة لذا مارسوها واتخذوا لها زيًا خاصاً، وتدربوا على استعمال السلاح كالضرب بالسيف أو الرماح أو الرمي عن القسي بالنبل، وغيرها من هذه الأمور تُعدُّ (الفروسيةُ) مظهرا رائعا من مظاهر الحضارة العربية،وتشكل بمثلها ووقائعها صفحةً مشرقةً من تاريخها ، ولا يُقصَدُ بالفروسية في هذاالمقال الجوانب المادية منها, وإنما آدابها ومثلها الأخلاقية. يُجمع الباحثون على أن (الفروسية) هي كلٌ مركب من مجموعة من الفنونوالمهارات القتالية والمثل والمبادئ الأخلاقية التي ينبغي أن تتوافر في الفارس؛حتى يستحق هذا اللقب بجدارة ، فليس كل من حمل سيفاً وامتطى فرساً غدا فارساً, وإنماعليه أن يتحلى - بالإضافة إلى الشجاعة والمهارات القتالية - بالإيمان العميق والصدقفي القول والعمل والوفاء بالعهود والكرم والتفاؤل والتضحية من أجل المبدأ والتسامحوالتفاني في حماية الضعيف ونصرة المظلوم ، والدفاع عن الحق والعدل واحترام المرأة. ولكن قبل هذا وذاك يجب على الفارس أن يتعامل بهذه الآداب والقيم في علاقاته معأبناء أمته ، ومع أعدائه على حدٍّ سواء. الفروسية قبل الإسلام: ــ ولقد عرف العربُ الفروسيةَ قبل الإسلام في بواديهم وحواضرهم, وافتخرشعراؤهم بشمائلها من كرم وشجاعة وحلم ووفاء ونخوة، بل جمع الكثيرون منهم بينالفروسية والشعر أمثال: عنترة وحاتم الطائي وعمرو بن كلثوم وغيرهم ، كما امتلأ تاريخ العرب في تلك الحقبة بالوقائع التي تثبت التزام العربي بهذه المثل وتلك الآداب. وجاء الإسلام ليشجع الفروسية ، ويبارك قيمها ، ويعزز آدابها ، ويهذبها ويوجهها لخدمة مبادئ الإسلام ورسالته الحضارية ، ويؤكد المؤرخون على أن الغرب أخذ الكثير من مثلالفروسية وآدابها عن العرب المسلمين, لاسيما عبر الأندلس والحروب الصليبية. ولكن هذا لا يعني أن الغرب لم يعرف الفروسية قبل ذلك, بل عرفها منذ أيام الرومانوالجرمان, ولكن لم تكتمل آدابها ومُثلها عندهم إلا بعد اتصالهم بالعرب المسلمين، فمن المعروف أن قصص الفروسية العربية انتشرت بين فرسان الغرب انتشارا واسعا، واتخذوا من الأبطال العرب في تلك القصص قدوة لهم في الشجاعة والنبل والكرم ، من ذلكمثلا ما تذكره قصص الفروسية كيف أن الخليفة الأموي في الأندلس عبد الرحمن الناصر)ت961م/350هـ) أعطى أمانا لعدوه أمير ليون حتى يتمكن من القدوم إلى قرطبة (عاصمة عبد الرحمن) لاستشارة الأطباء العرب والعودة إلى وطنه سالما. وكذلك ما ترويه المصادرمن أن والي قرطبة قام عام 1139 بمحاصرة مدينة طليطلة, التي كانت بيد الإسبان فأرسلت إليه الملكة بيرنجر, التي كانت في المدينة, من بلَّغ ذلك الوالي العربيالمسلم أنه لا يليق بفارس بطل شهم كريم أن يحاصر امرأة ، فارتد القائد العربي فورًا محييًا الملكة. ولكن على الرغم من أن الغرب تأثر بالفروسية العربية الإسلامية فإن الفروسية في الغرب اختلفت في الكثير من الجوانب عما كانت عليه في المشرق العربي، فالفروسية الغربية كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بطبقة معينة, وهي طبقة الفرسان التي أفرزها النظام الإقطاعي الذي ظهر في الغرب بعد انحلال إمبراطورية شارلمان في أواسطالقرن التاسع الميلادي. كما أن فرسان الغرب لم يمارسوا قيم الفروسية وأخلاقياتها إلا مع أبناء طبقتهم, أي طبقة الفرسان, في حين لم يسلكوا, بما يتفق وقيم الفروسية ومثلها, لا مع أبناء الطبقات الأخرى في المجتمع الأوربي نفسه, ولا مع أعدائهم فيأوربا وخارجها, فلم يلتزموا بعهودهم ووعودهم ، ولم يحترموا الأماكن المقدسة لأصحاب الديانات الأخرى, واستخدموا أساليب الغدر والخديعة والكذب.. التي تعد انتهاكًاصارخًا لروح الفروسية, كما لم يتردد فرسان الغرب في العمل كمرتزقة وقطاع طرق, وهذايشكل عدوانا على أهم قيم الفروسية, وهي التضحية من أجل المبدأ. أما آداب الفروسيةعند العرب المسلمين فقد كانت جزءا أساسيا من ثقافة الأمة وسمة من سمات أخلاقهاوتقاليدها. سيرة صلاح الدين نموذجًا: ــ والواقع يمكننا أن نقدّم صورًا تأخذ الألباب عن مدى التزام العرب والمسلمين في كل مراحل تاريخهم بآداب الفروسية ومثلها, ولكننا سنكتفي لضيق المقام بعرض بعض صور الفروسية العربية – الإسلامية،كما تجلَّت على أرض الواقع, منخلال سيرة واحدٍ من كبار الفرسان, وهو السلطان صلاح الدين الايوبي المتوفي1193م/589هـ), الذي ظهر في عصر شهد أعنف فصولالصراع بين المشرق العربي والغرب الأوربي, وهو عصر الحروب الصليبية. وقد حرص المؤرخون المعاصرون, حرصًا شديدًا على تقديم شهادات موضوعية عن مدى التزام صلاحالدين بمثل الفروسية وآدابها, لا مع أبناء شعبه فحسب, وإنما مع أعدائه الصليبيين فيالشام أيضا ، فقد قسَّم ابن شداد (ت1239/632), وهو مؤرخ صلاح الدين, كتابه (النوادرالسلطانية والمحاسن اليوسفية) إلى قسمين أساسين, الأول خصصه للحديث عن أخلاق صلاح الدين وشمائله وعلاقته مع أبناء شعبه ، فقد أشار ـ مثلا ـ إلى عمق إيمانه والتزامه بواجباته الدينية وزياراته المتكررة إلى الشيخ الحافظ الأصفهاني في الإسكندرية لسماع الأحاديث النبوية. كما تحدث عن كرم صلاح الدين الذي بلغ حدا جعل المسئولين عنخزائنه يخفون عنه شيئا من المال خوفا أن يفاجئهم أمر مهم, لأنه كان يُعطي وقت الضيقكما كان يُعطي وقت السعة, بل لم يترك صلاح الدين في خزائنه سوى دينارٍ ذهبيٍ واحدٍوسبعة وأربعين درهما فضيا. أما عن عدله فقد أوضح ابن شداد أن صلاح الدين كان يحرص أشد الحرص على إنصاف المظلوم وتحقيق العدالة وحماية الضعيف ؛ حتى إنه خصص يومي الاثنين والخميس منكل أسبوع للجلوس للمظالم ، أما عن شجاعته فيقول ابن شداد : إنه " كان من عظماء الشجعان قوي النفس شديد البأس عظيم الثبات ولا يهوله أمر". أما القسم الثاني من الكتاب فقد خصصه ابن شداد للحديث عن صلاح الدين وفتوحاته, ولكنه سجَّل في ثنايا ذلك, بوصفه شاهد عيان, الكثير من الوقائع التي تكشف عمق التزامه بأخلاق الفروسية وآدابها معأعدائه, حتى وهو في ذروة انتصاراته عليهم. صلاح الدين وأسرى حطين : ــ بعد انتصار صلاح الدين على الصليبيين في معركة حطين (1187م/ 5833هـ( أمر أن يُعامل الأسرى منهم معاملة طيبة, وأن توفر لهم كل أسباب الراحة في الأماكنالتي تم اعتقالهم فيها ، كما استقبل صلاح الدين في خيمة خاصة في حطين ـ بعيد المعركة ـعددا من كبار الأسرى الصليبيين ، وفي مقدمتهم الملك الصليبي, واسمه جاي لوزجنان،وأرناط أمير حصني الكرك والشوبك. فحياهم صلاح الدين في لطف وبشاشة ، وعندما لاحظصلاح الدين ما حلَّ بالملك من ظمأ وخوف وإرهاق أمر أن يُقدم له الماء المثلج ، وشرب الملك حتى ارتوى ، ثم أعطى الماء إلى أرناط, الذي كان يجلس إلى جانبه, فشرب هذابدوره. وهنا اعترض صلاح الدين على تصرف الملك, وقال للمترجم قل للملك : إنه " لم يأخذمني في سقيه إذناً ، فليس له مني أمان" ذلك أن صلاح الدين كان قد أقسم يمينا قبل عدةسنوات بأن يقتل أرناط إذا ما وقع بيده يوما ما, وذلك عقابا له على ما اقترف منجرائم بحق العرب والمسلمين, فمن المعروف أن أرناط, كان قد أغار أكثر من مرة علىقوافل الحجاج والتجار المسلمين ، وألحق بهم أفدح الأضرار, بل بلغت به الوقاحة أنهحاول أكثر من مرة غزو الحرمين الشريفين في مكة والمدينة, لضرب المسلمين في أعزمقدساتهم. ودارت الأيام ووقع أرناط في أسر صلاح الدين في حطين ـ كما أشرنا ـ ولهذافعندما أعطى الملك جاي الماء لأرناط تنبَّه صلاح الدين لقواعد الضيافة والفروسيةعند العرب المسلمين, والتي تقول بأن الإنسان إذا قدم الطعام والشراب للأسير فإن ذلك معناه الإبقاء على حياته ، وبالتالي لا يجوز له قتله ، وهذا يفسر لنا كيف بادر صلاح الدين إلى التأكيد على أن أرناط شرب دون إذنه ، ثم التفت صلاح الدين إلى أرناط وأخذيذكره بجرائمه وغدره وانتهاكه لقواعد الدين والشرف والفروسية. والمدهش أن أرناط كان يرد على صلاح الدين, وهو تحت رحمته, بوقاحةووحشية بالغتين, فسل صلاح الدين سيفه وأطاح برأسه ، ولاحظ صلاح الدين أن الملكالصليبي أخذ يرتعد خوفاً لأنه ظن بأنه سيلقى المصير نفسه, غير أن صلاح الدين وضعيده على كتفه ، وطمأنه بأن آداب الفروسية تقتضي ألا يقتل الملوك الملوك ...ولكن هذا الرجل, أي أرناط, قد تجاوز حده فجرى عليه ما جرى ، ويهمنا أن نؤكد أن صلاح الدين أطلق سراح الملك الصليبي الأسير بعد أن أقسم على الأناجيل بألايُشهر سيفا بعد الآن ضد المسلمين, وأنه سيتوجه إلى الساحل ، ويُبحر من هناك عائدا إلىبلاده, فصدَّق صلاح الدين ما أقسم عليه فزوده بعدد من رجاله لحراسته حتى وصوله إلى الساحل, ولكن ما كاد جاي يصل إلى طرابلس, حتى التقى بأحد رجال الدين الصليبيين الذي أجاز له التحلل من اليمين التي قطعها لصلاح الدين, بحجة أنه تمَّ أخذه تحت الضغط ، ولأنه قطعها لشخص غير مسيحي, ولهذا تعتبر في نظر الكنيسة يمينا باطلة. وبذلك وجد "جاي" في فتوى هذا الكاهن سندا (شرعيا) لكي يحنث بيمينه وينكث بوعوده لصلاح الدين ، وانتهى الأمر بأن استأنف جاي الحرب ضد صلاح الدين, ويُعدُّ سلوك هذا الملك المخلوعنموذجا (لفروسية) معظم الملوك والأمراء الصليبيين...! ومن الوقائع المذهلة, فيما نحن بصدده, هو ما جرى بين السلطان صلاح الدين والأمير الصليبي باليان, حاكم الرملة ، فقد كان هذا الأمير قد فرَّ من حطينقبيل هزيمة الصليبيين بقليل, ولجأ إلى مدينة صور, في حين كانت زوجته في القدس ، وبعدانتصار صلاح الدين في حطين وقبيل زحفه إلى القدس لفتحها طلب باليان من صلاح الدينأن يسمح له بالذهاب من صور إلى القدس لإخراج زوجته منها, ووعد بألا يحمل سلاحا ضده وألا يبيت في القدس إلا ليلة واحدة ، فوافق صلاح الدين, ولكن ما حدث أنه عندما وصل باليان إلى القدس أمسك به الصليبيون وألحوا عليه بالبقاء ليتولى الدفاع عن المدينة ضد صلاح الدين, لاسيما أن ملكهم جاي لوزجنان كان قد وقع أسيرا في حطين. ووجد باليا ن ننفسه في مأزق خطير, فهو فارس صليبي وعلى دراية بآداب الفروسية, فقد وعد صلاح الدينبعدم حمل السلاح ضده, ولهذا فإذا خضع لرغبة الصليبيين في القدس فإنه سيكون, والحالة هذه, ناكثا بوعده ومخالفا لقواعد الفروسية. ولم يجد باليان حلا لهذا المأزق الأخلاقي سوى التوجه بنفسه لمقابلة السلطان وذلك لاستشارته فيما ينبغي أن يفعل ،علما أن السلطان صلاح الدين كان وقتئذٍ يستعد لحصار القدس تمهيدا لفتحها. وبالفعل التقى باليان السلطان الذي أعجب بأخلاق هذا الفارس الصليبي وأحلَّه من التزامهويمينه, وقال له : إذا كان الواجب يفرض عليك البقاء في القدس وحمل السلاح فافعل ذلك. وتجلَّت فروسيةُ صلاح الدين بصورة أكثر روعة عندما هيأ لزوجة باليان الحراسة اللازمة لإيصالها إلى مدينة صور ؛ لانشغال زوجها باليان بتنظيم مسألة الدفاع عن القدس ضد صلاح الدين..!! قد يتساءل البعض هل ما نرويه حقيقة؟ أم خيال؟ والواقعأن ما فعله صلاح الدين هو ما كانت تُمليه عليه مُثل الفروسية وآدابها, وفي الوقتنفسه يبدو أن صلاح الدين قد أعجب بهذا الفارس الذي كان يندر وجود أمثاله بينالأمراء الصليبيين ، ولهذا لم يكن صلاح الدين, كما يقول أحد الباحثين, يرفض طلبالفارس يتمسك بأهداب الشرف وآداب الفروسية ، وإن كان من أشرس أعدائه. :سلام لأسرى القدس ــ وعالج صلاح الدين مسألة أسرى القدس بشهامة ونبل لا حدود لهما, فمنالمعروف أن صلاح الدين كان قد فتح القدس صلحًا (1187/583), حيث سلَّم الصليبيون المدينة له دون قتال بعد توقيع اتفاقية صلح, اشتملت على السماح للصليبيين بمغادرة القدس بسلام حاملين معهم كل أموالهم; ولكن بشرط أن تُدفع فدية قدرها عشرة دنانير عنكل رجل وخمسة عن كل امرأة ودينار عن كل طفل. ومنحت الاتفاقيةُ الصليبيين مهلةأربعين يوما ليتدبر كل منهم الفدية المطلوبة منه ، كما اشتملت الاتفاقية على احترامالأماكن المقدسة المسيحية في القدس ، وعلى السماح للأوربيين بالحج إليها. وبناء علىهذا فقد تمَّ إطلاق سراح الآلاف من الصليبيين ، ولكن عندما انقضت المدة المحددة كانلا يزال هناك آلاف من الصليبيين الفقراء الذين عجزوا عن دفع الفدية عن أنفسهم، واحتشدوا على أبواب القدس يتوسلون السلطان صلاح الدين والفرسان المسلمين. وهنا تجلَّت فروسيةُ السلطان بأروع صورها, حيث وافق على اقتراح باليان بأن يتم إطلاق سراح سبعة آلاف من الصليبيين الفقراء مقابل مبلغ إجمالي قدره ثلاثون ألف دينار, أيغدت فدية الرجل نحو أربعة دنانير بدلا من عشرة. كما لبى صلاح الدين رغبة أخيها الموافقة على إطلاق سراح ألف أسيرمن الصليبيين الفقراء دون فدية, ونزل على رغبة بطريرك القدس الصليبي في إطلاق سراح سبعمائة أسير من الصليبيين الفقراء دون فدية. ومما يضاف إلى ذلك أن صلاح الدين لبىرغبة باليان, مرة أخرى, بإطلاق سراح خمسمائة من الصليبيين الفقراء دون فدية ، وأمربإطلاق سراح جميع الأسرى الصليبيين المسنين رجالا ونساء دون فدية, ثم وافق على طلب النساء الصليبيات اللواتي افتدين أنفسهن بأن يطلق سراح ما كان لهن في الأسر من أزواج وأبناء وآباء, كما أمر أن تقدم للأرامل واليتامى منهن المساعدات المالية منخزائنه قبل سفرهن إلى بلادهن. والواقع أن المرء ليُدهش إذا ما قارن موقف صلاح الدين من الأسرىالصليبيين في القدس, بموقف الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد من الأسرى المسلمين في عكا بعد ذلك بأربع سنوات, حيث أمر ريتشارد بذبح أفراد الحامية الإسلامية في عكاعن بكرة أبيها (1191), على الرغم من العهود التي قطعها لهم بتأمينهم على حياتهم، وكان عدد أفراد هذه الحامية (2700) من المقاتلين المسلمين, كما أمر بذبح نسائهم وأطفالهم إلى جوارهم ! هذه هي (الفروسية) الغربية كما مارسها واحد من أعظم ملوكالغرب في العصور الوسطى.. ويشهد الباحثون الغربيون أنفسهم بالمعاملة الطيبة ، التي عامل بها صلاح الدين الصليبيين عندما دخل القدس, حيث منع الاعتداء على أي منهم, بل شكَّل مجموعات من الحراس المسلمين مهمتها أن تجوب شوارع المدينة لتمنع أي عنف أو أعمال انتقامية قد يتعرض لها المسيحيون, وسمح للمسيحيين العرب بأن يعودوا إلى منازلهم في القدس، ويتمتعوا بالحقوق التي كانت لهم قبل أن يقوم الصليبيون باضطهادهم وطردهم منها عنداحتلالهم لها عام 1099. كما أظهر صلاح الدين عندما فتح القدس احترامًا بالغًا للأماكنالمقدسة المسيحية ، فعندما طلب منه بعض المسلمين هدم كنيسة القيامة, انتقاما لماارتكبه الصليبيون بحق الأماكن المقدسة الإسلامية عندما احتلوها, رفض صلاح الدينطلبهم رفضًا قاطعًا, بل ضاعف من الحراسة على الكنائس وغيرها من أماكن العبادةالمسيحية ، ويقارن الباحثون هذه المواقف النبيلة للسلطان تجاه الصليبيين عندما فتحالقدس بما فعله الصليبيون عند احتلالهم لها قبل ثمانية وثمانين عاما, حيث افتخرأمراؤهم بأنهم استباحوا المدينة (المقدسة) وأعملوا فيها السلب والنهب, واقتحمواالمنازل والمساجد يقتلون ويذبحون, وأنهم خاضوا حتى ركبهم بدماء المسلمين التي سالتفي شوارعها أنهارًا. والأمر اللافت للنظر أن الأسرى الصليبيين الذين منّ عليهم صلاح الدين وأطلق سراحهم دون فدية تعرضوا للأذى على أيدي صليبيي الساحل, أي على أيدي إخوانهم في الدين ، فقد رفض الأمراء الصليبيون في طرابلس وإنطاكية وصور استقبال هؤلاء الأسرىفي مدنهم, بل قاموا بنهب ما تركه لهم صلاح الدين من مبالغ مالية. كما أن أصحاب السفن الأوربية رفضوا نقل هؤلاء الأسرى الفقراء, من السواحل الشامية والمصرية, إلىأوطانهم قبل أن يدفعوا لهم أجورا باهظة, مما اضطر رجال صلاح الدين إلى التدخلوإجبار أصحاب هذه السفن على نقلهم مجانا. وتحدث المؤرخون المعاصرون عن الموقف النبيل الذي اتخذه السلطان صلاح الدين من بطريرك القدس الصليبي ، فقد لبى رغبته, كما أشرنا, بإطلاق عدد من الأسرىالصليبيين الفقراء دون فدية. كما سمح له بأن يغادر القدس بكل ما يملك من ثروات, بلوزوده بحراسة خاصة للوصول إلى صور دون أن يزعجه أحد. وافتدى البطريرك نفسه بعشرة دنانير فقط, ويقول ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ): إن البطريرك خرج ومعهمن أموال الكنائس (ما لا يعلمه إلا الله تعالى). ويبدو أن ذلك أثار استغراب عدد منرجال صلاح الدين, ولا سيما عندما رأوا رؤية العين البطريرك يغادر القدس مصحوبا بعدةعربات مُحمَّلة بالذهب والطنافس والأواني المصنوعة من المعادن النفيسة ، ويبدو أن أحدالمستشارين قال لصلاح الدين : "إن البطريرك ينقل أموالا لا تقل قيمتها عن مائتي ألفدينار ، وقد سمحنا لهم بحمل متاعهم ، وأما خزائن الكنائس والأديرة فلا يجوز تركها لهم" فأجابه صلاح الدين بأنه لن يغدر بالبطريرك إطلاقا, وأنه ملتزم بالمواثيق والعهودالتي قطعها مع الصليبيين, وأنه لن يسمح لأحدٍ بأن يتهم المسلمين بحنث العهودوالوعود ، وأن الصليبيين لن ينسوا ما نغمرهم به من عطف وإحسان. صلاح الدين يكرم النساء الفرنجيات : ــ وفي غمرة انتصارات صلاح الدين على الصليبيين عامل النساء الصليبياتمعاملة كريمة, وفي مقدمتهن زوجات الأمراء الذين حاربوا ضده في حطين، فبعد حطين مباشرة أعطى صلاح الدين الأمان لأميرة طبرية, واسمها أشيفيا, وعاملها بعطف ورفق ،وخرجت بأولادها وأصحابها وأموالها آمنة مطمئنة وسيرها إلى زوجها ريموند أميرطرابلس. وعندما دخل صلاح الدين القدس أطلق سراح الملكة سيبيللا, زوجة الملك الصليبي جاي لوزجنان, وأذن لها أن تلحق بزوجها ، كما سمح لها بأن تأخذ معها كل ما كانت تملكه من ذهب ومجوهرات ونفائس, فضلا عن أتباعها من الرجال والنساء. كما عامل صلاح الدين أرملة أرناط باحترام كبير, حيث أطلق سراحها, وسمح لها بالخروج من القدس مع أتباعها ،كما استجاب لرغبتها بإطلاق سراح ابنها من الأسر بعد أن فتح شقيقه العادل حصني الكرك والشوبك. وأكرم صلاح الدين عندما فتح القدس, على قول ابن الأثير, النساء الروميات(البيزنطيات) اللواتي كن قد ترهبن ،وأقمن في المدينة ومعهن الخدم والحشم. علما أنبعضهن كن زوجات لملوك بيزنطيين ، وقد أعطاهن صلاح الدين الأمان ، وسيرهن إلى بلادهن تحت حمايته ومعهن كل ما يتعلق بهن. عطفه على الشيوخ والأطفال : ــ ولم تقتصر فروسية صلاح الدين على الرجال والنساء وإنما شملت الشيوخوالأطفال, من ذلك ما ترويه المصادر من أن العرب المسلمين كانوا قد أسروا في بيروتعام (1191/ 587), نحو خمسة وأربعين فرنجيا وبعثوا بهم جميعا إلى صلاح الدين الذيكان يحارب الصليبيين في ضواحي عكا ، ويقول ابن شداد الذي كان شاهد عيان على هذهالواقعة : "وقد شاهدت منه رقة ورحمة في ذلك اليوم لم ير أعظم منها رحمة, وذلك أنه كانبين الأسرى شيخ طاعنٌ في السن ولم يبق في فمه ضرسٌ, ولم يبق له قوة إلا مقدار مايتحرك بها لا غير ، فقال السلطان للترجمان: سله ما الذي حملك على المجيء وأنت في هذهالسن؟ وكم من ههنا إلى بلاده؟ فقال: "أما بلادي فبيني وبينها عشرة أشهر, وأما مجيئي فإنما كان للحج إلى كنيسة القيامة ، فرق له صلاح الدين ، ومنَّ عليه وأطلقه وأعادهراكبا على فرس إلى عسكر عدوه". ويروي ابن شداد أيضًا قصة مفادها أن أحد المسلمين اقتحم خيمة للصليبيين واختطف منها طفلاً فرنجيًا رضيعًا عمره ثلاثة أشهر, ولمَّافقدته أمه باتت طوال الليل تستغيث فنصحها الأمراء الصليبيون بالخروج إلى معسكر صلاح الدين وقالوا لها : إنه ذو قلب رحيم ولن يرد طلبها. وبالفعل خرجت المرأة الفرنجية ووصلت إلى صلاح الدين وبكت بكاء شديدًا, فسأل عن قصتها, فأخبروه فرقَّ لها ودمعتعينُه ، وأمر بالبحث عن الطفل وإحضاره فورا, وظل صلاح الدين واقفا حتى أحضر الطفل وسُلّم إلى أمه وأرضعته ثم أمر صلاح الدين أن تحمل على فرس وتلحق بعسكر الفرنج معطفلها, وسط إعجاب الناس ودهشتهم وذهولهم من شهامته ورحمته. قصته مع قلب الأسد : ــ كان الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد قد شارك في الحملة الصليبيةالثالثة (11899-1191) التي استهدفت استرداد ما فتحه صلاح الدين ، ودارت معارك طاحنة بين ريتشارد وصلاح الدين,وقد حاول ريتشارد الوصول للقدس ولكنه فشل فشلا ذريعا, ومنثم اضطر إلى توقيع صلح الرملة مع السلطان عام 1192, وغادر بعدها فلسطين عائدا إلىبلاده. ولكن ما يهمنا من هذه الأحداث هو مواقف صلاح الدين الإنسانية من عدوه ريتشارد ، فتذكر بعض المراجع أن صلاح الدين سمع أن ريتشارد قد فَقَدَ حصانه في معركة يافا (عام 1191), فبعث إليه جوادين من أفضل الجياد, لأنه رأى أنه لا يليق بفارس مغوار مثله أن يقاتل رَاجِلاً. كما تحدثت المصادر كثيرًا عن موقف صلاح الدين منريتشارد عندما سقط الأخير مريضا (1192), فيقول المؤرخون : إن ريتشارد بعث أثناء مرضهيطلب من صلاح الدين الفاكهة والثلج والكمثرى والخوخ.. ولم يتردد السلطان في تلبيةرغبته على الفور حيث أمده بكل ما يحتاج إليه في مرضه. واغتبط ريتشارد من نبل وشهامة صلاح الدين, وأخذت رسُله تتردد على مقر السلطان لتقديم الشكر والامتنان بالنيابة عنه ، وهناك رواية تقول : إن صلاح الدين حزن حزنا شديدا على ريتشارد في بعض مراحل مرضه ،وأنه أرسل له طبيبه الخاص, الذي نجح في علاجه وشفائه. لقد كان صلاح الدين خير ممثل للفروسية العربية الإسلامية في عصر الحروب الصليبية, فقد كان ينبوعا من الشجاعةوالكرم والعطف والوفاء والتسامح والعدل, وقد انتزع بفروسيته احترام الغرب وتقديره، وإذا كان معظم الكتاب الغربيين يعترفون بأنه كان أنبل عدو عرفه الغرب عبر تاريخها لطويل, فإن الفرسان الغربيين كانوا يتمنون لو أن صلاح الدين كان مسيحيا. هذه هي بعض صور الفروسية العربية الإسلامية في عصر من أشد عصور تاريخنا اضطراباً وقلقاً... ومن واجبنا ألا نسمح لقيم هذه الفروسية وآدابها بأن تموت أبدا, وألا نحمل أحدا على ىتجاهلها,بل ينبغي علينا إحياؤها وتمثلها, في ثقافتنا وسلوكنا, في عصر يفتقد الكثيرمن تلك الآداب والقيم.


٢٣٨ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page